الثورة السورية وضرورتها، الثقافة نموذجًا – محمود الوهب

الثورة السورية وضرورتها، الثقافة نموذجًا – محمود الوهب

الثورة السورية وضرورتها، الثقافة نموذجًا

محمود الوهب

قد لا يكون للثورة السورية برنامجها السياسي، وقد لا يكون لها حزبها الموجه الذي يملك رؤية محددة وأفقًا واضحًا، وقد تفتقر إلى القائد الملهم المتمتع بشخصية جاذبة كما يقال.. وقد ينقص، كذلك، الذين يمثلونها في المحافل العامة كثير من الخبرات، وقد يقال -أيضًا- كثير عن أخطائها، إضافة إلى الصراعات الجمًّة التي تحكم مسارها؛ ما يجعلها بعيدة عن بلورة مواقف سياسية أو تنظيمية تمكِّنها من كسب ثقة القاعدة الشعبية على نحو أوسع، وأشمل، إضافة إلى ما قد يعتريها -في مثل هذه الحال- من ضغوط دولية للاحتواء، وبما يضخ من مال سياسي، في جيوب بعض من يطفو على سطحها أو يكون في واجهتها.

قد يقال كلُّ ما ذكرته، هنا وهناك، وقد يكون بعضه صحيحًا، أو مبالغًا فيه، ولعله لعب دورًا سلبيًا، ومؤثرًا في مسار تلك الثورة، لكنه أبدًا لم يلغ جوهرها، أو يطمس معالمها، والأهم أنه لم يقلل من ضرورتها الموضوعية، أو يخفيها مطلقًا. والضرورة التي أعنيها هنا، هي تلك الحاجة المجتمعية الملحة، لمتابعة النمو والازدهار وفقًا لقوانين الحياة الطبيعية، بعد أن وصل المجتمع السوري إلى نوع من الموت، على الرغم من المظاهر المفتعلة بالطلاءات البراقة! ويمكن القول بصورة أوضح:

إنه من أجل أن تعود الحياة إلى سيرورتها الطبيعية؛ سيرورتها المنبثقة من موت ما أصابها، على نحو أو آخر، في عمق المجتمع السوري وروحه الإبداعية، كان لا بد من حدوث ما حدث، وفق قوانين الحياة ذاتها، وسواء جاء ذلك الموت على جانب واحد من جوانب حياة الناس، أو على جوانب كثيرة متعددة، فقد شكَّل ذلك النوع من الموت حجر عثرة في وجه تلك السيرورة نموًا وإبداعًا وتجددًا لتحقيق الغاية المضمرة في حركة الحياة المستمرة صعودًا وارتقاء وفق آليات النمو والتوازن اللذين تفرضهما قوانين الحياة الطبيعية في كل مجال من مجالاتها.

ولعلَّ هذا الأمر ملحوظ بوضوح تام في ما أنتجته الثورة السورية حتى الآن، فما إن يلقي المتابع نظرة عامة على حال الإبداع في مجال الثقافة فنونًا بأنواعها المختلفة المتكاملة، وآدابًا بأجناسها المتناسلة بعضها من بعض؛ حتى يتأكد له أن الثورة في عمقها قد فتحت أبواب الإبداع الثقافي واسعة أمام أفراد الشعب السوري.. وقد كانت موصدة إلى درجة الموت المشار إليه.

نعم إنَّ من ينعم اليوم إلى هذا الكم الهائل الذي خلفته السنوات الست الماضية من إنتاج ثقافي شامل، على الرغم من كل ما يقال عن الثقافة والمثقفين، وخصوصًا بين جيل الشباب، لابد له من أن يتلمس هذا الأمر في مجالات الثقافة كافة. يتلمسه في عشرات الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية التي صدرت في الداخل البعيد عن عيون السلطة، وفي مناطق اللجوء، ومن بينها كثير مما استوفى شروطه الصحافية الراقية، رفيعة المستوى، ولا أريد هنا الإشارة إلى مطبوعات بعينها لئلا أقع في دائرة التخصيص، والمفاضلة، لكن تلك المطبوعات، أو المواقع الإلكترونية معروفة، ويعمل فيها أضعاف ما كان يعمل في الصحف السورية الثلاث، أو في تلك المجلات التي كانت تتبع لهذه الوزارة أو تلك، أو يصدرها هذا الاتحاد أو ذاك، وكتّابها ثابتون، ومحفوظون لدى القارئ المنصرف عنها، وعن كتّابها وما يكتبون..! ولا يفوتنا في هذا المجال ذكر مراكز الأبحاث والدراسات التي كانت شبه معدومة، وفي حال وجودها؛ فإنها تعمل بإشراف أجهزة الأمن مباشرة. أما إذا تركنا الصحافة وانتقلنا إلى حقل السينما اليوم، فإنَّ عشرات الأفلام السينمائية الوثائقية، قد غزت العالم وكثير منها نال جوائز في مسابقات دولية لها معاييرها وقيمها الفنية. كذلك يمكننا في هذا المجال رصد كثير من الفرق المسرحية التي قدمت نصوصًا قد تكون بسيطة، ومستوحاة من واقع الحال، وعلى نحو مباشر، لكنها كشفت عن مواهب إبداعية في كثير من فنون المسرح، ومثل ذلك يمكن أن يقال عن الفرق الموسيقية، وكذلك عن لكثير من الإذاعات وكثرة العاملين فيها من جيل الشباب. كذلك لابد من الإشارة إلى المنتديات الثقافية التي يؤمها أكثر مما كان يؤم المراكز الثقافية في المدن الكبيرة كدمشق وحلب. وذلك لا يعني –بالطبع- أن الثقافة والمثقفين بلا معاناة في حقول كثيرة، وبخاصة هؤلاء الذين يعملون في المسرح والدراما عمومًا، بسبب الغربة والتشتت، ولكنني وجدت أهمية الإشارة إلى هذا الكم الهائل من الإبداع والمبدعين، وهذه المواهب التي كانت مقبورة قسرًا، فالأبواب موصدة بوجهها، بسبب ما يخلفه الاستبداد من تضييق وتهميش وإقصاء، فضلًا عن تفاهة التعويضات التي لم تكن لتتجاوز -في ذلك الوقت- الخمسة عشر دولارًا في مجال الكتابة: مقالة أو قصة أو قصيدة شعر.. أما المجالات التي يمكن أن يكون فيها تعويضات مجزية، فكانت تخصص لمن هم من عظام رقبة النظام، ما دفع كثير من المثقفين للهرب إلى دول عربية أو أجنبية أخرى، ليلعبوا دورًا مهمًا في الثقافة، بعيدًا عن أوجاع موطنهم الأصلي.. ولكن، ولأن الحياة تأبى إلا أن تكون الأقوى..

إنَّ المثقفين السوريين مثل (تلك النبتة التي تشق أديم الأرض، مهما كان قاسيًا، معبرة عن قوة الحياة وجمالها وحيويتها)، وهم الآن في انتظار الفرصة المواتية للعودة إلى وطنهم الأم؛ ليعيدوا بناء ما تهدم، وليستكملوا أسباب التنمية في ميادينها الأساسية، بعد أن اكتسبوا خبرات واسعة تحت ظلال الحرية التي هي أهم شرط من شروط الإبداع.

  • Social Links:

Leave a Reply