شاب من هذا الزمان   2-2

شاب من هذا الزمان   2-2

زكي الدروبي

حين انفجرت الثورة السورية شارك عماد رحمه الله فيها متظاهراً عادياً ثم منسقاً للتنسيقيات، بالإضافة لكونه محامياً مدافعاً عن المعتقلين، وكنت أحسده على نشاطه الدؤوب. أراني عماد رحمه الله في أحد الأيام صوراً صورها أثناء التحضير لمظاهرة في حي البياضة كانت الصور لغرفة فيها أعلام الثورة ولافتات، وحدثني بحماس منقطع النظير عن التنسيقية التي شكلها بالتعاون مع بعض أصدقائه. كنا يومها في مكتب الأستاذ منصور الأتاسي، والذي كان يقود معارضة علنية من مكتب ” هيئة الشيوعيين السوريين” في شارع حماه قبل وبعد الثورة، وكان مكتبه خلية نحل، يأتي إليه الناس من كل أطياف حمص، وكانت البيانات تصدر علنا بتوقيع هيئة الشيوعيين السوريين وتنسيقيات حمص القديمة وتنسيقية البياضة وتنسيقية الزهراء للتغيير الديمقراطي وغيرها من تنسيقيات حمص المعلنة والمخفية، وكنا أنا وعماد رحمه الله في تنسيق دائم مع الأستاذ منصور في كل صغيرة وكبيرة أثناء العمل الثوري.

طلبت من عماد رحمه الله أن يكتم هذه المعلومات ولا يخبرها لأحد حتى لو كنت أنا، فهكذا أمور يجب أن تبقى ضمن إطار العاملين فقط ولا تخرج للعلن مهما كنت واثقاً من الشخص الذي تخبره حرصاً على سلامتكم جميعاً، فأنا مثلاً مطلوب لأجهزة المخابرات وإن تم اعتقالي فمن المؤكد أنهم سيعذبونني وقد افشل في الصمود وأبوح بما أملكه من معلومات، لكنه رحمه الله لم يستمع لنصيحتي، واستمر يخبرني عن نشاطه في تلبيسة وفي الحولة وفي السويداء وفي عدة أحياء من حمص.

حين استشهد ماهر النقرور وهو أول شهيد مسيحي في حمص، وهو ممن كان ينشط مع الصديق عمر ادلبي في التنسيقيات، وفي جنازته أمام كنيسة الأربعين صرخ عماد رحمه الله حين شاهد قناة الدنيا : الإعلام السوري كاذب. فكانت صرخته الشرارة التي أشعلت الحناجر هاتفة ضد النظام منددة بقتله لشباب حمص، مطالبة بالحرية، وسارت مظاهرة من أمام الكنيسة ومشيت معهم في شوارع حمص القديمة حتى وصلت لسوق الحشيش وافترق المنظمون وما تبقى من متظاهرين وتحدثت مع المنظمين قليلاً وعرفتهم على نفسي ثم افترقنا.

حين وصلت لمكتبه رحمه الله جاء بعد قليل مخطوف اللون، وقال لي لقد اعتقلوا نجاتي طيارة من سيارتي، وقال لي: “لقموا الروسية برأسي يا ابن عمي أولاد الحرام كانوا بدهم يقوصوني”، ثم شرح لي أنه اتصل بالأستاذ نجاتي ليحدثه عن المظاهرة التي خرجت من أمام كنيسة الأربعين في حمص القديمة أثناء تشييع الشهيد ماهر نقرور، كي يتحدث الأستاذ نجاتي بها مع وسائل الإعلام التي تتصل به، واتفق معه أن يلتقيا بشارع الخراب، وكان الأستاذ نجاتي مطارداً من المخابرات ومختبئاً في مزرعة لأحد معارفه في بساتين حمص، وفعلاً ما إن وصل عماد رحمه الله للمكان اتصل بالأستاذ نجاتي وخرج له من بين المزروعات والأشجار وما إن ركب في سيارته حتى داهمهم عناصر المخابرات واعترضت سيارة من سياراتهم سيارته من الأمام، وحين حاول أن يرجع للوراء محاولاً الهرب، كان عناصر الأمن قد وصلوا له ووضعوا البندقية برأسه واخذوا بطاقته الشخصية وبطاقة زميله الذي يركب معه في السيارة واعتقلوا الأستاذ نجاتي من سيارته.

عاتبته على تهاونه الأمني وذكرته أن التلفونات مراقبة ومن المؤكد أنهم يعلمون بالصداقة القديمة بينك وبين الأستاذ نجاتي ويعلمون نشاطك السياسي السابق ومن المؤكد أنهم يراقبون كل الاتصالات.

تابع عماد رحمه الله نشاطه الثوري مع التنسيقيات، وكان أحد أهم نقاط الصلة بين حمص المدينة وبين ريف حمص بالإضافة لصلاته خارج محافظة حمص كما في علاقته مع تنسيقيات في السويداء. كما كان من بين النشطاء الأكثر تأثيرا في هيئة الشيوعيين السوريين .وكان نظّم العديد من النشطاء في صفوف الهيئة. جاءني مرة ضاحكاً وقال لي كنت في السويداء وقال لي الأصدقاء تعال أنت قادم من عاصمة الثورة، علمنا كيف نخرج بمظاهرة، فضحك وقال لهم سهلة، بعد الانتهاء من صلاة الجمعة يخرج أحدكم ويبدأ بالصياح ” الله أكبر”، فيجتمع الناس حولكم ليلبوا فضول المعرفة عن أسباب الصياح حينئذ تبدأون بهتافات الثورة والمظاهرة، وتلتزمون بوضع عيون لكم في الشوارع التي توصل للمسجد لتضمن لكم عدة دقائق للانسحاب والهرب من الأمن حين يأتون، فهذه العيون تشاهد عناصر الأمن قادمة لكم فتتصل وتخبركم ويكون لديكم فرصة الانسحاب قبل وصول الأمن، لكن المفاجأة – والحديث لازال على لسان عماد رحمه الله – كانت حين اعترض أحدهم : ” بس يا عماد نحن ما عنا صلاة جمعة”، فقلت له: “ما دخلني بتلاقوا مكان تجتمعوا فيه”.

فيما بعد طلب مني رحمه الله رفع لافتة تحية لأحرار السويداء في مظاهراتنا، وفعلاً رفعنا لافتة تحيي المهندسين والمحاميين الأحرار في السويداء والذين كانوا من أوائل من دعوا وخرجوا في مظاهرة ضد النظام.

كنت قد خرجت مع باقي زملائي في التنسيقية من حمص القديمة بعد أن اقتحمها الجيش واحتلها، وبقيت جميع التجهيزات من قماش اللافتات وميكروفونات وأجهزة الصوت وخلافه في الحي، ولم نستطع إخراجها، وكنت بحاجة لمكان لأخطط به لافتات من أجل زملائي في تنسيقية القصور والقرابيص، واتفقت مع الأستاذ منصور الأتاسي أن نخطط اللافتات في مكتبه الكائن في طريق حماه لأخرجها يوم الجمعة وأعطيها لهم، وفي الموعد المتفق عليه ذهبت إلى مكتبه حاملاً معي قطع القماش التي كنا نشتريها من مصروفنا ودخلنا الشخصي، وحين وصلت فاجئني الأستاذ منصور بخبر اعتقال عماد رحمه الله من قبل المخابرات الجوية، فسألته مستغرباً مستنكراً الخبر : متى؟ منذ قليل كلمته على الهاتف؟! فأخبرني أن الاعتقال تم في القصر العدلي عند الواحدة ظهراً تقريباً، كان رحمه الله أول المعتقلين لحملة كبيرة طالت حوالي العشرين رفيقاً لنا من حمص، وكان من ضمنهم الأستاذ منصور الأتاسي ومحمد خير غليون شقيق الدكتور برهان وغيرهم، وعلمت فيما بعد أن المخابرات احتارت في توجيه التهم لهم، فهم خليط من علويين ومسيحيين وسنة وغيرهم من أطياف حمص، وهم شيوعيون ولا يمكن اتهامهم بالإرهاب الاسلامي، ولا يمكن ربطهم بالمؤامرة الكونية والارتباط مع الخارج فجميعهم لا يملكون سوى رواتبهم التقاعدية وأغنى شخص فيهم يملك شقة ورثها عن أهله يسكن بها.

علمت فيما بعد أيضاً أن عماد رحمه الله ضرب عنصر المخابرات حين أهانه أثناء الاعتقال، وأنه صمد تحت التعذيب أثناء التحقيق ولم يعترف على أحد، إذ ومع نهاية يوم اعتقاله كنت توقعت – وأنا تقريباً آخر من تكلم معه – أن تشتد الحملة علي فهربت لبيروت، خوفاً من أن يعترف عماد رحمه الله عليّ وبالتالي هناك خوف من الاعتقال كي لا انهار أثناء التحقيق وأعترف على زملائي بالتنسيقيات، لكن بعد أن قضيت عشرة أيام في بيروت ولم أشاهد تغييراً، فلم تتكرر مداهمات مكتب والدي أو منزلي ولم أشاهد أي حركة غريبة في محيطي قررت العودة وعدت لحمص.

بعد خروجه من الاعتقال في المرة الأولى في أوائل 2012 كنت قد غادرت سورية واستقريت في القاهرة. حدثته من هاتف الأستاذ منصور حين كان بزيارة للقاهرة بعد خروجه من السكن وألححت عليه بضرورة السفر خارج سورية، فالوضع لا يطمئن وأجهزة المخابرات لن تتركه بحاله، فرفض وقرر الصمود بحمص مهما كان الثمن، واستمر بعمله الحقوقي مدافعاً عن المعتقلين إلى أن اعتقل لمرة ثانية وانقطعت أخباره ثم علمت فيما بعد باستشهاده تحت التعذيب.

لازلت حتى اليوم غير مصدق أنني فقدت توأم روحي للأبد، قد نلتقي في حياة أخرى إن كتب الله لنا الجنة، وحتى ذلك اليوم سأظل وفياً لما ناضل عماد من أجله، ألا وهو سورية دولة حرة ديمقراطية مدنية ولن أتراجع.

  • Social Links:

Leave a Reply