مخاض المصطلح الجديد (2/2) ــ إبراهيم اليوسف

مخاض المصطلح الجديد (2/2) ــ إبراهيم اليوسف

 

1 _ خارج النظرية

يحار الكاتب، وهو يقف مذهولاً أمام التداخلات الهائلة التي تجري من حوله، في المشهد الحياتي العام، محتكماً إلى معاييره الريخترية، حيث ثمة: قطبان أحدهما سالب، وثانيهما موجب، وما بينهما المعتدل، في ذبذباته  نحو الطرفين المتناقضين، وفق مقتضياته الخاصة- وفي مطلعها العامل المنفعي- وإن كان لمقتضى الحال دوره الكبير-هنا- فلرب من اتخذ موقفاً مبدئياً، ليأتي بعيد صدمة ما، أو عثرة ما، كي يتخذ موقفاً انفعالياً، لينقلب ليس على الموقف المتَّخذ- من قبل- بل لينقلب حتى على ذاته، تحت سطوة ردة الفعل التي لابد من الابتعاد عنها، مهما كانت دواعيها، بل أن الكاتب النبيه لن يقع فيها، وإن كانت هناك لحظات التحول، في حياة أي إنسان، وهي حق مشروع، مادامت الحياة نفسها حركة دائمة إلى الأمام، وخير تحول هو ذلك الذي يكون نحو الأفضل، والمبني على لغة الواقع، لا على الانفعالات، ولا توخياً لجني المكاسب الذاتية، افتراضية كانت أم فعلية.

ولعل خيوط شبكة الحيرة، لدى من هو غير مسلح بالرؤيا العميقة، تجعله ينوس ذات اليمين وذات الشمال، لاسيما عندما يستغرق في بعض التفاصيل الصغيرة التي تحدث في موقع ما، وهو يسبغ عليه كل مقومات الطهرانية، مقابل انخداعه ببريق بعض التفاصيل المماثلة، وهي تتناقض مع بؤرة السوء التي انطلقت منها، بما يذكر بأمثولة”خضراء الدمن” التي قد تستهوي من لا يرتكز على الرؤية العميقة، النافذة، التي لا تتوقف عند حدود الوقائع، بل تتجاوزها إلى سبر أعماقها، وهي خصيصة ملكة الحكمة، ونتاج التجربة والخبرة الطويلتين.

إن الأخطوطة التي تنطلق من فرز العالمين المتناقضين: السلب والإيجاب، إذ لكل حدوده، وصفاته، وعوالمه، وعلاماته الفارقة التي لا تلتقي- إلا مع ذاتها وديدنها الأصل- تصلح كي تكون الفيصل في أية قضية معروضة، حيث لا تخطأ بوصلة أحد، في ما إذا انطلقت من جواهر الأمور، وهي ترد السبب إلى المسبب، والناتج إلى المنتج، والفعل إلى الفاعل، حتى وإن كان هناك، ما يتراءى في المدى المرئي، حيث  شر الخير، أو خير الشر، وهذا المصطلحان: الخير أو الشر، من ثقافة فقه الميتافيزيقي، بيد أن تجربة الإنسان،العامة منها، والخاصة، أكدتا له  ما هو صحيح  في مثل هذا الفرز، مادام القتل لن ينتمي إلا إلى دائرة ما هو مدان، ومرفوض، بل هو مكمن الجريمة، ومنبعها، وإن كانت تفاصيل الشرور الصغيرة الأخرى، تنهل من هذا المعين الموبوء عينه، كما هو حال تفاصيل ما هو خير في الحيز المغاير، أو الفضاء المختلف، المناقض.

ثمة خلط، مذهل، غرائبي، عجيب،  بات يواجهنا أنى حللنا، ونحن نعاين مجريات اللحظة، بعد  بلوغ أثر الالتباس  محطاته الجديدة، وأمدائه الجديدة، إذ أن العجز عن فكِّ شِفرة أي معطى يومي، من قبل أي متابع للحدث، إنما هي مسؤولية الإنتلجنسيا، التي يفترض أنها تتخذ موقعها الجديد، وتنال ثقة الناس من حولها، على اعتبارها مهمومة بجزئيات حياتهم، وتكرس ذاتها من أجل المضي بهم إلى ضفاف الأمان، بعيداً عما يشوب حيواتهم من أذى ومتاعب، باتت تكثر مع انتشار الصورة الإلكترونية، أحد أدوات صناعة الالتباس، لاسيما بعد انتداب فقهاء التزوير جمهراتهم وحواشيهم للانتقال إلى الجبهة المواجهة، كي يحققوا ما يريدونه من داخلها، حيث الوحش في جلد الوعل، والمجرم يتزيا في هيئة الثائر، وهو يردد شعارات طاهرة، يتمترس وراءها، كي يشوه صورته، ما جعل المشهد في حاجة كبرى إلى ذلك المفكر الكبير، والباحث الجاد، والكاتب الملتزم، والسياسي البارع لقول كلمة الفصل، في كل ما هو ملتبس، واضح، كي تعود إلى الأشياء نقاوتها، ويعود الجمال إلى موطنه، والقبح إلى مرتعه،حيث  استطاع هؤلاء قلب الموازين، وفق تدبير، آني،لا مستقبل له.

إن أية متابعة للخطاب الثقافي، على مدى عامين ونيِّف، منذ اشتعال شرارة البوعزيزي، وحتى هذه اللحظة، تحديداً، حيث تهيمن لغة العنف على الموج الهادر للأخبار التي تتناقلها وكالات الأنباء، ووسائل الإعلام: المرئي منها، والمقروء، والمسموع، على المستوى العام، فإنه ليجد أن  رائحة البارود، والدمار، والدم، هي التي تتسيدهاتيك الأخبار، سواء تلك التي تعتمد على الصورة الإلكترونية، أو التقليدية، إذ باتت تفرض نفسها- بكل ما تحمله من ألم وأسى- على ذاكرة كائن العمارة الكونية الواحدة، لتجعله مشدوداً إلى ما يدور في حومة الفضاء المكاني، حيث حضور الموت والخوف والتوتر، في أعلى رقم قياسي يمكن تسجيله هنا،وطبيعي، أن المثقف، أياً كان، هو الأكثر تأثراً بهذا الواقع، والأكثر حساسية، باعتباره ضميراً جمعياً، في صورته النمطية، في أقل تقدير.

إن منظر مقتل طفل صغير، أو تهدم منزل فوق رؤوس أسرته، كاملة، أو غير ذلك من أمَّات الأحداث الكبرى التي تجري في أية نقطة من العالم العربي، بل والعالم، لم تعد تؤثر في محيطها الضيق، فحسب، وإنما تؤثر أبعد من هذا المحيط، وأعمق، إلى تلك الدرجة التي غدت القرية الكونية، أو العمارة الكونية، وغيرهما من المصطلحات التي باتت تطلق على الكرة الأرضية، تتهاوى، وتتضاءل، وتتقزم، في ظل الانتشار العمودي والأفقي، لوسائل الإعلام، وثورة الاتصالات، إذ أن ما يجري أمام أعيننا، بل وبات يداهمنا في بيوتنا، ومكاتبنا، من مشاهد أحداث ساخنة، أليمة، في أي مكان في العالم، بكامل أدوات وعدد صدمتها، واستفزازها، من رائحة شواء آدمي، أو بيئي، يترك أثره الكبير في نفوسنا، إلى تلك الدرجة التي صرنا نشعر في كل برهة، أن أية حرب تجري في العالم، إنما هي تجري في بلداننا، وبيوتنا، بل وأعماقنا…!.

ومن المعروف، أن تمكن الحدث من أن يكون عاماً، من شأنه أن يشكل وحدة همّ عامة، في أوسع دائرة ممكنة، لاسيما وأن هذا الحدث- أية كانت جغرافيته- لا يمكن وضع أية سدود، أو جدران بينه ومتلقيه العالمي،  فقد انهارت شوكة الرقابات المصونة، التي كانت تبتسر المعلومة، وتقدِّمها على نحو محدَّد، إلى تلك الدرجة التي كان من الممكن تكوين عدد لا متناه من القراءات للحدث الواحد، وهو ما بات ينحسر تدريجياً.

النظر المختلفة، حول واقعة محددة، معروفة المعطيات الأولية، وهو تحول مهم في مسار الفكر الإنساني، وإن كنا هنا سنظل في مواجهة تحديين:

1-رؤية النخبة التي تتعامى عن قراءة الوقائع، انطلاقاً من دواع منفعية، ولذلك فهي تعمد إلى مواصلة وسائل التزوير المعرفي التي كان يتم اللجوء إليها، من قبل مراكز البحوث والمؤسسات والهيئات التي تخدمها، بيد أن تأثير مثل هذه الدوائر بات يتقوَّض على نحو واضح، لاسيما وأن المتلقي العادي، في أطراف المعمورة، غدا صانعاً للوعي، من خلال طريقة تلقيه له، وتفاعله معه، وهوما يمكن اختصاره، ووسمه ب”تحدي السلطة” التي طالما تناولها النقاد والفلاسفة والمثقفون،في دراساتهم العميقة وكان له أثره الكبير في الخطِّ البياني للعلاقة بين الإنتلجنسيا والسلطة على مر العصور.

2- استمرار بعض الأوساط العامة، التي خضع أفرادها-فكرياً-ولمدد طويلة، لتأثيرات الإعلام المضلل، بيد أن ما يحدث، هو أن هذه الأوساط صارت دائرتها تتقوَّض – يوماً بعد آخر- بل إنها تتفكك، لاسيما وأن سلطة الصورة الإلكترونية- غير المفبركة، تمتلك طاقة سحرية فاعلة، مؤثرة، وهي تستند إلى عمق استراتيجي، لا يمكن الاستهانة به، البتة، لأنه يمثل-أولاً وأخيراً- المصلحة البشرية العامة.

 

يتبع ..

  • Social Links:

Leave a Reply