إعلام الأنظمة في ظل فجيعتنا – رنا الصبّاغ

إعلام الأنظمة في ظل فجيعتنا – رنا الصبّاغ

إعلام الأنظمة في ظل فجيعتنا…

رنا الصبّاغ

الاختفاء المريب للصحافي السعودي جمال خاشقجي منذ حوالي أسبوعين والخبر المفجع عن قتله في قنصلية بلاده في إسطنبول يطرح قضية موازية عن العلاقة بين الميديا والسلطة ودور بعض الصحفيين في الإعلام الحكومي.

فقبل أقل من سنة كان خاشقجي جزءاً من هذا الاعلام المرتبط بـ”السيستم” الرسمي و”الدولة العميقة”.

وفي مقاله الأخير في جريدة “الحياة” قال إنه سعودي لكنه مختلف، وقوله هذا لم يرقَ  إلى حدود الانشقاق. وعلى رغم ذلك يُرجح أن يكون هذا الزميل ضحية هذا “الاختلاف” لأن الساسة والامنيين لا يرحمون من يقرر العودة الى جلده الصحفي.

خاشقجي لم يكن غريباً عن المشهد الإعلامي الداخلي في المملكة، وبهذا المعنى يبدو إختفاؤه وقتله فظيعاً ومقززاً، لا سيما إذا صحت المعلومات عن محاولات سابقة لاستدراجه عبر عروض عمل قدمت له. وهذه الحادثة المؤلمة قد تكون مناسبة لتناول قضايا من نوع علاقة الصحافيين بالسلطة والحكم ومدى صواب تدرجهم فيها.

وإذا كانت قضية خاشقجي حالة قصوى في مجال ما يواجهه الصحافيون من احتمالات، إلا أن هناك احتمالات موازية يجري فيها انتقال الصحافيين من موقعهم النقدي والرقابي إلى موقع في السلطة.

فقد شهدت عملية إعادة تدوير النخب السياسية العربية بما فيها الأردنية مؤخرا انخراط زملاء وزميلات، كانوا يصنفّون أنفسهم وكنا نصنفهم في خانة الصحفيين المثقفين والمستقلين في عالمنا العربي، في عمل الحكومات والدفاع عن سياساتها. في حالات البعض تابعتُ شخصياً عملية التخطيط التدريجي لمرحلة انتقالهم كصحافيين وكتّاب رأي يتمتعون بشعبية وصدقية نتيجة وضوح خطّهم التحريري والمهني وقدرتهم على البقاء خارج “السيستم” إلى نادي “أصحاب المعالي” ودوائر “صنع القرار” ودهاليز “الدولة العميقة.

لعّل دوافعهم تكمن في إعادة ترتيب أولوياتهم في الحياة أو لأسباب خاصة اقتنعوا بها ويحاولون إقناع من زاملهم أيّام “المهنية الإعلامية” التي باتت تتأرجح حول العالم، حتى في الدول ذات التاريخ العريق في الديمقراطية؛ مثل أمريكا ودول أوروبا وصولا إلى دول عربية في نادي الدكتاتوريات الناعمة والفجّة.

في النادي الرسمي الأردني الذي اختاره الزملاء والزميلات طوعا لا خيار إلا خدمة الأجندة الجديدة التي على الأغلب ستتعارض مع المبادىء والقيم والمثل التي عرفهم الناس بها من خلال كتاباتهم ودفاعهم عنها وربما دفع بعضهم ثمنها. فمن ينتقل من موقعه الصحفي الرقابي لن يستطيع العودة الى ما كان عليه.

منهم من يسأل نفسه، وهنا سأعرض ما يقولون متخففة من العربية الفصحى: “ليش أضل حامل السلم بالعرض، بينما يستسلم الجميع من حولي؛ سواء الأحزاب أو المجتمع المدني أو الناس التي تراجعت مطالباتها بالإصلاح السياسي أمام أولويات لقمة العيش، وضمان فرص عمل والحق في طرق آمنة وتعليم نوعي وخدمات صحية تليق بالحياة الآدمية”.

ويسأل أخر: “من سيقف معي إذا تعرضت للعقاب من السلطة بسبب رأيي المخالف بعد الردة الرسمية في الأردن واحتواء الأصوات المستقلة عبر استدراجها لوظائف عامة. وين بدّي أشتغل إذا طردوني من الوظيفة وأنا ما عندي مهارات أخرى ولا لغة ثانية وما بدي أشتغل في منصات الإعلام العربي الذي تكشفت حدود مهنيته أكثر فأكثر بعد الأزمة الأخيرة بين قطر والسعودية والإمارات. خلص بدي أمشيها بالطول وبالعرض”؟

زميل ثالث يقول: “لم أعد مسؤولا عن نفسي بعد أن تزوجت. اليوم صار عندي اولاد وديوني تتراكم. لا أملك ترف الحلم بامتلاك شقة بحجم علبة الكبريت بمعاشي المحدود وبفرش قليل، وعندي سيارة تقضي غالب وقتها في الكراج. هذا ناهيك عن أقساط مدارس تكسر الظهر لأنه بدّي أعطي أولادي فرص تعليمية أحسن من التي حظيت بها”.

ويعترف زميل آخر أنه يتفهم موقف من انتقدَه لأنه انضم للتعديل الحكومي الأخير في عمان بينما خسره القراء والمثقفون.

يقول “أبدا، أنا مش مختلف معك في جزء من الحديث والأمر مش سهل علي. بس كنت بشوف  انه لازم ندخل التحدي الواقعي وما نظل في مجال التنظير والنقد. هل يمكن بالفعل الإصلاح والتغيير أم ان الواقع أقوى؟…”.

بعض من قاد الانقلاب الطوعي على المهنة انقلبت حياته البسيطة رأسا على عقب وبات جزءا من الطبقة المخملية البعيدة عن مشاكل الناس وهمومها. وهذا وان كان ليس حال الجميع، فهو حال كثيرين.

البعض قد يسمّي هؤلاء “انتهازيين من الدرجة الأولى” وبخاصة أنهم يدخلون الى حكومات غير حزبية تقوم على رئيس وزراء ينتقي أعضاء فريقه من خلال تجاربه الشخصية معهم، أو تزكية معارفه، أو القبول بمن يأتون عبر توصيات مراكز صنع القرار السيادية والأمنية.

البعض الآخر يسميهم “واقعيين ومش مثاليين حالمين مثل غيرهم” أو “اذكياء وضعوا مصلحتهم الشخصية فوق مهنة المتاعب التي تنقرض لمصلحة أجندات تدفع رواتب العاملين في هذه المؤسسات العامّة أو الخاصة”. آخرون يأسوا من المطالبة بالإصلاحات الشاملة وفصل السلطات ودولة القانون والمواطنة بعد عمليات الانقلاب المبرمج والسريع على الإصلاحات الآنية في غالبية الدول العربية منذ 2011. ويستغل الحكّام عوامل الخوف من المجهول ويلوحون بانتشار الفوضى التي رافقت مرحلة الانقلابات والتظاهرات في سوريا واليمن وليبيا وغيرها ليرعبوا مواطنيهم ويثنوهم عن الإنخراط في مشهد النشطاء بكافة تنوعاتهم من خلال سياسة العصا والجزرة.

ربما يتفهم البعض مواقفكم هذه. لكن على الجانب الآخر من يقول كونوا حذرين.

ستتمّ مساءلتكم في زمن السوشيال ميديا عن كل كلمة تقولونها للدفاع عن النهج الجديد الذي سيناقض حتما خطّكم المهني السابق واستقلاليتكم التي منحتكم صدقية وشرعية مجتمعية وقدرة على تشكيل الرأي العام.

وقد تحاصرون مثل د. مروان المعشر، الذي رافقته في مسيرتي المهنية كزملاء في الجوردن تايمز عندما كان يكتب عموده السياسي الجريء “كلام مباشر” والمطالب بالإصلاح الشامل إبان مرحلة الأحكام العرفية وهو ما زال على رأس عمله في وزارة التخطيط قبل أن يطلب منه مغادرتها.

ربما كانت له أحلام مثل أحلام بعضكم في إصلاح الوضع من داخل السيستم.

حاول المعشر، السياسي الإصلاحي القادم من بيئة مثقفة وميسورة و”ابن السيستم” والسفير الأسبق في واشنطن وإسرائيل مواصلة نهجه عندما تبوأ أرفع المناصب الحكومية وحاول ترجمة أفكاره عبر الإشراف على صياغة “الاجندة الوطنية”.

لكن، بين ليلة وضحاها انقلب عليه السيستم وقوى الشد العكسي المتجذرة في مفاصل الدولة نتيجة ارتفاع كلف الإصلاح على العقد الاجتماعي القادم. قضوا على مشروعه بسرعة البرق وصورت مطالباته الإصلاحية كمعارضة للنظام.

وما زال يتعرض لحملة تشويه سمعة وإغتيال شخصية تزايدت مع اطلاقه ومجموعه شخصيات ليبرالية وأحزاب سياسية التحالف المدني قبل شهور. وتتصل مرجعيات نافذة في إدارات محطات تلفزة (مستقلة) تطلب عدم استضافته على شاشاتها مع أن مواقفه الإصلاحية لا تتجاوز سقف أوراق الملك النقاشية ورؤاه. وتمنع صحيفة يومية مقالته الأسبوعية دون كشف الاسباب.

في النادي الرسمي الأردني الذي اختاره الزملاء والزميلات طوعا لا خيار إلا خدمة الأجندة الجديدة التي على الأغلب ستتعارض مع المبادىء والقيم والمثل التي عرفهم الناس بها من خلال كتاباتهم ودفاعهم عنها وربما دفع بعضهم ثمنها.

فمن ينتقل من موقعه الصحفي الرقابي لن يستطيع العودة الى ما كان عليه. سيحاصركم المتابعون بتغريدات وسيستعيدون مقابلات سابقة لكم. وستحاسبون على كل ما تقولونه في سياق دوركم الجديد بعد الانتقال إلى عالم السياسة الرسمية. وسيصعب عليكم إعادة إنتاج أنفسكم بعد انتهاء مفعول المناصب والمكاسب الموقتة. فلكل عهد رجاله ونساؤه.

  • Social Links:

Leave a Reply