غرفة العناية المشددة – تاج الدين الموسى

غرفة العناية المشددة – تاج الدين الموسى

غرفة العناية المشددة

تاج الدين الموسى .

منذ أن وجدت نفسي عارياً بمواجهة الموت، مجرداً من أي سلاح، سوى حبي الحياة، التي كنت أبصق عليها، كلما ضاقت بي، عندما كنت بصحتي، وهي التي قلما اتسعت لي، ولأمثالي، زاعماً أن الموت أحسن منها، وأنا أعيش حالة من انعدام الوزن، وكأني لست أكثر من ريشة سقطت من ذيل عصفور دوري، على رصيف شارع واسع، موحش، يخلو من العابرين، وأخذت تنتظر مرور العاصفة، لتحملها بعيداً، وترميها في مدخل نفق مظلم، يؤدي إلى عالم مجهول، لا أمتلك أي تصور عن شكله النهائي، لهذه اللحظة…
اثنا عشر يوماً مرت منذ اكتشاف الورم السرطاني الذي استباح حياتي، ودخولي غرفة العمليات، للمرة الثالثة، لاستئصال رئتي اليسرى، التي استوطنها الورم، في محاولة محمومة من الأطباء لمنعه من التسلل منها إلى رئتي اليمنى، ومناطق أخرى في جسدي، إذ تم في الدخول الأول، قبل اثني عشر يوماً، إجراء عملية تنظير للقصبات؛ الممر الإجباري لدخان السجائر إلى جهات الرئة، من قبل طبيب الصدرية، الذي عبر من البلعوم إلى الرئة بمنظاره، وخراطيمه، ليكتشف الورم، ويأخذ منه خزعة، يرسلها إلى المخبر، الذي أكد من خلال تشريح الخزعة أن الورم من النوع الخبيث، المتقدم، بدرجة ثلاثة على أربعة… وفي الدخول الثاني، قبل ثلاثة أيام، إجراء عملية تنظير للمنصف؛ المنطقة الفاصلة بين طرفي الصدر من الأعلى، إذ أحدث الطبيب الجراح فتحة هناك، تحت تفاحة آدم، دخل منها إلى الصدر، وأخذ خزعة ثانية، للتأكد من أن الورم لم يتمدد إليها، وأنا مشغول بتخمين الزمن الذي بقي لي في الحياة، وتصور شكل موتي، وماذا سيحلّ بجسدي بعد أن تفارقه روحي، وهل سترافق الروح موكب الجنازة على شكل طائر، حسب زعم أمي، إلى المقبرة، قبل أن تتوجه إلى السماء، بعد الدفن، ولقائي أنكر ونكير، ومجلس العزاء الذي سيقام لي، وماذا سيحل بأفراد أسرتي بعدي…
أو ماذا سيحل بالمشاريع المتعلقة بالكتابة المحفوظة على جهاز الكمبيوتر، منها عنوان رئيس وعناوين فرعية لمشروع كتابة رواية… قصص تحتاج إلى نهايات… مشاريع لقصص… عناوين لزوايا… لمقالات…
اعتقدت أن بداعة تكوين الممرضة، الذي يبزّ شكل نساء الجنة، الموصوفات في الكتب السماوية، على هيئة حوريات، ورائحة عطر الياسمين الخفيفة التي تفوح منها، وصوت أم كلثوم الهامس:” دارت الأيام، ومرت الأيام ” الذي ينبعث من مكان قصي في غرفة العمليات، آخر ما سآخذه معي إلى النفق المظلم…
قلت للطبيب الجراح، المنهمك بتجهيز نفسه، ومعداته، لإجراء العملية الجراحية، بصوت مشحون بشجاعة مزعومة، ومزاح مصطنع، وأنا متمدد على ظهري فوق ما يشبه السرير المجهز لإجراء الجراحة، لا شيء يغطي جسدي إلى الركبتين سوى مريول أخضر، مفتوح الظهر، أتأمل وجه الممرضة، والجزء الظاهر من صدرها، وأشم رائحة ياسمينها، وهي منحنية فوقي ترسل في وريدي كمية من المخدر ستجعلني أغيب عن الدنيا لما يقرب من خمس ساعات:
ـ أم كلثوم في غرفة العمليات يا دكتور؟!
ـ وما المانع يا أستاذ؟ أصلاً لا شيء يجعلني رائقاً، والطاقم الطبي الذي يعمل معي، لنبدع في العمل، أكثر من صوت أم كلثوم…
غبت، بعد ثوان، ولا شيء في خاطري سوى الرغبة الشديدة بالعودة إلى الحياة، والتمسك بكل ساعة بقيت لي فيها، من أجل رؤية وجه امرأة مشرق على الأقل، كوجه الممرضة، واستنشاق رائحة منعشة، كرائحة الياسمين، والاستمتاع بصوت رائق، كصوت أم كلثوم…
بين الغيبوبة والصحو، وهم يخرجونني من غرفة العمليات، على سرير بأربع عجلات، بعد استئصال الرئة اليسرى المصابة، ويتوجهون بي صوب قسم العناية المشددة، عبر ممر مزدحم بصور غائمة لأفراد أسرتي، وعدد من أقربائي، ومعارفي، وأصدقائي، حضر إلى ذاكرتي المشوشة مطلع النشيد الرابع، من كوميديا دانتي أليجييري الإلهية، إذ استيقظ من غيبوبته، وهو يعبر أحد فصول جحيمه، ليجد نفسه على حافة الهاوية، قبل أن يرسم أحلامه بالوصول إلى المطهر، فالفردوس…
قصف رعد عنيف أيقظني، من الغيبوبة التي خطفتني، وكأنها أياد قوية تهزني…
نهضت وطفت بعيني المرهقتين، أتعرف على معالم المكان الغريب، الذي وجدت نفسي فيه…
أقول الحق: وجدتني على شفير واد، يدعى هاوية الألم، حيث يتدحرج فيه العويل الأبدي كأنه الرعد…
واد سحيق معتم كئيب، حدقت في هوّته فلم أجد شيئاً، ولا شاهدت قاعاً…
ـ عطشان…
أول همسة متحشرجة خرجت من بين شفتي اليابستين فور دخولي قسم العناية المشددة، وأنا مربوط، ومكبل، بخيوط وحبال وخراطيم موصولة بمجموعة أجهزة تحيط بي من كل جانب، كل واحد منها يصدر صوتاً مميزاً، ويرسم خطوطه المتعرجة على شاشة مستقلة…
انزاحت إحدى الستائر، التي تحيط بي من كل جانب، وتقسم بهواً في الطابق الأول من المستشفى إلى غرف عناية مشدّدة، وحضر شاب أسمر ثلاثيني ممتلئ، عرفت من اللوحة المعلقة على صدره أنه طبيب العناية المناوب، برفقة امرأة أربعينية شقراء، نحيفة، عرفت أيضاً من اللوحة المعلقة على صدرها أنها الممرضة المناوبة في القسم نفسه، بيدها كأس ماء، تناول الطبيب الكأس، ونقّط لي فوق شفتي ثلاث نقط لا تبل رأس منقار طائر” أبي الحنّ ” وأعاد الكأس إلى الممرضة…
ـ لكني عطشان يا دكتور…
ـ كثرة الماء تؤذيك…
قالها على نحو حاسم، وخرج مع مرافقته، إلى جحيم الغرفة الثانية، التي كانت تضم مريضاً خرج من غرفة العمليات قبلي، ولم تكن تفصلني عنه سوى ستارة، وكان ينازع، وقد فارق الحياة قبل انتصاف الليل، ولم يبق غيري في قسم العناية، ليتهيأ لي أن عزرائيل سيزورني بعد أن يغسل يديه من جاري…
ـ قلبي يؤلمني يا دكتور, وريقي ينشف, بودي أموت…
انزاحت الستارة عن الطبيب، والممرضة، ونقطوا فوق منقاري خمس نقط…
ـ أريد المزيد من الماء يا دكتور… سأموت من العطش…
ـ قلت لك إن الماء يؤذيك, ولا بد من أن تصبر على العطش، حتى تصحو من التخدير…
ـ أنا صحوت من التخدير يا دكتور… دخيل عرضك… ثم إني أحس بأن قلبي سيتوقف عن الخفقان…
ـ قلبك يعمل أحسن من قلبي… انظر إلى جهاز المراقبة فوق سريرك… الليل انتصف، ولا ينفعك الآن غير النوم…
خرج الطبيب، وخرجت الممرضة وراءه، لأسمع بعد قليل مسحوقاً لأنين لا يشبه أنين المرضى، وآهات لا تشبه آهات المرضى، فتذكرت قصة ليوسف إدريس؛ شيخ كار كتاب القصة العرب، كان الطبيب فيها، وبعد أن فشل بإيقاف نزيف أحد المرضى، قد ترك المريض يحتضر، واستدار إلى الممرضة، ليستخدما معاً السرير الآخر في غرفة العناية المشددة مثلما يستخدم زوجان شابان سريرهما في غرفة النوم بنهاية السهرة…
حضر أهل المتوفى وهم ينشجون، ويعزون بعضهم بعضاً، ويقرؤون الآيات همساً، وخرجوا بعد وقت لم أتمكن من تقديره برفقة الميت, أو من دونه، فأخذت أجهز نفسي لاستقبال عزرائيل… وحين ظننت أنه سيزيح الستارة، ويدخل إليّ، ليقبض روحي، ندهت بصوت واهن مرعوب :
ـ أنا أموت يا دكتور… روحي وصلت إلى بلعومي… أين أنتم ؟
انزاحت الستارة فوراً, ودخلا: الطبيب، والممرضة… أخذ الطبيب كأس الماء من يد الممرضة، وسكب في فمي المفتوح على مصراعيه، وعلى ثلاث دفعات، نصف الكأس في هذه المرة، وأراني الجهاز الذي يراقب التنفس، وكيف أنه يعمل على نحو جيد… والجهاز الآخر الذي يرسم نبضات القلب، وأقسم لي بأن وضعي مطمئن…
ـ لكني خائف من أن ينفرد عزرائيل بي بعد أن تخرجا…
كتما ضحكتين لاحت على وجهيهما في ضوء العناية الخافت…
ـ والحل برأيك ؟
ـ الحل أن تسهرا عندي إلى أن ندرك الصباح… أصلاً لم يبق في قسم العناية المشددة غيري… وإذا لم تقبلا بمثل هذا الرأي، فاحضرا لي أحد أفراد أسرتي من غرفتي في الطابق الثالث، ليعينني على عزرائيل فيما لو حضر…
ـ أولاً، يا أستاذ، ممنوع إحضار أحد إلى غرف العناية، وثانياً نؤكد لك أن عزرائيل لن يزورك بعد نجاح جراحتك.. ثم إن الحديث يجهدك ويسبب لك مضاعفات أنت في غنى عنها…
ـ أنا أصمت… تحدثا أنتما…
ـ طيب في أي شيء تريد أن نتحدث؟
لأول مرة تتحدث الممرضة، وبعربية مكسرة, لأعرف أنها من أصل روسي… سألتني عن هوايتي فأجبتها: الأدب… فأنا أكتب القصة في أوقات الفراغ… قالت : الدكتور يحب كافكا, وأنا أحب تشيكوف, فعمن تريد أن نتحدث؟ قلت لها بالطبع عن حبيبي تشيكوف, لأن جحيم دانتي المرعب أرحم بكثير من صراصير كافكا العملاقة…
زعل الدكتور من قسوتي على كاتبه المفضل على ما يبدو, فخرج وترك لي الممرضة، التي جلست على طرف السرير، وشرعت تنقلني بين بعض قصص تشيكوف القصيرة, من المجلد الأول، من أعماله المختارة المترجمة إلى العربية، وكأنها تحفظها غيباً، لتدخلني بعد وقت قصير في عالم النوم اللذيذ، الذي أوصلني، بعد نحو خمس ساعات، إلى الفردوس المفقود، غرفتي في الطابق الثالث، ذلك حين أدركنا الصباح…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من آخر قصص الرفيق تاج الدين الموسى

  • Social Links:

Leave a Reply