جمال سعيد
لنترك جانباً مطالبة قوى الاستبداد الديني باستبعاد الديمقراطيه، ولنتابع أسئلة مهمة طرحها باحثون وساسة حول الحامل الاجتماعي والتاريخي للديمقراطية في سورية، ويمكن أن نكثف تلك الأسئلة بالسؤال الطويل التالي: بافتراض أن الدعوة إلى الدولة الديمقراطية هي الدعوة التي لا يأتيها الباطل من أمامها أو من خلفها، فما هي القوة التي يمكن أن يعتمد عليها المجتمع السوري لإقامة هذه الدولة في ظل المد الديني (الإسلامي على نحو خاص) بصفته منظماً ومسلحاً، وذو تاريخ حافل بالتضحيات في سياق السعي لإقامة شكل من أشكال دولة الخلافة، ويتمتع بدعم إقليمي، لا يجاريه فيه إلا النظام، لا سيما وأن الديمقراطية ترتبط “بالقوانين الموضوية الأرضية” أي بالعلمانية التي يشاع أنها “كفرخالص”، أو التي تعتبر على نطاق واسع “علاك مثقفين”. بل ثمة من يرى أن الديمقراطية فكرة مستوردة لا يمكن أن تتماشى مع بيئتنا الثقافية. من الواضح أن طرح هذه التساؤلات جزئياً أو كلياً، وعلى هذا النحو ليس بريئاً تماماً، فهو يذكر في المحصلة بشعار: “الإسلام هو الحل”. ويمكن أن نناقش التجربة السورية في جانب مهم منها، بتناول تلك التساؤلات التي تمثل وجهة نظر ، أكثر مما تدل على خواطر بريئة .
_ 1 _
عاشت سورية تجربة ديمقراطية بعد الاستقلال في الفترة بين 1954 -1958 ، ثم في فترة الانفصال. ومع أنها فترات قصيرة لم تكرس تقاليد ديمقراطية راسخة بسبب انقضاض ضباط المد القومي (ناصر والبعث) على التجربة الديمقراطية .
تكرّس إلغاء الديمقراطية في الحياة السياسية ، وتم وأد مشاريع التطور الطبيعي للمجتمعات في ظل حرية التعبير، على أيدي الشموليين العرب ، الذين أمسكوا بإحكام بالسلطة السياسية في البلاد، أو السلطة الحزبية داخل أحزابهم، أو السلطة الدينية داخل سلكهم الكهنوتي ومع رعاياهم، ورُفعت شعارات : من تحزب خان، والديمقراطية ألعوبة إمبريالية، أو الديمقراطية فكر مستورد ، أو من لديه دستور إلهي لا يحتاجإلى دستور أرضي إلخ.. وعلى نطاق أنظمة الحكم حلّ ما سمي “الديمقراطية الشعبية” التي أضحت أسماً حركياً للدكتاتورية في بلدان المنظومة الاشتراكية وبلدان منطقتنا في مطلع سبعينيات القرن الماضي، (سوريا، ليبيا، الجزائر، مصر، السودان، العراق، الصومال “تبع محمد زياد بري” وغيرها) والتي تحول رؤسائها العلمانيين الدائرين في فلك الديماغوجيا الإشتراكية لاحقاً – في الثمانينيات- إلى “رؤساء مؤمنين” تكيفوا مع المد الإسلامي الذي اكتسب المزيد من الزخم بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وازداد عنجهية وغطرسة بعد الانتصار الذي حققته القاعدة على النظام الشيوعي في أفغانستان. وشهدت سورية كما يعرف الجميع غزلاً بين الدكتاتور الأب والإسلام تجلى بأشكال مختلفة لعل أبرزها سلسلة معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم. ونذكر جميعاً كيف غازل الابن الحركة الدينية بعيد انطلاق المظاهرات الشعبية بإعادة المنقبات إلى التدريس، وإطلاق فضائية إسلامية، وإطلاق المعهد العالي للعلوم الإسلامية .
_ 2 _
لا يوجد في سورية حتى اليوم قوى ديمقراطية فاعلة، لأسباب عديدة من بينها: ترافق انطلاق الثورة السورية مع المد الإسلامي ومرحلة “صراع الحضارات” التي تجلت بمد إرهابي وحروب وقحة تمتد من أحداث 11/9 ونشاط أبو سياف إلى بيع النساء على يد داعش وبوكو حرام، ومن حرب العراق وحرب أفغانستان إلى حرب اليمن، وفي السياق: يلاحظ تطور فعل تنظيم القاعدة في منطقتنا، وبروز حركة دينية رفدها قرار “اجتثاث البعث” في العراق بكوادر صدام العسكرية والاستخباراتية. وقد حدّ من تطور نشاط القوى الديمقراطية: التواطؤ مع الحركة الدينية، التي أمل الديمقراطيون والعلمانيون التفاهم معها، بعد سقوط النظام (الذي بدا وشيكاً عام 2011)، والقمع العاري الذي مارسه النظام على المجتمع مستخدماً وسائل وأساليب وميليشيات منحطة، وردود الأفعال المماثلة، والانتقال إلى صراع مسلح يتحكم فيه حملة السلاح الذين يملكون ما يكفي من الانحطاط الأخلاقي الذي أضحى موضع فخر وتنظير، ثم استنقاع الصراع ضمن المجتمع الذي دفع إلى السطح أسوأ ما في المجتمع من أحقاد طائفية وقومية .
ترافقت تجسدات الصراع المسلح في سورية مع تدخل دولي وإقليمي من بين نتائجه: إفساد الثورة السورية بإفساد نخبها وشرائهم، أو بالتحكم في طبيعة الصراع الذي غدا مسلحاً بفرض شروط الجهة الداعمة والممولة، وصار المجتمع السوري محكوماً بمجموعة من المسلحين المعادين للديمقراطية صراحة، أو على نحو مضمر. وتركز الضخ الإعلامي على المنحى الطائفي والانتقامي، وظهرت دعوات إبادة واضحة وصريحة. وفي حين لم يكتف النظام باعتقال كل من يقوم حتى بفعل إغاثي للمناطق التي نكبتها أسلحته، ولا بالحصار والتجويع بل برر أفعاله في قتل المدنيين وعلى الملأ في أنه:” تدمير للبيئة الحاضنة للإرهاب”. واستخدم في ذلك أسلحة إبادة (الكيماوي الذي استخدم في الغوطة) دعت العديد من فصائل المعارضة من جهتها إلى إبادة العلويين انطلاقاً من فتاوى واضحة وصريحة، بل ارتكبت مجازر في وقت مبكر (عام 2013) في حق مدنيين تم قتلهم أو خطفهم بمباركة من قائد مثل سليم إدريس !! حيث تم قتل عشرات المدنيين وخطف 106 من الأطفال والنساء.(أذكر التفاصيل هنا بسبب التعتيم الإعلامي على الجريمة التي أطلق عليها اسم معركة عائشة أم المؤمنين أو معركة تحرير الساحل) .
_ 3 _
أضحت الديمقراطية (عملياً وليس نظرياً)شكل الحكم الوحيد الذي يضمن لمكونات المجتمع السوري التعايش ضمن دولة واحدة. فالمجتمع السوري مهدد بتكريس صيغة التشظي بالانقسام إلى كانتونات محكومة بصراع الهويات لا بصراع المصالح. أغلب السوريين اليوم يحتاجون إلى حماية القانون (لا إلى حماية الطائفة)–الأمر الذي تحققه دولة القانون، لا مشايخ الطوائف وأمراؤها- وتمثل دولة القانون بديلاً للخضوع إلى القوة الوقحة والمباشرة لسلاح النظام أو لسلاح المعارضة المتشددة أو لسلاح الزعران المستفيدين من واقع الحال. أغلب السوريين بحاجة إلى صيغة للدولة تبعد شبح الانتقام وتتجاوز المظلوميات الطائفية والقومية، وعلى نحو خاص ضمن ثنائيتي: (سني – علوي) و(عربي- كردي). الديمقراطية التي تتيح (تداول السلطة)، وتضمن (فصل الدين عن الدولة) تجسد الحل الأمثل للكثيرين من المستنيرين الذين يتحدرون من أبوين من السنة، ولكل من يتحدرون من أبوين من أي طائفة أخرى. الضامن الفعلي بالنسبة للسوريين هو دستور وقانون عصري يحترم العقائد والأديان كلها دون أن يخضع لأي منها. ويتيح الانتقال من عقلية الأقلية والأكثرية الطائفية والعرقية إلى عقلية الأكثرية والأقلية السياسية ( التي تتوافق على هذا البرنامج السياسي والاقتصادي والتنموي أو ذاك) .
_ 4 _
أعتقد أن قيام الدولة الديمقراطية لمصلحة السوريين، وأن الكثير من السوريين يدركون ذلك، ولكن ينقصهم التنظيم الفاعل والذي يعاني من القمع المباشر الذي تمارسه القوى المعادية للديمقراطية (النظام والقوى الإسلامية) ناهيك عن تشرد السوريين ونزوحهم والوصول إلى مرحلة : الانسحاب الكيفي وغير المنظم لأبناء المجتمع السوري من حرب يرى الكثيرون أنها ليست حربهم. ولعل تنظيم “قوة فاعلة”، على المدى الطويل، من السوريين الذين يدافعون عن كيانهم ووجودهم بدفاعهم عن دولة ديمقراطية أهم بكثير من المواقف العابرة التي تصفق أو تلعن في حرب لا تمثل توجهاتنا. يحتاج السوريون إلى الثقة (بقوة ما) بعد أن فقدت الكثير من القوى والشخصيات مصداقيتها. ويمكن أن يناصر غالبية السوريين قوة من هذا الطراز، يبقى علينا أن نسعى لتوحيد الإيقاع الضائع لأكثر الخطوات العشوائية والتي “دوخت” حرب السنوت الماضية أصحابها .
_ 5 _
شهدت سورية في العام الأول للثورة، خطابات لافتة حول المجتمع المدني الديمقراطي، تبناها إسلاميون انسحب أغلبهم لاحقاً إلى مواقع”الشرع” الذي يسفّه الديمقراطية. وحفلت بها المدن السورية بإرهاصات تنظيمية لقوى يمكن أن تمثل نواة تجمع ديمقراطي مثل: تجمع نبض، تجمع شمس، تجمع معاً، مواطنة، أحفاد الكواكبي … إلخ. ثمة تيارات تالية سواء تلك التي تأسست في الشتات ووجدت لها امتداداً في سوريا، أو تلك التي لم تتمكن من العبور إلى الداخل، أو تلك التي بقيت في الداخل وشتتها القمع. أعتقد أن السؤال المهم هو : مامدى إمكانية إعادة تفعيل التجمعات والتيارات المدنية في الخارج والداخل؟ وكيف سيتم توحيد إيقاعها السياسي،بحيث تتمكن من القيام بمواجهة مختلف قوى الاستبداد المسلحة، بعيداً عن القوى التي تم تكريسها وفقدت مصداقيتها، كالمجلس والائتلاف وأصحاب المواعظ ودروس الانشاء .
Social Links: