بنية العولمة؟ ــ فالح عبد الجبار

بنية العولمة؟ ــ فالح عبد الجبار

 

اعداد : يونادم يونادم

القسم _٣_

ب – الازدراء الكلاسيكي

لا مراء في ان هذا الشكل من تعيين تخوم الجماعات جديد كل الجدّة على التاريخ البشري. فما سبقه في عصور غابرة لا يزيد عن اشكال سديمية من اقوام زراعية منظمة في قبائل وعشائر، او جماعات معزولة، متشظية، ودول مدنية، تتجاوز دون كبير اتصال حتى وإن جمعتها، في خلط عشوائي، امبراطوريات مقدسة.

إن عمر هذا التنظيم الجديد كشكل واع للبناءات المجتمعية لا يزيد عن قرنين. وهو يرتبط، لا مراء في ذلك، بالحقبة الصناعية، التي قد نطلق عليها اسم عصر الرأسمالية، أو عصر الحداثة، او العهد الصناعي، تبعا للمدرسة التي ينتمي اليها كل منا. وفي القرن الثامن عشر، وجل القرن التاسع عشر، لم يكن، المفكرون

(الفلاسفة عموما) ينظرون جديا إلى الدولة الجديدة (الدولة القومية) إلا باعتبارها لحظة انتقالية، تفضي إما إلى دولة عالمية أو كيان عالمي من نوع ما. حسبنا في هذا الشأن أن نورد رؤى عدد من المفكرين: كانط، سان سيمون، ماركس، اوجست كونت.

لم ير كانط، أبو العقلانية المعاصرة، في الدولة سوى لحظة في الزمن البشري الأكبر، وكان يرى ان الهدف الأسمى للطبيعة، حسب قوله، هو تشكيل مجتمع بشري اسماه “نظام الاتحاد بين الشعوب”، ويتحقق هذا بتوسط “اتحاد دول حره” على أساس سلام دائم ودستور مدني يقوم على ثلاثة عناصر هي:

1 – الحق المدني للأفراد الذين يؤلفون شعبا.

2 – حق الشعوب، الناظم للعلاقات بين الدول.

3 – الحق العالمي القائم على ترابط البشر والدول باعتبارهم مواطني دولة عالمية تنتظم فيها البشرية جمعاء.

ورغم أن هذ٠ الفكرة (خيالية) في زمنه (حسب تعبيره)، فإنها كانت تجسد بتصوره المسار العقلي للبشرية، خصوصا مع تنامي واتساع نموذج الدولة – الأمة امام ناظريه.

اطراد هذا النموذج كان يمهد للعالمية مثلما أن انانية الدول فرادى كان يعرقل هذا المسار. ولربما كان يرى أن على الدولة أن تقدم بعض التضحيات على غرار الفرد الذي حتمت عليه ضرورات الاتحاد في مجتمع حديث (الدولة القومية) التخلي عن بعض حرياته. أنانية الدول اذ تعترض العالمية المنشودة، تطرح، برايه،

بديلا (وإن يكن سلبيا) يتمثل في قيام اتحاد دائم، مستمر التوسع، يقي البشرية من الحرب ويروض النزعات العدائية. وقد سمّي هذا الاتحاد ب “الأمم المتحدة” وباختصار، كان كانط يرى إلى حتمية نشوء إطار عالمي

لمجتمع البشرية الواحد، إطار يفرض ضبطا عالميا للدول، على غرار ما يضبط مجتمع الدولة الفرد الواحد، حماية لحق المجموع.

لم يكن من قبيل المصادفة ان يطلق كانط على نفسه اسم “مواطن عالمي”، أو أن يجهد لبلورة اخلاق كونية (عقلية) معوضه عن انهيار اخلاق الكنيسة بعالميتها الضيقة، النافية لأديان وثقافات الشعوب الاخرى.

ويقدم لنا سان سيمون، بالمثل، فلسفة عالمية تزدري بالقداسة المزعومة للدولة القومية التي نمت بعد ذلك.

ارتبط فكر سان سيمون العالمي بالطابع الصناعي للمجتمع الحديث وتحولاته. فنشوء السياسة أدى، في منظوره، إلى انهيار الطبقات الاكليركية والعسكرية، مقابل بروز طبقة المنتجين (تضم الصناعيين والعمال في كتلة تاريخية واحدة) ورسوخ مكانة العلم ودوره. نعرف ان رؤية سان سيمون تنطلق من فكرة تنظيم المجتمع وادارته عقلانيا كمقدمة لما سماه إنشاء “حكومة لعالم المستقبل”

ومن بالغ الدلالة أنه وضع هذه الافكار في مبحث خاص، وانه تطلع إلى الاتصال بالأفارقة والاسيويين،

مسيحيين ومسلمين، بحثا عن سبل تحقيق عقلانيته الكونية (أو المعولمة برطانة هذه الايام).

الواقع أن تطلعات (كانط) و(سان سيمون) لم تكن مقطوعة الصلة بالأفكار العالمية ل (جان جاك روسو) و(دوسان بيير) (صاحب مشروع السلام الدائم). وكانت هذه الرؤى تشكل جزءا من ثقافة عصر الأنوار الأوروبي. وهي تقوم على فكرة وحدة العقل البشري، ووحدة تطور النوع الانساني، ووحدة التطور التاريخي، والاعتقاد بوجود مسار خطي، ارتقاني، من البربرية (او البداوة حسب التعبير الخلدوني) إلى الحضارة، لدى كل شعوب الأرض قاطبة. من هنا، مثلا، نفهم اعجاب (روسو) ب “البداني النبيل” الذي يمثل طفولة الحضارة، وتوفير هيجل لانطلاقة العقل من الشرق في رحلة التفتح الديالكتيكي للروح.

ورث (كارل ماركس) و(اوغست كونت)، كلّ من موقعه هذه النظرة العالمية، الشمولية، وهذا التفاؤل بقرب نشوء كيان عالمي لا تختلط فيه شوائب الاضطراب، وقرّب اضمحلال الدولة او زوالها وتنظيم العالم على اساس جديد: على قاعدة وحدة الصناعة وال عمل (عند ماركس) او على قاعدة الثقافة الجديدة، أي المذهب

الوضعي، الدين الجديد الجامع لكل البشر (عند كونت) برسائله المتقدة حماسا إلى قيصر روسا (نيقولا الثاني) والصدر الاعظم في الباب العالي العثماني، ورئيس طائفة الجزويت، يدعوهم إلى المذهب الوضعي، دين العالمية الجديد.

يبين ما تقدم ان جدّة ظاهرة الدولة القومية في القرنين الثامن عشر والتاسع عثر، لم تستثر غير الازدراء النقدي، ولم يحفّز سوى على البحث عن منطق تجاوزها التاريخي: منطق العقل (حق الوئام والتعاقد، أو حق السلم)، او منطق الصناعة وتعميم البؤس، أو منطق الثقافة (الدين) الموحّد.

  • Social Links:

Leave a Reply