المفتي، المحدث، والصوفي: ثلاثة مناصب تدريسية وقفية ومأسسة الولاءات الإمبراطورية والمحلية في دمشق العثمانية

المفتي، المحدث، والصوفي: ثلاثة مناصب تدريسية وقفية ومأسسة الولاءات الإمبراطورية والمحلية في دمشق العثمانية

 

ترجمة: ناصر ضميرية.

منذ وقت ليس ببعيد، كانت دراسة الولايات العربية في الدولة العثمانية تهيمن عليها الخطابات العرقية، سواء التركية، أو العربية، أو الغربية. من وجهة نظر القومية التركية، فإن الفترة العثمانية نفسها مسألة إشكالية، لأن الجمهورية التركية قامت على فك الإرتباط بين تركيا الحديثة والتراث العربي الإسلامي الذي ورثته عن العثمانيين. ومن ناحية أخرى، فبالنسبة لأولئك الذين رأوا أنفسهم أولاً وقبل كل شيء جزءاً من الأمة العربية، كانت الفترة العثمانية فترة احتلال تركي. وأخيراً، فإن الباحثين الغربيين قد أنكروا كلّيةً صلاحية التصنيفات القومية لمجتمعات الشرق الأوسط، مفضّلين النظر إلى التاريخ العثماني قبل قانون التنظيمات على أنه إسلامي، تقليدي، وقبل كل شيء، يمثل “ما قبل الحداثة”، وبعبارة أخرى، “ما قبل الغرب”.

النتيجة الأكثر ضرراً لهذه المقاربة العرقية هي أنها فرضت الانقسامات بين الناس على أساس اللغات الأم المختلفة – بين المتحدثين باللغة العربية والتركية على وجه التحديد – حتى عندما لا يمكن تطبيق هذه الانقسامات.

بحثي هذا سيستخدم مهنة التدريس كما كانت تُمارس في دمشق في القرن الثامن عشر كوسيلة لتحديد الطرق التي كان يعمل بها النظام العثماني في دمشق خلال القرن الثامن عشر.

يركز هذا البحث بشكل محدد على ثلاثة مناصب تدريسية وقفية والتوجهات القانونية-الفكرية التي رافقتها. هذه المناصب تحدد التقسيم المهني والفكري للعمل الذي يأخذ بعين الاعتبار المشاعر المحلية السابقة على الفترة العثمانية ضمن إطار مؤسسي وسياسي عثماني.

أول هذه المناصب وظيفة التدريس في السليمانية البرانية، وهو منصب يأتي مع تعيين المفتي الحنفي العام لمقاطعة دمشق[1].

في نهاية القرن السابع عشر، كان هذا المنصب دائماً في أيدي أحد أعضاء أسرتي العمادي أو المرادي. هذه الوظيفة والأفراد والأسر الذين شغلوها كان لهم أقوى العلاقات والالتزامات مع القوى المحركة والفاعلة في استنبول، العاصمة الإمبراطورية. المنصب الثاني، هو الوظيفة التدريسية تحت قبة النسر، القبة المركزية للجامع الأموي، والتي كانت على الأغلب في أيدي عالم حديث شافعي. المذهب الشافعي كان هو المذهب المهيمن في سوريا قبل الغزو العثماني. استمرار المذهب الشافعي في القرن الثامن عشر يوضح قوة إرتباط السوريين به قبل الفترة العثمانية على الرغم من الجهود التي بذلتها السلطات العثمانية المركزية لمنح امتيازات خاصة للمذهب الحنفي الفقهي. الوظيفة التدريسية الأخيرة هي في السليمية في الضاحية الشمالية من الصالحية، علی مسافة من مركز عاصمة المقاطعة. يقع هذا المكان في منطقة قبر الشيخ الصوفي محيي الدين ابن عربي (ت. 1240 م)، وبشكل تدريجي أصبح هذا المنصب محجوزاً لعائلة النابلسي، وأبرز أفرادها الشيخ عبد الغني النابلسي (ت. 1731 م) وهو بطل محلي على الرغم من أنه لم يصبح جزءاً من الموظفين الرسميين العثمانيين كما هو الحال عند نظرائه من عائلتي العمادي والمرادي.

pastedGraphic.png

هذه المناصب الثلاثة، وكل من شاغليها، والتوجهات الفكرية المختلفة المرتبطة بكل منها توضح كيف تتلاءم المصالح الإمبراطورية العثمانية والدمشقيين المحليين المرتبطين بها مع النظام العثماني الذي يعتمد على احترام الانتماءات السابقة على الوجود العثماني، وعلى الاهتمامات الفكرية التي لم تكن بالضرورة موازية لتلك الموجودة في المركز الإمبراطوري. هذه الاستنتاجات تؤكد من جهة على وجود قوى محلية وإقليمية، بل وحتى هوية عرقية. ولكن، على النقيض من النزعة العرقية للتاريخية القومية، فإن التجربة العثمانية السورية تشير إلى أن النظام العثماني دمج توجهات متباينة في موضوعاتها، بما في ذلك أولئك الذين كانوا موالين للتقاليد السورية والدمشقية السابقة على الوجود العثماني.

لأخذ هذه الاستنتاجات بعين الاعتبار علينا أن نكون واعين لعمليتين طويلتي المدى:

1) تاريخ دمشق الطويل كمركز للتعليم الإسلامي قبل الوجود العثماني.

2) التجديدات التي أحدثتها البيروقراطية العثمانية على النظام الديني – الفقهي السوري.

فهم أهمية تاريخ دمشق قبل العثمانيين يساعد على تفسير بقاء واستمرار التقاليد المحلية. والتنظيم العثماني للنظام الديني الفقهي، وخاصة رفع المذهب الحنفي إلى وضع المذهب الرسمي للدولة، يؤكد على الدرجة التي شكّلت فيها السياسات العثمانية التجربة الدمشقية في القرن ال 18.

الاستقلال الثقافي والديني والاجتماعي النسبي لدمشق في القرن الثامن عشر عن استنبول يستند إلى التاريخ الطويل لدمشق كمركز للتعليم الإسلامي سابق على الوجود العثماني[2]. لأن العديد من صحابة النبي محمد قد استقروا في دمشق، ولأنها كانت مركز أول عائلة مسلمة حاكمة، سعت دمشق لجذب العلماء المسلمين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي بدءاً من العقود الأولى للتاريخ الإسلامي. بين القرن الحادي عشر الميلادي، ومع ظهور المؤسسات التعليمية، مثل دار القرآن ودار الحديث والمدرسة، من جهة، وبداية الحكم العثماني في أوائل القرن السادس عشر الميلادي من جهة أخرى، انتقل العلماء في المدينة تدريجياً من كونهم مستقلين، علماء أحرار يعملون لحسابهم الخاص، إلى نخبة ذات طابع مؤسسي ومهني رسمي. عملية التحويل إلى مختصين محترفين بلغت مرحلة حاسمة تحت حكم نور الدين زنكي (حكم بين 1154-1174م). من خلال جعل دمشق عاصمة إمبراطوريته، أعاد نور الدين إلى دمشق موقعها الأول الذي كان لها تحت الحكم الأموي. عملية المأسسة تمت من خلال انتشار الأوقاف الإسلامية، والهبات الخيرية، من أجل دعم عدد كبير ومتنامي من العلماء والقضاة واستمرارهم. بين وقت نور الدين، وخلال فترة حكم الأيوبيين، وصولاً لحكم سلاطين المماليك في عام 1260م، تم بناء أكثر من 120 مؤسسة تعليمية جديدة. خلق نور الدين مناصب جديدة للعلماء مثل نواب القاضي، الوكلاء، وعمال الخزينة[3]. خلال الفترة العثمانية، حوالي 50 مؤسسة تعليمية أخرى تم إنشاؤها.

تدرج عملية إضفاء الطابع المؤسسي والمهني التي شكلت حياة العلماء في دمشق على الأقل منذ وقت نور الدين، وصلت إلى درجة جديدة من التنظيم تحت الحكم العثماني. أضاف العثمانيون مستوى آخر من التنظيم المركزي للعلماء ومؤسساتهم من خلال تنظيم بيروقراطي كامل للمؤسسة الدينية والقانونية للإمبراطورية. قام المسؤولون العثمانيون بجرد الأوقاف بشكل كامل عند غزوهم سوريا، وتولوا مسؤولية تعيين القضاة الذين يشرفون على نظام المحاكم، وهو النظام الذي يشرف على حسابات الوقف، فضلاً عن هيئة الموظفين للمؤسسات التي أنشأتها هذه الأوقاف. على الرغم من أنه في بعض الحالات تم تعيين علماء من أصول دمشقية في منصب قاضي القضاة، أو رئيس القضاة، وهو ثاني أقوى منصب رسمي مقيم في الولاية بعد حاكم مقاطعة دمشق، فإن هذا المنصب مُنح لاحقاً، وبشكل حصري لغير السوريين، عادة لأشخاص من بلاد الروم (أي من الناطقين باللغة التركية)، والذين خدموا لفترات قصيرة ولمدة لا تزيد عن سنة واحدة في بعض الأحيان. مع رفع المذهب الحنفي إلى وضع المذهب الرسمي للدولة، أصبح رئيس التسلسل الهرمي الديني والقضائي للإمبراطورية هو المفتي الحنفي في استنبول، شيخ الإسلام. وبالمثل، كان رئيس القضاة في دمشق دائماً حنفي. واستمر قضاة المذاهب الأخرى في العمل، ولكن كنواب في نظام تسيطر فيه الحنفية بشكل رسمي.

في حين أن أوضاع القاضي كان قد تم تنظيمها منذ فترة طويلة من خلال نظام التعيينات، وبشكل عام فإنه تقريباً يمكن لأي شخص يمتلك التعليم المناسب والقبول الشعبي أن يكون مفتياً. إلا أن العثمانيين أنشأوا نظاماً من خلاله يتم تعيين مفتي واحد فقط لكل مذهب، وغالباً ما يتم اختياره من قبل أقرانه المحليين. هذا الإصلاح والوضع الجديد للمذهب الحنفي عزز من قوة المفتي الحنفي.

وهكذا، وبحلول القرن الثامن عشر، كان الدمشقيون قد ورثوا نظاماً علمياً ودينياً وقضائياً ذو جذور محلية عميقة، ولكنهم أيضاً كانوا جزءاً أساسياً من نظام على نطاق الإمبراطورية ومركزه في استنبول[4].

في حين فرض العثمانيون مستوى لم يسبق له مثيل من المركزية على بعض جوانب النظام الديني-القانوني كما حدث في دمشق، فإن السلطات المركزية راعت مشاعر المحليين وارتباطاتهم. إذ يوضح هيكل توظيف معلمي دمشق وجود قوى ذات ارتباط بالمركز في استنبول من جهة، ومن جهة أخرى هناك القوى المحلية. غادر بعض المدرسين مدينتهم بشكل دائم لمتابعة وظائفهم مع البيروقراطية العثمانية وأصبحوا “عثمانيين” بشكل كامل. اتخذوا ثقافة معظم عناصر النخبة في الطبقة الحاكمة العثمانية. وربما خدموا في البلقان أو في المناطق الأوربية الأخرى الخاضعة للدولة العثمانية، أو الأناضول أو في المحافظات العربية، وحصلوا على جميع الحقوق والامتيازات التي تأتي من كونهم جزءاً من الطبقة التي كان ولاؤها أولاً وقبل كل شيء للدولة الإمبراطورية بغض النظر عن بلدهم الأصلي أو لغتهم الأم.

وهناك العديد من الأمثلة على الدمشقيين الذين ارتقوا من خلال صفوف المدارس في استنبول كطلاب ومن ثم مدرسين ليصلوا لمنصب القضاة في جميع أنحاء الإمبراطورية. ومع ذلك، وبحلول القرن الثامن عشر، كان التقدم إلى أعلى مستويات البيروقراطية العثمانية بشكل متزايد يقتصر على أفراد عائلات النخب العلمية من استنبول، وعدد أقل من الدمشقيين وصلوا إلى الأعلى من خلال القنوات المعتادة. ومع ذلك، هناك العديد من الأمثلة على دمشقيين من القرن السابع عشر الذين غادروا مدينتهم للاستقرار في استنبول وليدرسوا ومن ثم يصبحوا مدرسين ويتابعوا وظيفتهم كقضاة. أبو بكر بن بهرام (ت. 1690 م) تسلق التسلسل الهرمي للمدرسة كطالب ومعلم حتى تم تعيينه في القضاء في حلب. كان مدرساً لوزيرين كبيرين هما أحمد كوبرويلي (ت. 1676 م) وقرة مصطفى باشا (ت. 1683 م) الذي قاد الحصار الثاني لفيينا عام 1683م. تشير مسيرة أبو بكر إلى أنه بوجود الموهبة والحافز فإنه يمكن للدمشقيين أن يندمجوا بشكل كامل في معظم دوائر النخبة العلمية في استنبول، على الأقل حتى أواخر القرن السابع عشر.

ولكن بحلول القرن الثامن عشر، تراجعت إمكانيات التقدم في استنبول. وقد بين مادلين زلفي أنه بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، تحولت الحياة العلمية العثمانية إلى نوع من الوجاهة العائلية، حيث كان التقدم يعتمد على العلاقات العائلية أكثر من الاعتماد على الجدارة[5]. هذا أحد العوامل التي ربما جعلت الأمر أكثر صعوبة بالنسبة للأجانب، مثل أولئك من دمشق، للوصول إلى أعلى المستويات خلال القرن الثامن عشر.

بحلول هذا الوقت، كان معظم العلماء والأساتذة الدمشقيين الذين أمضوا وقتاً في استنبول يهدفون للحصول على منصب في دمشق. دخلوا سلك المدرسين والمسار الوظيفي للمعلمين الطموحين وأعضاء النظام القضائي، وتابعوا هذا الطريق حتى حصلوا على رتبة من شأنها أن تسهل الحصول على منصب في دمشق.

pastedGraphic_1.png

المناصب التي كانت تتطلب تعييناً من استنبول هي المفتي الحنفي، ونوابه في المحكمة، والعدد الكبير من المعلمين في مؤسسات مثل السليمانية البرانية، والسليمية، والمنصب الوقفي تحت قبة النسر في الجامع الأموي. هؤلاء المعلمين – وخاصة أولئك الذين شغلوا المناصب التدريس الثلاثة التي هي محور هذه الورقة – يمثلون مزيجاً من الميول العثمانية والمحلية التي جعلت بعض أعضاء المؤسسة التعليمية الدمشقية حصناً للحكم الإمبراطوري في حين أن آخرين بقوا مدافعين عن التقاليد المحلية وتوجهاتها. وأخيراً، كان هناك أولئك الذين يدرسون في المساجد الصغيرة، والمدارس، وداخل الحلقات الصوفية، وهي مناصب لا تتطلب تعييناً من استنبول. في هذا البحث، سأركز على أعضاء المجموعة التي تطلبت تعيينات رسمية لكنها بقيت في دمشق. هناك معلومات وفيرة في مصادر السير الذاتية عن هؤلاء الرجال، ومناصبهم، والمؤسسات التي عملوا فيها.

الموقف السياسي والاقتصادي للمفتي الحنفي قد يشكل مثالاً للحل الوسطي التوافقي أو قد يكون عامل توتر بين أولويات الدولة المركزية والمطالب المحلية التي شكلت السياسة في دمشق، وذلك بحسب القدرة على تحقيق التوازن الضروري. لم يحصل المفتون على رواتب، ولم يكونوا جزءاً من النظام الهرمي المتدرج مثل القضاة، لكن كان يمكنهم أن يتقاضوا رسوماً مقابل فتاويهم. بالإضافة إلى ذلك، أعطت الدولة العثمانية مجموعة من الوظائف والتعيينات التي تجلب الراتب ومصادر دخل أخرى لدعم هذا المنصب الهام مالياً. وغالباً ما كان منصب التدريس في السليمانية البرانية مشغولاً من قبل المفتي الحنفي وكان من الواضح أنه رمز هام للعلاقات العثمانية مع علماء دمشق.

محمد خليل المرادي (ت. 1791 م)، في كتابه المكرس للسير الذاتية للمفتيين الحنفيين في دمشق أي كتاب “عرف البشام فيمن ولي فتوى الشام”، يشير إلى أن أكثر من نصف المفتين – من وقت بناء مجمع السليمانية في أواخر القرن السادس عشر إلى وقت تعيينه هو في أواخر القرن الثامن عشر – استلموا منصب التدريس هذا. من منتصف القرن السابع عشر وحتى نهاية القرن الثامن عشر، كان الدمشقيون يهيمنون على منصب المفتين الأحناف، ومن بين الدمشقيين، فإن أسرة العمادي، ومن ثم المرادي شغلوا هذا المنصب، إضافة إلى منصب التدريس في السليمانية.

تمثل عائلتي المرادي والعمادي نوعاً من الأرستقراطية بين العلماء المحليين، المقابل الدمشقي للأهمية المتزايدة لدور علاقات القرابة في توارث المناصب الرسمية التي حدثت في استنبول في القرنين السابع عشر والثامن عشر. يكشف تاريخ عائلة المرادي في دمشق كيف يمكن للعثمانيين أن يخلقوا نخبة إقليمية تخدم مصالحها على مدى عدة أجيال. ولد مراد المرادي (ت. 1720 م)، جد المؤرخ محمد خليل، وترعرع في سمرقند في بخارى، لكنه غادر وطنه الأم للسفر ولنشر الطريقة النقشبندية في جميع أنحاء المشرق العربي. استقر مراد في دمشق في سبعينيات القرن السابع عشر وأقام بها باعتباره أول ممثل للنقشبندية المجددية. في استنبول، حيث أقام مراد من منتصف الثمانينات من القرن السابع عشر، منحه السلطان محمد الرابع (حكم بين 1648-1687 م) ضرائب عدد من المزارع لمدى الحياة في منطقة دمشق. على هذه الأسس الدينية والسياسية والاقتصادية، بدأ مراد سلالة من العلماء التي لعبت دوراً فريداً في الحياة السياسية والدينية للمدينة خلال القرن الثامن عشر. حتى العشرينات من القرن التاسع عشر كانت عائلة المرادي تتزعم الطريقة النقشبندية في دمشق، وهيمنت على منصب المفتي الحنفي من النصف الثاني من القرن الثامن عشر حتى القرن التاسع عشر. الارتباط بكلا المنصبين يشير إلى قدرة الأسرة على العمل كحلقة وصل بين السلطات في استنبول والدمشقيين الأصليين.

ويدل الارتباط بين الإفتاء ومنصب التدريس في السليمانية على الهيمنة التدريجية لصيغ الرعاية العثمانية – لفترة كانت هذه المناصب حكراً على العثمانيين وغير الدمشقيين – من خلال عناصر رئيسية في النخبة الدمشقية، حتى لو كانت هذه النخبة من أصل حديث نسبياً، كما هو الحال مع عائلة المرادي.

غير أن منصب التعليم في السليمانية لم يكن أكثر المناصب التعليمية المرموقة في المدينة. هذا الشرف ذهب إلى منصب الحديث تحت القبة المركزية للمسجد الأموي. كان المسجد الأموي، والمعروف أيضا باسم المسجد الكبير، مركزاً للحياة الدينية والسياسية في دمشق منذ القرن الإسلامي الأول. القبة المركزية، والمعروفة باسم قبة النسر، تمثل ملتقى جناحين طويلين داخل المسجد. كانت المنطقة التي تقع تحت القبة هي موقع الحلقة، أو دائرة التدريس، المكرسة لدراسات الحديث منذ ما قبل العصر العثماني[6]. ولكن قدم العثمانيون الدعم المالي لإضفاء الطابع المؤسسي على المنصب. تم إنشاء الوقف المخصص لوظيفة قبة النسر من قبل بهرام آغا كتخدا أو وكيل والدة السلطان إبراهيم (حكم بين 1640-48)، في وقت بين 1640-41. هذا الوقف تم تمويله من بناء السوق الجديد والخان بالقرب من باب الجابية. كان يُدفع للمعلم 60 قرشاً، ولمساعده “المعيد” 30 قرشاً. أما الوقفية، وهي الوثيقة التي تحدد شروط إنشاء الوقف، فقد نصت على أن المعلم يقرأ من مجموع أحاديث البخاري بعد صلاة المغرب خلال الأشهر الثلاثة من رجب وشعبان ورمضان.

التعيين في هذا المنصب يتم في استنبول من قبل شيخ الإسلام. هناك العديد من القصص في كتب سير المرادي، وكذلك في سرد محمد بن كنعان المتعلق بالنصف الأول من القرن الثامن عشر، والتي تشير إلى أن هذا المنصب كان مرغوباً فيه بشكل كبير، وأن درجة عالية من الترقب كانت تحيط بإعلان تعيين جديد[7]. على الأغلب كان من الواجب على الطامحين لهذا المنصب إما السفر إلى استنبول لتقديم وثائق تأهيلهم شخصياً أو أن يفعل شخص ذلك نيابة عنهم. لهذا التعيين، وللعديد من المناصب الأخرى التي لدينا معلومات عنها، فإن من يملك القرار النهائي هم المسؤولون العثمانيون، وخاصة شيخ الإسلام باعتباره قمة التسلسل الهرمي.

وفقا لمصادر السير الذاتية، كان من المعروف أن هذا التعيين محجوز لأهم عالم بين علماء الشام. بين أوائل القرن السابع عشر، عندما تم إنشاء المنصب الوقفي هنا، حتى أواخر القرن التاسع عشر عندما كانت هذه التعيينات لا تزال تحصل، تولى هذا المنصب 17 عالماً من علماء الحديث. من بين هؤلاء العلماء، كان أحد عشر منهم أو 65٪ من الشافعيين، و13، أي أكثر من ثلاثة أرباعهم، كانوا دمشقيين أصليين. على الرغم من أن تمويلهم كان من قبل الوقف العثماني، فإن هذا المنصب يعكس بشكل أكثر وضوحاً الأصول والانتماءات المحلية لشاغليه، أكثر من منصب السليمانية.

خلال القرن السابع عشر، كان منصب قبة النسر يمنح في كثير من الأحيان لأصحاب المناصب القانونية والدينية الهامة الأخرى، مثل المفتي الشافعي أو الحنفي أو الخطيب الرئيسي في المسجد. في القرن الثامن عشر، اقترب المنصب من تحقيق غرضه المعلن كمكان مخصص لعالم الحديث الأبرز في المدينة، بغض النظر عن الأصل أو الروابط الأسرية. خلال أواخر القرن الثامن عشر وحتى القرن التاسع عشر، الأسرة العلمية التي استحوذت على منصب التدريس تحت قبة النسر كانت عائلة الكزبري الشافعية.

في معركة الشد بين الميول المركزية في استنبول والميول المحلية لبعض علماء دمشق، فإن حقيقة كون هذا المنصب في أكثر الأحيان بأيدي علماء الشافعية المحليين يشير إلى أن الدولة العثمانية كانت تأخذ المشاعر المحلية بعين الاعتبار. المذهب الشافعي كان المذهب المهيمن قبل مجيء العثمانيين وإقامة المذهب الحنفي باعتباره المذهب الرسمي للدولة. يمكن النظر إلى الوضع الخاص لمنصب قبة النسر على أنه يمثل مقياساً للجهود المحلية لمقاومة عملية “التحنيف”. حقيقة أن هذا المنصب كان محجوزاً لأكبر عالم حديث في المدينة يشير إلى أنه في حين أن السليمانية البرانية كانت محجوزة للعالم الفقهي الرئيسي في المدينة، والذي ينبغي أن يكون حنفياً، فإن دراسات الحديث كانت المجال الذين يمكن فيه للشافعية أن يبلغوا ذروة تخصصهم.

المنصب التعليمي الثالث الهام – بعد السليمانية البرانية وقبة النسر – كان في السليمية في الصالحية. تأسست الصالحية أصلاً من قبل اللاجئين الحنابلة من فلسطين الفارين من الفوضى التي حدثت في أعقاب الحروب الصليبية خلال القرن الثاني عشر. وعلى مدى الأجيال التالية، أصبحت مركزاً تعليمياً مليئاً بالمدارس. واليوم هي أحد ضواحي دمشق الشمالية، على الرغم من أن الشارع الرئيسي لا يزال يعرف باسم “بين المدارس”. قام السلطان سليم الأول (حكم بين 1512-1520 م)، الفاتح للأراضي العربية، بوضع بصمته على دمشق من خلال تأسيس مسجد وتكية، وهو مبنى مصمم لاستضافة الصوفية وتجمعاتهم، على ضريح محيي الدين ابن العربي الصوفي الأندلسي الذي استقر وتوفي في دمشق. خلال القرن السابع عشر، كانت السليمیة ملحقة بأصحاب المناصب الهامة مثل إفتاء الحنفية، وخطابة المسجد الأموي، والنقابة، أي منصب نقیب الأشراف، وهو رأس أولئك الذین ادعوا نسبتهم لعائلة النبي. وبحلول منتصف القرن 18، أصبحت حكراً على عائلة النابلسي، وهي عائلة بارزة من مدينة دمشق المسوّرة، وفي وقت لاحق من حي الصالحية. منذ عهد عبد الغني النابلسي (ت. 1731) أصبحت هذه العائلة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالصوفية، خصوصاً التصوف الأكبري، ذلك التصوف ذو التوجه التأملي والفكري المرتبط بابن عربي، “الشيخ الأكبر”. من بين المعلمين العشرة الذين درّسوا في السليمية بين أوائل القرن السابع عشر ومنتصف القرن الثامن عشر، جميعهم – ما عدا واحد – من أصل دمشقي. ستة كانوا من الحنفية، وثلاثة من الشافعية، وواحد تحول من الشافعية إلى المذهب الحنفي قبل تعيينه في المنصب.

منذ منتصف القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن الثامن عشر، كان حوالي نصف شاغلي الوظائف – ثلاثة من السبعة – من عائلة النابلسي. توضح حيازة عائلة النابلسي على السليمية جوانب رئيسية من تقدم العلماء الدمشقيين بين أوائل القرن السابع عشر والنصف الأخير من القرن الثامن عشر. النابلسية من القادمين الجدد نسبياً إلى دمشق، (على الرغم من أن جذورهم في المدينة أعمق من عائلة المرادي)، ولكنها أصبحت عائلة شافعية بارزة في منتصف القرن السابع عشر. إسماعيل بن أحمد النابلسي (ت. 1585 م) كان مفتياً شافعياً[8]. حفيده إسماعيل بن عبد الغني النابلسي (ت. 1652)، تحول من الشافعية إلى المذهب الحنفي، وكانت هذه الممارسة شائعة عند من يسعون للتقدم في التسلسل الهرمي العثماني. كان هو أول النابلسية الذين يتعينون في السليمية. ابنه، العالم الصوفي، والمفكر الأكثر شهرة في دمشق خلال هذه الفترة، عبد الغني النابلسي، عمل لفترة وجيزة مفتياً للحنفية بمبادرة من علماء دمشق، قبل مناورة على هذا المنصب من قبل منافس محلي حصل على موافقة شيخ الإسلام[9]. الشخصية الثالثة من عائلة النابلسي التي واصلت هذا التقليد هي إسماعيل بن عبد الغني (ت.1750 م).

pastedGraphic_2.png

عبد الغني النابلسي هو أكثر الشخصيات شهرة في دمشق في القرن الثامن عشر. وحقيقة أنه حُرم من منصب المفتي الحنفي على الرغم من الإشادة الواسعة النطاق به بين العلماء والجمهور عامة، هو مؤشر على أنه كثيراً ما كان على خلاف مع السلطات الإمبراطورية. وكان أيضا في وسط “الحرب الثقافية” في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر التي أثارها مصلحون معادون للتصوف ضد بعض الممارسات الصوفية. كانت حركة قاضي زاده، والتي تعرف عادة بالإصلاحية، أكثر نشاطاً في استنبول، ولكن عندما رد النابلسي على هجماتهم، كانت الحركة قد أصبحت واسعة الانتشار في دمشق[10]. دافع النابلسي عن زيارة القبور، والاستماع إلى الموسيقى، وتدخين التبغ، وفي رأيه الخاص حول المكانة الدينية الخاصة لليهود والنصارى، رد بلهجة عرقية على التركي “الرومي” الفاسد الذي لم يفهم إسلام العرب. دفاعه الدؤوب عن التصوف، وتمكنه من فكر ابن عربي (موضوع دروسه في السليمية)، وسلسلة من الرحلات إلى المناطق النائية السورية جلبت له شهرة في جميع أنحاء بلاد الشام بين النخبة العلمية وكذلك بين أتباع ذوي خلفيات أكثر تواضعاً. عندما توفي في سن ال 90، كان قد ترك وراءه نواة قوية من التلاميذ ومجموعة من المخلصين الذين حملوا تراثه الفكري والروحي، الذي لا يزال مؤثراً حتى يومنا هذا.

مُنح النابلسي في نهاية المطاف منصباً تعليمياً على قبر ابن عربي، وهو ما يشير إلى درجة من التقدير من جانب السلطات المركزية لمكانة النابلسي المحلية، فضلاً عن الأهمية المحلية والإقليمية للصوفية والصوفية الأكبرية على وجه الخصوص.

مع منصب التدريس في السليمية (خاصة مع عبد الغني النابلسي وذريته الذين يشغلون ذلك المنصب)، إلى جانب منصبي التدريس الآخرين البارزين، يتم التقسيم الفكري والمهني الثلاثي الاتجاه. كانت السليمانية مقراً لأعلى شخصية في المؤسسة الفقهية المحلية، وهو مكان مناسب للحفاظ على الاتجاه العام للإمبراطورية في الفقه والإدارة بما يلائم الخطوط الحنفية المنصوص عليها. وحُفظ المنصب تحت قبة النسر لأبرز عالم بالحديث في المدينة، وهي إيماءة هامة للشافعية المحلية. دراسات الحديث هي بذاتها اعتراف مناسب بالروابط العمودية التي أنشأتها تقاليد النقل الشفهي للمعرفة والتي تربط المعلمين وطلابهم خلال الأجيال. وفي حالة قبة النسر، مرت هذه العلاقات عبر أعظم المقدسات المحلية في دمشق. وهذا أمر مثير للجدل مثل شخصية النابلسي الذي سيجد نفسه بالقرب من نهاية رحلة حافلة طويلة بالدفاع عن التصوف يستقر فوق قبر “الشيخ الأكبر” بعيداً عن وسط المدينة، وهذا الرمز يفيد في توضيح التعديلات التي كانت ضرورية لاستيعاب المشاعر المحلية والإقليمية.

الفقه الحنفي، وعلم الحديث الشافعي، والتصوف الأكبري تميز معظم حقول النخب التعليمية، وكان من أبرز ممارسيها شخصيات مثل محمد خليل المرادي وعبد الغني النابلسي، وقد مُنحوا مناصب تدريسية مثل تلك الموجودة في السليمانية البرانية، تحت قبة النسر، وفي السليمية، في توازن دقيق بين الدفع والجذب بين النزعة المحلية الدمشقية وامتيازات الدولة المركزية.

  • Social Links:

Leave a Reply