الدستور باب للعبث أم نافذة للتغيير – هوازن خداج

الدستور باب للعبث أم نافذة للتغيير – هوازن خداج

لم تغب قضية الدستور عن الواقع السوري، فمنذ بدء الحراك كان تعديل الدستور جزءًا من المطالب الشعبية، ومع أزيز الرصاص الذي كان يخترق سورية والسوريين، ووسط مقاطعة الكثير من أطياف الشعب السوري، أصدر النظام السوري المرسوم رقم (85) في شباط/ فبراير 2012، للاستفتاء حول دستور جديد لا يختلف في الجوهر عن سابقه، وبحسب ما أعلن وزير الداخلية السوري اللواء محمد إبراهيم الشعار، بلغ عدد المشاركين في الاستفتاء 8376447، ونسبة الموافقين منهم على الدستور 89.4 بالمئة، بينما نسبة الرافضين فهي 9 بالمئة.

لم يلق الاستفتاء على الدستور الكثير من الترحاب من قبل العديد من الدول؛ إذ اعتبرته هيلاري كلينتون استفتاءً مزيفًا، وتبريرًا لأحداث العنف التي يمارسها النظام السياسي السوري، ووصفه وزير الخارجية الألماني بأنه مهزلة، لم يكن في حقيقة الأمر سوى محاولة بائسة ومتأخرة من قبل النظام للظهور بأنه يحقق مطلبًا شعبيًا، لإظهار الاحتجاج الشعبي والمطالبة بالكرامة والحرية المصونتين في الدستور السوري أصلًا، على أنه احتجاج على بعض البنود كقانون الطوارئ والمادة (8) التي تنصّ على قيادة حزب البعث للمجتمع والدولة، وهذا ما تمّ إلغاؤه في الدستور الجديد الذي لم يقدّم جديدًا عن دستور 1973 من الناحية الدستورية، بل كان إعادة إنتاج له في تكريس حكم الفرد والاستبداد، عبر إمساك الرئاسة بكافة السلطات (التنفيذية والتشريعية والقضائية)؛ ما جعله بعيدًا كل البعد من المأمول أو ما كان متوقعًا من قبل الكثيرين في تقييد سلطة الحكم، على الرغم من إقراره مبدأ التعددية السياسية. فمعادلة الدستور، باعتباره عقدًا اجتماعيًا يحدّد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بقيت غائبة نصًا وتطبيقًا، والمواطن السوري الذي تحميه بعض نصوص الدستور تُسقِط حمايته سلطة الأمر الواقع، والقوانين المعطلة لتطبيق هذه النصوص التي تصبّ أولًا وأخيرًا في مصلحة السلطة الحاكمة.

دستور سورية 2012 لم ينهِ الاحتجاجات أو يساهم في حلّ الأزمة السورية، التي تصاعدت أحداثها ودمويتها لتصير حربًا كارثية لا ينهيها نقاش يقارب بين وجهات النظر للمتباحثين بالشأن السوري من أطراف الصراع السوري: “النظام والمعارضة”، ومن الدول التي تقود المباحثات للتشاور حول كيفية حفظ الأمن والسلم في سورية، بما تمثِّله من عنوان لقلب الاضطراب السياسي العالمي وقضية ساخنة، تنتقل رغبة تسوية الأوضاع فيها من مؤتمر إلى آخر، وتتبدّل صياغة خطوات حلولها، ومن بينها قضية الدستور السوري الذي صار أولوية في جولات التفاوض لحل الأزمة السورية، فاعتبره المبعوث الأممي الخاص إلى سورية ستيفان دي ميستورا سلّة مهمة، في محاور التفاوض بين طرفي النزاع (النظام والمعارضة). واعتبر الروس أنفسهم مكلَّفين بوضع دستور سوري جديد، أعدّه خبراء روس وعرضوا مسوّدته في ختام جولة (أستانا 1) المنعقدة لمناقشة القضايا العسكرية بتاريخ 23-24/ 1/ 2017. فروسيا الساعية للهيمنة على المسارين العسكري والسياسي، أخذت على عاتقها تمرير نسخة من دستور، لا يبتعد في بنوده وألغامه عن دستور رئيس إدارة الاحتلال الأميركي في العراق بول بريمر في العامين 2003-2004، الذي وضعه ليشرعن الانقسام الطائفي والتقسيم المقنّن بالدستور. لاقت نسخة الدستور الروسي لسورية الكثيرَ من الرفض لجملة من الاعتبارات، منها أنها خطوة ضمن سلسلة الخطوات المدروسة التي تنتهجها روسيا، للوصول إلى حلّ سياسي على طريقتها في سورية، ولكونها ألغت عروبة سورية وديانة الرئيس، ولأن الدساتير لا تصنع في الخارج وإنما يتمّ إنتاجها وطنيًا، فتوجّهت الأنظار الروسية، عقب مؤتمر الحوار السوري في سوتشي، نحو تشكيل لجنة تجمع ممثلي النظام والمعارضة والخبراء والمجتمع المدني لصياغة الدستور بإشراف دي ميستورا. فإعداد دستور لسورية صار المدخل الرئيس لخرق الاستعصاء السياسي، والولوج في حلّ الأزمة، بعد أن كان حلّها متعلقًا بهيئة حكم انتقالي توافقية، من مهامها تشكيل لجنة لكتابة الدستور في مؤتمرات جنيف.

دستور لسورية وتشكيل اللجنة الدستورية أصبح الآن حلقة أساسية في مؤتمر أستانا والدول الراعية له والضامنة لخفض التصعيد “موسكو وطهران” حليفتا النظام في “السراء والضراء”، وأنقرة التي تحتضن “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” أحد كيانات المعارضة الرسمية، كما صار أولوية بالنسبة إلى الرئيس الروسي بوتين الذي يبذل كلّ جهوده لاستثمار الانتصارات في الغوطة الشرقية وغيرها، وتتويجها بحلّ سياسي للنزاع يعتمد على صياغة دستور لسورية، حسب ما نوَّه إليه في المؤتمر الصحفي المشترك مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، على هامش منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي، وفي لقائه الرئيس الأسد في سوتشي لبحث تطورات الملف السوري. ووافقت دمشق على إيفاد وفد سوري إلى اللجنة الدستورية لدى الأمم المتحدة للمشاركة في العمل على صياغة الدستور المقبل لسورية، وبحث العملية السياسية تطبيقًا لمخرجات مؤتمر الحوار السوري، وسلمت الخارجية السورية لروسيا وإيران أسماء (50) مرشحًا لأعضاء لجنة مناقشة الدستور، وكذلك بدأت في المعارضة العمل على إعداد قائمة مرشحين لتقديمها إلى الموفد الأممي، على أن تتكفل الأمم المتحدة بالتشكيلة النهائية والإشراف عليها بمرجعية القرار الدولي الخاص بسورية رقم 2254. بغض النظر عن الأسماء والبراعة القانونية لهذه اللجنة التي لا يعرف عنها السوريون شيئًا، بالرغم من كونهم معنيين بما ستصوغه، فإنهم أمام دستور جديد سيخرج قريبًا، ليحدّد شكل دولتهم ونظام حكمها وحدود السلطات العامة فيها، ويحدّد حقوق وواجبات السوريين وضماناتهم تجاه سلطة الحكم.

المعضلة السورية التي أدرك الجميع انعدام إمكانية حلّها بقوة السلاح، تقلّصت محدّدات تسويتها وحلّها سياسيًا، وسط مساومات الدول المتداخلة عمليًا في سورية، لترسو مؤخرًا على صياغة دستور. وهذا الأمر -على أهمّيته- لن يكون حلًّا لأيّ أزمة سورية آنية، فمهما كان هذا الدستور مدروسًا واستثنائيًا، في تلبية طموحات السوريين للوصول إلى دولة المواطنة والعدالة والحرية والديمقراطية، لا يمكن إنجازه إلا عبر حوار سوري واسع النطاق، من دون وجود سقف أو نماذج مسبقة الصنع، بحيث يتضمن مبادئ دستورية أساسية توضّح هوية سورية الوطنية الجامعة، لبناء الثقة بين مختلف مكونات المجتمع القومية والدينية والطائفية، كما لا يمكن تفعيله في ظلّ سلطة تتجاوز هذا الدستور دون رادع، وتعمل على تعطيله عبر سنّ قوانين تخالف نصوصه وتسعى لتجريد الشعب من القدرة على الاستناد إلى دستور لحمايته؛ ما يجعل هذا الدستور معطَّلًا ومجرد حبر على ورق، ويجعل تعديل أو صياغة دستور جديد بابَ عبث آخر، لا ضامن يجعل منه نافذة على اقتراب لحظة التغيير أو فرصة للخروج نحو مستقبل جديد من السلام والديمقراطية.

  • Social Links:

Leave a Reply