التدين الإسلامي والثورة السورية من منظور نفسي-اجتماعي /قراءة في وصية شهيد/ 1-3

التدين الإسلامي والثورة السورية من منظور نفسي-اجتماعي /قراءة في وصية شهيد/ 1-3

 

أحمد نظير الأتاسي

      أحمد نظير الأتاسي

بقلم أحمد نظير الأتاسي

ماذا نعني بأسلمة الثورة؟

 

حاججنا في الحلقة الأولى بأنه يمكن شرح استمرار التظاهرات في الأشهر الأولى باستخدام مقاربتي تعميم النجاح وتعميم الفشل؛ وكذلك بأن دور نمطي التدين الشعبي والملتزم كان أكبر في قرار الاستمرار من دورهما في خروج التظاهرات الأولى. لكن ما هو الدور الذي لعبه هذان النمطان وغيرهما بعد الأشهر الخمسة الأولى (أي إلى نهاية آب من 2011)؟ وهل نعني بأسلمة الثورة ازدياد أهمية التدين في تجييش المتظاهرين وفي قرارهم تحدي الرصاص والقمع؟

في الحقيقة، ما نعنيه بأسلمة الثورة السورية من منظور نفسي إجتماعي يتخطّى دور التدين في قرار المشاركين بالخروج يوماً بعد يوم إلى تشكيل أيديولوجيا ناظمة لمعارف النسق الاجتماعي الثوري (أي سردية الثورة: أسبابها، تاريخها، تصوّرها، رموزها) وقراراته وممارساته وتجربته الشعورية (اختيار هذه العوامل يعتمد على أبعاد التدين، والمواضيع الأساسية في علم النفس الاجتماعي، والنموذج المعرفي لاتخاذ القرار والذي سيأتي ذكره). سيرورة تشكيل هذه الأيديولوجيا بدأت قبل الثورة بعقد أو أكثر واستمرت خلالها بخطى حثيثة، وبدأت تتوضح أنساقها مع نهاية 2011، وأصبحت واضحةً جلية مع حلول 2013. ليست هذه السيرورة انعكاساً لثقافة إسلامية أزلية لا تتغير؛ فكما تدعي الأيديولوجيا القومية بأن الهوية القومية أزلية، وكما تدعي الماركسية بأن صراع الطبقات أزلي، كذلك تدعي الإسلاموية (أو ما يسمى بالإسلام السياسي) بأن هناك فهم وحيد للإسلام متجذر في الثقافة لم يتغير من 1400 سنة، وهو نفسه ما تدعو الإسلاموية لفرضه بقوة الدولة. الأسلمة مظهر من مظاهر الإسلاموية، وهذه الأخيرة هي إحدى الأيديولوجيات السياسية الجماهيرية التي ظهرت في القرن التاسع عشر وتوطدت في القرن العشرين. وهي كغيرها من الأيديولوجيات الشمولية انعكاس لتغير جذري في بنية المجتمعات الحديثة، ونعني لنشوء الجماعة السياسية الشاملة (أي تحول المجتمع بكامله إلى ناخبين وفاعلين سياسيين) بعد أن كانت السياسة مقصورة على النخبة الملكية الحاكمة.

 

لابد لتوضيح المقصود بالأسلمة من شرح لآليات اتخاذ القرار وكيف يمكن أن تنحاز القرارات الإنسانية في اتجاه معين دون اتجاهات أخرى. ولا نعني بالقرار القيادة، وإنما القرارات المختلفة التي يتخذها الأفراد ضمن الجماعة وتتخذها الجماعة بمشاركة الأفراد. النموذج الذي استخدمناه لشرح قرار الخروج للتظاهر والاستمرار بالخروج كان عقلانياً نفعياً معدّلاً من أجل أخذ المنفعة العامة بعين الاعتبار، أي يعتقد بأن الإنسان يفكر بوعي ويقوم بحسابات منطقية رياضية واقعية، الغرض منها تحقيق المنفعة الفردية القصوى، سوآءاً عن طريق المنفعة الجمعية أو بالحصول على المنفعة الأنانية المباشرة. وافترضنا أنه عشية كل مظاهرة كانت الخيارات المتاحة للمواطن السوري (أي المقرِّر) هي إما المشاركة في التظاهر وإما البقاء في البيت، ونتائج الثورة هي إما النجاح وإما الفشل. لكن في الحقيقة لا يحسب الإنسان قراراته بشكل عقلاني وواقعي، ولا يعرف نتائج سلوكه وإنما يتوقعها ويرغب بها ويتمناها، فمن اللازم أن نستخدم نموذجاً لاتخاذ القرار يتخلى عن حساب المنفعة العقلاني ويأخذ بقية الخيارات والنتائج بعين الاعتبار ويدخِل توقعات الإنسان بالحسبان. هذا النموذج يعتبر اتخاذ القرار عملية معقدة تبدأ بالتعرّض لمحرض طارئ يستدعي التصرف، وتنتقل إلى  جمع المعلومات والمعارف الداخلية والخارجية عن المحرض، ثم تستدعي الخيارات التي توفرها الذاكرة (النصوص الاجتماعية) وتقارن بينها اعتماداً على المعتقدات والآراء والتقييمات والحوافز الداخلية (motivation) التي يحملها الإنسان المقرِّر، ثم تنتهي باختيار واحد من هذه الخيارات السلوكية ليتم تنفيذه.[1] وهنا يختفي مفهوم المنفعة الواقعة خارج الإنسان ليحل محله مفهوم القيمة المرتبطة بالسلوك (أو منفعة متخيلة متوقعة وليست بالضرورة واقعية).

 

نخلص مما سبق بأن معارف الناس واعتقاداتها وتقديرها للحالة، ومن ثم الخيارات المتخيلة والنتائج المتخيلة، ثم القرارات الممكنة، كلها تقوم على تحيّزات قيمية؛ وليس أفضل من الأيديولوجيا لخلق مثل هذه التحيزات القيمية. القومية والطائفية والإسلاموية والليبرالية والاشتراكية كلها فضاءات معرفية تخلق تحيزاتها الخاصة. ومتى طغى فضاء معرفي معين جاءت معه التحيزات التي يشجعها وغابت التحيزات التي يثبطها. ونظريتنا هنا هي أن الإسلاموية (أو الأسلمة) طغت كفضاء معرفي وبالتالي كتحيزات باتجاه تقييمات واعتقادات وقرارات وسلوكيات معينة. ولم تكن هذه الأيديولوجيا قادرة على هذا التأثير، مثلها مثل أية أيديولوجيا أخرى، لولا عدة عوامل سابقة للثورة تعزز موقعها في المجتمع السوري خلال العشرية السابقة لها على أقل تقدير. هذه العوامل صنعت ما يسميه المشايخ المعلمون بالصحوة الدينية واليساريون بالردة الدينية وهي:

 

1) النظام الطائفي القمعي الذي حد من خيارات المجتمع السوري الثقافية والعملية.

2) انزياح مراكز الجذب والإشعاع الاقتصادي والفكري باتجاه الخليج السلفي.

3) وتطور التدين الملتزم على أيدي المشايخ المعلمين، والسياسي على أيدي الإخوان المسلمين، والجهادي على أيدي السلفية الوهابية. ولسنا هنا بصدد تفصيل هذه العوامل، لكننا سنذكر بعض إسقاطاتها على الثورة السورية من خلال تأثيرها في العوامل المختلفة التي تدخل في اتخاذ القرار أي في المعارف المنتشرة، وفي السلوكيات الممكنة والمتخيلة، وفي حساب القيمة (النتائج المتخيلة لهذه السلوكيات، والاعتقادات بخصوص علاقة النتائج بالسلوكيات).

 

قبل أن نبدأ بتعداد الأحداث والمصطلحات والسلوكيات والقيم والأدوات التي رسمت المسيرة نحو الأسلمة، لا نريد أن نظهر بمظهر المعدد للمثالب والموحي بوجود مؤامرة على المجتمع. التحليل وفهم الواقع لا يعنيان كشف مؤامرة وإن كان التحليل غالباً ما يتم سرده على أنه رواية لها بداية ونهاية وأبطال ومغزى (أي تشبه المؤامرة). الحقيقة هي أن السيرورات الاجتماعية فيها تجاذبات وفواعل، داخلية وخارجية، والفواعل عددها لانهائي والمسيرة يصعب فهمها إلا بعد حدوثها لا أثناءه، فإذا انتهت وتوضحت نتائجها جاء المحللون ليكتبوا القصة الدرامية عن بداية ونهاية وأبطال وضحايا. القصة دائماً انتقائية، والانتقاء غرضه إعطاء السيرورة معنى وإثبات وجهات نظر ودعم مقولات ومعتقدات معينة. المحلل في الحقيقة ليس محايداً بل هو أحد الفواعل، فهو يحاول إعادة كتابة التاريخ. لكن هذه هي دراما التحليل التي لا يمكن الإفلات منها. وكل ما نستطيع فعله هو الانفتاح الدائم على احتمالات جديدة ووجهات نظر جديدة والبحث عن تحيزات أيديولوجيا ممكنة وانتقائية تعسفية. القصة التي نرويها هنا، أي قصة الأسلمة، ليست القصة الوحيدة. والمعلومات التي ننتقيها ونربط بينها، ليست كل المعلومات الموجودة ولا كل الروابط الممكنة. اليوم هناك ظاهرة يصعب إهمالها وهي وجود الأسلمة في الثورة السورية. ولذلك نحاول هنا انتقاء بعض المعلومات والأحداث والتي نعتقد أنها مرتبطة ببعضها البعض وأنها ترسم سلسلة منطقية لمسيرة الأسلمة.

 

هل الأسلمة جيدة أم سيئة؟ هذا يعتمد على المراقب المحلل؛ ولا نزعم أننا واقعيون (objective) وأن ليس لدينا أي انحياز أيديولوجي، فهذا صعب جداً في العلوم الاجتماعية إذ مهما كانت النظرية واقعية فإن إسقاطها على الواقع ليس بالأمر السهل. الأسلمة على وضعها الحالي لا تعطي بنظرنا حلولاً للأزمة، بل تدفعها في طريق مسدود. هل هناك أسلمات أخرى؟ أم هل هناك أيديولوجيات أخرى؟، بالطبع، ولا نعرف أيها الأفضل فنحن كما الآخرين نتحسس طريقنا في الظلام. لكننا نعرف أيضاً أن أيديولوجيا النظام الطائفية أسوأ بكثير من أسلمة التيار الجهادي السلفي. نحن إذن أمام أزمة، الطرفان فيها متشابكان في صراع أعمى يسير نحو الهاوية. ولذلك نأمل أن يدرك القارئ مما كتبناه أن الأسلمة ليست مؤامرة بل هي جزء من صراع لا يمكن فهم طرف فيه دون فهم الآخر، ولا تحليل طرف فيه دون تحليل الآخر. وبالتالي لا يمكن أن نشرح الأسلمة بالأسلمة فقط، بل بالعلاقة الجدلية مع الطرف الآخر وأيديولوجيته (أو الأطراف الأخرى من الصراع). ونعتقد أن الأسلمة كانت رداً منطقياً على الديكتاتورية الطائفية. ولا يمكن أن نهمل حقيقة أن الثقافة التي أنتجت الواحدة أنتجت الأخرى.

 

أسلمة الفضاء المعرفي – الإدراكات

ونعني بالفضاء المعرفي كل الإدراكات والمفاهيم والتبريرات والاعتقادات والآراء والمعايير (أي الأيديولوجيات) التي يجمعها الإنسان من الوسط المحيط. ويتبع موضوع الفضاء المعرفي موضوع وسائل نشر المعارف مثل الإعلام ووسائل التواصل.

 

نجح المتظاهرون في مدينة حمص بالوصول إلى ساحة المدينة الرئيسة (ساحة الساعة الجديدة) في 18 نيسان 2011. كان هذا نصراً للمحتجين سيحاول النظام جهده منع تكراره في كل المدن. الاعتصام جمع جميع الطوائف وساد فيه جو من التسامح والوئام. وعندما حضرت صلاة العصر احتشد جمع كبير من المعتصمين للمشاركة في صلاة الجماعة التي أحاط به سور بشري للحماية اشتركت فيه الطوائف المختلفة. هل يجب أن ندفع التحليل هنا أم أن هذا الحدث عادي ويومي وبالتالي خارج التحليل؟ الحقيقة هي أن العادي واليومي هو الجدير بالتحليل، وليس فقط الطارئ والخارج عن العادة. إن المدينة الحديثة ذات الفضاء العام الرحب اختراع غربي وسياسي بامتياز؛ وعند انتقاله إلى سوريا وغيرها من دول المنطقة أصبح له نفس الوظيفة السياسية، أ] التجمع والتظاهر وتحدي سلطة الدولة، أو التجمع والمسيرات الإجبارية والهتاف للنظام القائم، وفي الحالتين هي وظيفة سياسية.  الإسلام السياسي الصاعد في المنطقة استخدم هذا الفضاء العام بنفس الطريقة أي بتحويله إلى فضاء لإشهار القوة وتحدي السلطة وذلك من خلال الصلوات العلنية. لا يمكن تخطي مثل هذا الإشهار على أنه غير ذي مغزى ويعبر عن الثقافة العامة. المساجد الجامعة (المسجد الكبير) وُجدت لهذا الغرض، إنها فضاء عام لا توفره المدينة القديمة وهو فضاء سياسي يؤم فيه الأمير صلاة الجماعة ويخطب ويدعو لأمير المؤمنين. واستمرت هذه الوظيفة عبر العصور اللاحقة لظهور الإسلام إلى يومنا هذا. وعندما تتم أسلمة الفضاء العام (أي استخدامه السياسي) فإن هذا دليل على تغير في الساحة السياسية. هذا النمط من الممارسات وُجد قبل الثورة واستمر بعدها لكن وجوده أثناءها يدل على أن الخلفية المعرفية التي قامت عليها الثورة مأسلمة إلى حد كبير.

 

أثناء الأشهر الثلاثة الأولى برزت شخصيات كاريزمية قيادية محلية كان لها دور كبير في تحفيز الناس على الخروج وفي تنظيم المظاهرات والتنسيق بين الأحياء والمناطق من أجل الوصول إلى هدف المظاهرات الجماهيرية، التي اعتقد المنظمون بأنها ستشكل الضغط الحاسم على النظام ليرضخ للمطالب. لكن ما جرى هو أن النظام استطاع من خلال الاعتقالات المكثفة والتعذيب وتصوير المظاهرات واستخدام برامج التعرف على الوجوه أن يقاطع المعلومات وأن يصل مع حلول الشهر السابع إلى أسماء وصور هذه الشخصيات القيادية التي حظيت بثقة الناس واحترامهم. منذ البداية لم يكن إطلاق النار عشوائياً تماماً، وأوائل الضحايا كانوا خليطاً من المتظاهرين والمتفرجين؛ ويعتقد البعض أن هذا دليل على استخدام القناصة منذ البداية. لكن مع استمرار التظاهرات أصبح استخدام القناصة ممنهجاً؛ فقد تمركزت الحواجز والقناصة عند تقاطع الشوارع الرئيسية وقسمت المدن إلى قطاعات محدودة بهذه الشوارع؛ وكان دورها منع المتظاهرين في كل قطاع من التواصل والتلاقي مع المتظاهرين من القطاعات الأخرى من أجل تشكيل المظاهرات الجماهيرية والوصول إلى ساحة المدينة والاعتصام بها على غرار ميدان التحرير في القاهرة. كان القناصة مزودين بصور الشخصيات القيادية التي غالباً ما كانت تترأس المظاهرات؛[2] وكانت رصاصاتهم، سواءً استهدفت المتظاهرين أم القياديين، لها وقع نفسي شديد لأنها استهدفت الوجوه والرؤوس وفجّرتها بسبب سرعتها الهائلة (أو بسبب استخدام طلقات متفجرة). استنزِفت قيادات المظاهرات في مشاهد درامية، وزاد عدد الجرحى والقتلى من مهام المتظاهرين التي بدأت بالتنظيم والتنسيق ثم انتهت بتأمين المشافي الميدانية. وأصبح الخروج للتظاهر كما الذهاب إلى الحرب أو إلى الحتف. الجنائز تحولت إلى شعائر يومية، لا بل أصبحت ذريعة أخرى للقتل بعد أن كانت ذريعة للتظاهر. مع نهاية العام 2011 كانت المرحلة السلمية قد انتهت.

 

في هذا الجو الجنائزي لم يكن من العسير أبداً الربط بين القتل والتضحية والشهادة والجهاد. إنها ثقافة إسلامية شعبية استخدِمت بنجاح في العديد من مراحل تاريخ المنطقة، خاصة في الصراع ضد المستعمر ثم في القضية الفلسطينية. ثم استخدمتها الجماعات الإسلامية المسلحة لإعلان الجهاد ضد الديكتاتوريات، وبعدها الجهادية السلفية لقتال الروس في أفغانستان، وبعدها الجهادية العالمية في الشيشان والبوسنة والعراق. إذا امتنع المتظاهرون الأوائل عن استخدام العنف المضاد فإنهم لم يمتنعوا عن تحويل القتل إلى تضحية وشهادة، ولا نتكلم هنا عن شهادة وطنية وإنما عن شهادة دينية. ظهرت مقولات من قبيل “اللهم خذ من دمي حتى ترضى” لتبرير التضحية وإعطائها قيمة دينية؛ فهي لم تكن تضحية من أجل الوطن والقضية الوطنية بل من أجل إرضاء الإله الغاضب. قد يكون هذا الربط عادياً وأوتوماتيكياً عند كثير من السوريين المسلمين لكنه ربط مشروط بثقافة معينة ولا يوجد إلا ضمن هذه الثقافة. ولا نعني هنا الإسلام كأيديولوجيا معيارية وإنما التدين الإسلامي كتطبيق وأيديولوجيا عملية، وليس التدين الإسلامي بشكل عام وإنما التدين الملتزم والسياسي. على عكس ما يعتقد المؤمنون فإن الدين أيديولوجيا متغيرة حسب المكان والزمان. إن تصوّر الإله يتغير، فهم النص الديني يتغير، فهم المقاصد الشرعية يتغير، معاني المصطلحات والرموز الدينية تتغير. لا نعتقد أن أسلمة الثورة السورية كان سيكون بهذه السهولة لولا توسع التدين الملتزم خلال العقد الذي سبق الثورة ولولا صعود الجهاد العالمي وحرب العراق. وليس هذا التحليل لتوجيه الاتهام إنما لفهم الواقع كما هو وليس كما يجب أن يكون. من “الشعب يريد” إلى “شهداء بالملايين” إلى “هي لله هي لله” إلى “خذ من دمي حتى ترضى” إلى “ما خرجنا إلا لنصرة هذا الدين”، المسيرة ليست منطقية إلا وفق منطق معين خاص.  الفضاء المعرفي العام، من مفاهيم ومعتقدات وآراء وتقييمات وتبريرات، المسيطر على الساحة منذ بداية 2012 كان فضاءً متديناً إسلامياً ملتزماً وسياسياً.

 

“الجيش السوري الحر” اسم لكتلة هلامية من المجموعات المتمردة المسلحة الصغيرة التي ضمّت منشقين عن الجيش ومتطوعين من أهالي المناطق التي تعرضت للقمع والقتل. تشكلت هذه المجموعات في أواخر 2011، وتسارع تشكلها في بدايات 2012. إعلان قرار التشكيل هو ما يهمنا هنا، فقد كان إشهار القرار نمطياً ظهر فيه ضابط بلباس عسكري يجلس إلى طاولة وأمامه كمبيوتر (لابتوب) يقرأ منه قرار التشكيل، وعلى جانبي الكمبيوتر على الطاولة نسخة من المصحف ومسدس، ووراء الضابط ملثمان يحمل كل منهما بندقية رشاشة ووراءهما بقية الكتيبة أو لافتة عليها اسم الكتيبة وشعارها. دائماً يبدأ إعلان التشكيل بقراءة آيات من القرآن هي نفسها في كل مرة “أذن للذين يقاتلون بأن ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير” ثم “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون بها عدو الله وعدوكم”. المشهد مسرحي بامتياز ومليء بالرموز الموجَهة إلى المشاهدين سواءً كانوا سوريين معارضين أو داعمين من دول مختلفة. الضابط، أو القائد المزعوم للكتيبة، بلباسه العسكري يوحي للمشاهدين بأن الانشقاق عن النظام يتسارع وأن الضباط والجنود المنشقين يحاولون تشكيل جيش مواز له، بنفس المهنية، لكن بحماس أكبر وقضية أكثر عدلاً. هذا الضابط “التائب عن الانتماء إلى النظام” أعلن عن شرعية وجوده خارج الجيش النظامي المحتكر لاستخدام العنف والمدعوم بالقانون من خلال آية قرآنية. هذه الآية تعلن انتهاء مرحلة الصبر وبدء مرحلة الرد؛ لكن الصابرين ليسوا مجرد مواطنين بل هم مؤمنون يتعرضون للاعتداء والقتل (الذين يقاتَلون)، لكنهم صبروا على الشدة في انتظار أن يعلن الإله تحللهم من كل العهود السابقة التي منعتهم من الرد (الانتماء للجيش النظامي، الخضوع للقانون) وأنهم قد ظلِموا وأصبحوا ضحية، مما يعني شرعية ردهم على العنف بعنف مماثل. وتتخطى الآية التحلل من العهود والإذن بالرد المشابه إلى الإيحاء بأن الإله قد ينصرهم في المستقبل القريب، وليس هذا عهداً قطعياً (سينصرهم) وإنما خياراً ممكناً (على نصرهم لقدير) بانتظار القرار الإلهي بذلك. هذا التماهي مع النص القرآني، بحيث يتحوّل المخاطَب فيه من المسلمين الأوائل إلى مسلمي الزمن الحاضر الذين ظِلموا، يظهر عادة عندما يحتاج المسلمون لتجديد العهد مع ربهم؛ العهد الذي قطعه الرب مع المسلمين الأوائل يتجدد مع المسلمين الأواخر بسبب التشابه بينهما. يحصل هذا التماهي في حالات الأحكام الإلهية، فما كان مفروضاً على الأولين هو مفروض على الآخرين، وما كان ثواباً للأولين سيكون ثواباً للآخرين، لكن هذا ليس تطابقاً بين الفئتين. ادعاء التطابق بين الفئتين يتزايد في التدين الملتزم من ناحية أخلاقية (تتطابق أخلاق الفئتين وبالتالي الثواب) وفي التدين السياسي من ناحية سياسية (تتطابق دولة الفئتين وبالتالي العهد بالنصر الجمعي) ويصبح كاملاً في التدين الجهادي (الأواخر نسخة عن الأوائل، أخلاقياً وسياسياً، إنهم الفئة الناجية الأولية نفسها بلباسهم وسلوكياتهم وحتى بأسمائهم). حتى أسماء هذه الكتائب كانت ذات دلالات إسلامية غالباً مثل كتيبة خالد بن الوليد، أبي بكر الصديق، الفاروق، أبابيل، الأمويين، أبي ذر الغفاري، ذو الفقار، جنود الرحمن، فرسان القادسية وغيرها. القرآن المقروء يقابله المكتوب الموجود على الطاولة، والعدة القديمة تقابلها عدة حديثة (المسدس والرشاشات) والعهد القديم بالنصر يقابله انتظار لتحقق العهد الجديد. لكن هذا الاستحضار للماضي بعهده الإلهي وأسمائه ومظلوميته ليس كاملاً، وإنما يبني لشرعية موازية. الرسالة موجهة للمشاهدين المعارضين وللجيش السوري الرسمي، نتشابه باللباس والعدة والمهنية لكننا نختلف بالشرعية، لا بل ونستخدم أحدث التكنولوجيا كالكمبيوتر، في إشارة إلى شرعية عصرية أيضاً، إنها العدة العصرية؛ فكما يحدّث عدو الله نفسه من ناحية العتاد، وإن كان جوهره واحداً، يحدّث المؤمنون عتادهم لكن جوهرهم واحد، وإن كنا فئة صغيرة وقليلة العتاد فإننا سنغلب الفئة الكبيرة بإذن الله.

 

خلال الأشهر الثلاثة الأولى لم تكن دولة قطر قد حسمت موقفها من الثورة السورية ومن النظام السوري. وبعد فشل محاولاتها في تليين النظام وجذبه لمقترحاتها (نعتقد أنها مقترحات مشابهة للسيناريو الإخواني في مصر) قررت انحيازها لجهة الإطاحة بالنظام، وليس بالضرورة لجهة المتظاهرين والمعارضين. قطر تملك أداة هائلة التأثير هي قناة الجزيرة الإخبارية ذات النفس الإخواني الواضح؛ ومتى ما وجِهت هذه الآلة نحو تجييش الرأي والوعي العام فإنها تطغى على الأصوات المحيطة. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن السعودية وقنواتها الفضائية مثل قناة وصال (منبر الشيخ العرعور). في العام الأول من الثورة كان مصدر الأخبار مؤشراً دقيقاً على موقف الشخص من الثورة. الموالون كان يتابعون القناة السورية وقناة دنيا، والمعارضون يتابعون قناة الجزيرة وقناة وصال ثم قناة أورينت. التجييش الإعلامي لعب دوراً كبيراً في خلق الفضاءات المعرفية لكل الأطراف. وكلها كانت تصب في قناة الاستقطاب الطائفي. هذا بالإضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك، يوتيوب، سكايب) التي يمكن لأي فرد أو مجموعة أن يستثمروا فيها قدر ما يستطيعون من الموارد المادية والبشرية. وبقدر ما كانت هذه الوسائل أساسية لاستمرار التظاهر بقدر ما كان أساسية في صوغ الفضاء المعرفي العام.

الهوامش:

 

[1] I. Ajzen, “The Social Psychology of Decision Making”.

[2] اغتيل هادي الجندي في حمص في 8 تموز 2011 وألقي القبض على غياث مطر ثم سلِمت جثته لأهله في 10 أيلول 2011.

  • Social Links:

Leave a Reply