ليس من الحكمة أن نغفل الفرق بين الواقع والخطاب ، كما ليس من العلم في شيئ أن نعزل الخطاب عن الواقع .
فسوريا الواقع الذي تكون بعد الإحتلال الفرنسي لهذا الجزء الأكبر من بلاد الشام ، ينطوي على تعدد أديان ، أهمها الإسلام والمسيحية ، فضلاً عن أتباع دينين صغيرين هما اليهودية والأزيدية ، والأسلام بدوره يتكون من سنة وهم العدد الأكبر من السكان ، والعلوية والدروز والإسماعيلية والمرشدية ، والمسيحية تكون من الأرثوذوكس والكاثوليك والبروتستانت و الموارنة . وفي سوريا أقوام سورية كثيرة أهمهم العرب وهم من جميع الأديان ، والكرد ، والتركمان والأرمن والشركس . ويشكل العرب أكثرية السكان .
وكل هؤلاء بدياناتهم وقومياتهم وطوائفهم هم سوريون ، وإذا أضفنا إليهم أكثر من نصف مليون لاجئ فلسطيني يشعرون بالإنتماء إلى سوريا بحكم المشيئة والقانون صار لدينا مجتمع سوري فيه أغلبيتان الأغلبية العربية ذات التنوع الديني والطائفي ، والأغلبية السنية ذات التنوع الإثني .
فالعلويون والدروز والإسماعيليون والجزء الأكبر من السنة والجزء الأكبر من المسيحيين ينتمون إلى الأكثرية العربية ، و الأكراد و الشركس و والأكثرية العربية ينتمون إلى الأكثرية السنية . إذاً إن الإثنيات و الفرق الدينية التي لا تنتمي إلى الأكثرية صغيرة جداً .
فطائفة صغيرة كالعليويين تنتمي إلى الأكثرية الإتنية ،والأكراد أقلية إثنية تنتمي إلى الأكثرية الدينية ، فيما السنة أكثرية دينية و إثنية معاً .
هذا وصف موضوعي لا علاقة له بالشعور المتولد عن هذا الواقع و لا بالمشاعر الناتجة عن الوضع الإجتماعي والسياسي ، ولا علاقة له بالشعور الذاتي ولا بشعور كل طرف باتجاه الآخر .و فوق هذا وذاك هناك الصفة الجامعة وهي السوري .
الآن ما هي أنواع الشعور المتوالدة من هذا الواقع في تنوعه الإثني والديني والطائفي ؟لقد عاش هذا التنوع دون أية أيديولوجيا ناتجة عنه ، ودو ن أية سلطة سياسية متولدة منه ودون أي تمايز في الحقوق والواجبات فترة طويلة منذ الإستقلال وحتى السبعين من القرن الماضي كان هذا التنوع حالة طبيعية مرتبطة بجملة طقوس وعادات تنتج شعوراً بالإختلاف غير تناقضي أو تضادي ، وبالتالي تكون مجتمع على حال من التعايش السلمي وانتصار الهوية السورية . وقد حاول رواد الإستقلال السوري جعل هذا التنوع طبيعياً دون أية تمايزات بالحق . فللمسيحيين محاكمهم الشرعية كما للدروز ، و مؤسسات الدولة تعطل في جميع الأعياد الإسلامية والمسيحية ، وليس هناك تقسيم لوظائف الدولة حسب الطائفة والعرق ، أمران لم يحصلان :1- اللغة الكردية لم تتحول إلى حق في التعليم ولا أعياد الأكراد كعيد النيروز صار عيداً وطنياً . ودين رئيس الدولة هو الإسلام ، وهذا نوع من التمايز في الحق بين المسلم والمسيحي ، لكنه لم يصل وعي ذلك حد الشعور العدواني .
ولم يشهد المجتمع السوري منذ الإستقلال حتى السبعينات أشكالاً من الصراع الطائفي والإثني أو شعوراً حاداً بالغبن الطائفي أو الإثني . وبالتالي كان الشعور بالإنتماء إلى الأقلية أو إلى الأكثرية غائبا بوصفه وعياً بالتناقض . باستثناء وعي أكراد الشمال السوري الذين كانوا يشعرون بالغبن لتعريب أسماء قرى ، و لفكرة الحزام العربي و وجود البدون جنسية .
مع انقلاب 16 تشرين عام 1970 الذي قاده وزير الدفاع ضد الحزب الحاكم وقيادته راح يرتب السلطة على نحوٍ يحول دون حصول أي انقلاب آخر ، فعوّل على العصبية الحزبية شكلاً ، و الطائفية في الجيش والأمن مضموناً ،مع احتكار القوة ،ولم نعدم وجود شخوص سياسية أو عسكرية شكلية اعتقاداً منه بضرورة الواجهة السنية التي تخفي الفعل الطائفي العميق .
ومع تمرد حركة الأخوان المسلمين ” الطليعة المقاتلة ” واتباعها اُسلوب القتل الطائفي للمدنيين والعسكريين العلويين بدأت العصبية العلوية تأخذ شكل التلاحم ضد الخطر الإخواني ، فنشأ شعور الإحساس بالإنتماء إلى الأقلية ، وزال الإختلاف الذي نشأ بفعل ازاحة صلاح جديد وسجنه ، والذي كان أكثر إحساساً بخطر هيمنة العسكر الطائفي ، ثم جرى التخلص من الضابط البعثي الألمع محمد عمران اغتيالاً والذي كان يلتف حوله جيل من الضباط بل ونشأ مفهوم الأقلية بدلالته السياسية . وعوضاً عن أن يؤدي الصراع مع الأخوان إلى الإنتباه الى الخطر الطائفي وتغيير رؤية الجماعة الحاكمة للسلطة في سوريا ازداد الصلف الطائفي ،و أدى انتصار القوة المسلحة للنظام على القوة المسلحة للإخوان إلى تغول لا نظير له للأمن في حياة الناس ، و استن النظام الموافقات الأمنية التي وصلت حد التدخل في طقوس الأعراس والسماح بها .
وشيئاً فشيئا أصبحت حياة الأكثرية السنية بخاصة و حياة جماعات صغيرة من الأقليات في توتر دائم، و مع الأيام نشأت عقلية الطائفة الحاكمة ، والمجتمع المحكوم ، بما يتضمنه ذلك من تقية لم يبق أحداً من غير العصبية الحاكمة لم يمارسها بهذا الشكل أو ذاك . بل إن العلوي صار ،مع الأيام ، روح النظام .
لقد تحولت القوة الطائفية الحاكمة إلى قوة مستقلة بصورة أكثر ما كان يفكر بها رأس السلطة ، إذا صارت ذات منطق مستقل جدا ، فالقوة تولد القوة ، وتوزعت القوة بوصفها حقاً للعصبية الحاكمة التي يمكن لها منح فضلات قوة للآخرين إن شاءت .
و من سوء حظ سوريا ، إن النخبة العلوية المثقفة والفاعلة التي تكونت بفعل التطور السوري الطبيعي قبل الإنقلاب ، قد فقدت مكانها الطبيعي في المجتمع أمام طغيان النخبة العسكرية والأمنية ، ذات العقلية الريفية التى ترى في تجاوز القانون والأعراف حقاً طبيعياً لمالك السلطة .
لم يعد هناك دولة ، فرجال الأمن انطلقوا من استراتيجيا القمع المطلق لأية ظاهرة يشتم منها معارضة النظام ،سجناً وإعداما ًو اغتيالاً ، وسيطرةً على مفاصل الدولة المهمة بما فيها المفاصل الإدارية المرتبطة بحياة الناس اليومية . وبعد تناسل العائلة نشأت ظاهرة العائلة الحاكمة و استطالاتها الناتجة عن صلة الرحم ، و نشأ معها الإعتراف العلوي بها كضامنة لاحتكار القوة .
وهكذا حصل النكوص التاريخي في سوريا و الذي لا مثيل له في تاريخها القديم والمعاصر .
لقد ارتبطت حالة الطغيان الصلف للجماعة الحاكمة بحالة من سرقة المال العام لم يسبق لها في تاريخ البلدان المعاصرة ، و دون أي التفاتة للرأي العام أو للقيم الجماعية ، مع اطمئنان إلى إن السلطة في أمان مطلق من المجتمع الذي تحطم سياسياً ومدنياً و معيشياً ، وهذا ما ولد تفاوت طبقي من نمط جديد ، ناتج عن تراكم ثروة الفساد من كل أنواع الفساد والذي ولد بدوره طبقات فاسدة من كل الطوائف .
كان هناك وعي علوي طائفي بالمأزق الذي صنعه حافظ أسد للطائفة ، و أدركت الجماعة الحاكمة أجهزتها الأمنية حجم الأحقاد التي تراكمت لدى المجتمع بشعور طائفي مضاد ، لكن التفكير لم يصل بأجهزة السلطة الأمنية حدَ البحث عن مخرج تاريخي يتم شيئا فشيئا لاستعادة الطبيعي والمنطقي والتاريخي ، مع الإحتفاظ بما أنجز اجتماعياً وطبقيا ، للخروج من هذه الورطة التاريخية ورطة حكم أقلية طائفية وبمنطق لأكثرية مجتمعية .
بل على العكس ، فإن الوعي التاريخي المتأخر للجماعة الحاكمة ذهب مذهب القوة القادرة على تكسير رأس التاريخ ، وتجهيز أعلى درجات استخدام القوة عند الضرورة ، مع تفريغ المجتمع من أية عناصر قوه مدنية أو طبقية ، أو ثقافية ، أو إقتصادية . إذ رأى الفاعلون من الأسرة الضيقة و الحلقة الأضيق حولها أن مجتمعاً خاوياً من قوى اجتماعية منظمة مدنية ، ومن تنظيم سياسي ، و مع وجود إسلام مؤسساتي سني قابل للشراء ، وطبقة ثرية فاسدة متحالفة معه فضلاً عن وجود قوة عسكرية أمنية وقوى طائفية احتياطية شروط كافية للإحتفاظ بالسلطة الى ما لانهاية .
غير إن الترهل في العصبية الحاكمة وقواها العسكرية والأمنية ، وتنامي الأحقاد المجتمعية سواء كانت أحقاد طبقية أم أحقاد طائفية ، فضلاً عن الرفض المدني لهذا النمط المتخلف من الحكم والسلطة والشروط العربية والعالمية ، كل ذلك قد مهد لانفجار الثورة بكل أشكالها ، وتطورها اللاحق .
و واقعة وجود سلطة لا تعترف بالمجتمع وحقوقه و مجتمع لا يعترف بالسلطة وشرعيتها ، وانفجار المجتمع في وجهها و استخدام السلطة للعنف الهمجي غير المسبوق في تاريخ البشر ظهرت كل أشكال الولاءات وخطاباتها و منها خطاب الأكثرية والأقلية ذات الطابع القومي والديني والطائفي و المتناقض مع خطاب الأكثرية والأقلية السياسي الذي مازالت تطرحه القوى الديمقراطية في ظل استعار المعركة حول مصير سوريا ، وهو الخطاب المطابق لمستقبل السوريين وحياتهم المعشرية ، وهو الخطاب الذي تخشاه السلطة و تخشاه القوى السلفية أصلاً . فالإعتراف بالتنوع السوري يجب أن يقود إلى خطاب الأكثرية السياسية التي تختزن في ذاتها كل التنوع والأقلية السياسية التي تكون بدورها حاضنة لهذا التنوع ، فضلاً عن الإعتراف المتبادل ، وعندها وعندها فقط لا تظل الأكثرية أكثرية ، ولا الأقلية أقلية عبر السيرورة السياسية والثقافية للمجتمع السياسي .
Social Links: