سودان: أمّةٌ للمجدِ والمجدُ لها…

سودان: أمّةٌ للمجدِ والمجدُ لها…

 

 سهيل كيوان

اختلف موقع القارئ ودوره مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعية وانتشارها، حيث صار بإمكانه أن يدوّن رأيه بما قرأ أو سمع وشاهد، وإذا شاء يدلي برأيه فوراً، وقد يدور حوار بين القراء يثري الموضوع ويضيئه من جوانب لم يذكرها الكاتب أو الناشر فتثري الموضوع، وقد يردُّ الكاتب على تساؤلات أو تعقيبات قرائه، وربما تنشر الصحف بعض هذه التعقيبات، إذ ترى فيها مادة جيدة للنشر، وتبقي على علاقة قريبة مع قرائها.
في جولة لي على موقع «يوتيوب» كتبت كلمة «شعر»، بهدف انتقاء بعض الأشعار الفصيحة، لنقلها لطلاب مدارس ألتقيهم بين حين وآخر، فتبين لي أن معظم الأشعار المسجّلة على الـ «يوتيوب» هي أشعار ذات لهجات محكية من أقطار عربية مختلفة.
وبما أننا في زمن المؤامرات، كدت أظن أنها مؤامرة على العربية الفصحى، فهناك مسابقات في الشعر وجوائز جزلة ومقابلات مع شعراء العامية أضعاف ما هو موجود مع شعراء الفصحى، وخصوصاً الشعر النبطي، بل وعثرت على قصيدة ذات شعبية كبيرة، يسخر فيها «الشاعر» من الفصحى، ويعترف بأنه لا يميّز المجرور من المنصوب، ثم راح يلقي قصيدة، تسمعه وتمتعض، فهو لا يكسر ويلحن، بل يطحن القواعد بلا أي ضوابط، ورغم ذلك فهو موصوف بالشاعر الكبير.
هكذا عثرت على معجزات شعرية، وأفضل أشعار العرب في الغزل وفي الشجاعة وفي الصداقة وغيرها من القيم في المحكيات الكثيرة، بعضها تفهم أكثره كما في اللهجة العراقية، وبعضها تفهمها كله كما في المصرية، وكذلك لهجة بلاد الشام رغم الاختلافات الطفيفة، وبعضها وخصوصاً من الشعر النبطي غير مفهوم، يكاد يكون مغلقاً، أما شعر المغرب العربي فلا أفهم منه سوى الفصيح.
المحكية في الشعر والأدب موضوع لدراسات كثيرة، خصوصاً أن هناك شعراء كباراً كتبوا في المحكية، لهم وزنهم وقيمتهم الفنية، ويكفي أن نذكر بأن معظم روائع أم كلثوم أُنشدت في المحكية المصرية، ولكنها واضحة ومفهومة وتعج بالصور الفنية الجميلة. «يا نيل أنا واللي أحبه.. نشبهك بصفاك».
في زحمة الأشرطة حظيتُ بشريط من دقيقتين وثلاثين ثانية، تحدثت فيها المذيعة في فضائية اسمها (أنتيم 24 ساعة) عن الشاعر السوداني إدريس جمّاع، المولود عام 1922، تحت عنوان «أرقّ ما قيل في الغزل»، فذكرت القصة المتناقلة عن الشاعر بأنه رأى سيدة جميلة أثناء سفره في المطار، وأطال النظر إليها، فغضب زوجها غيرةً، فكان رد إدريس شعراً.
أعلى الجمال تغار منا
ماذا علينا إذا نظرنا
هي نظرة تُنسي الوقارَ
وتسعدُ القلب المعنّى
وتقول القصة إن عباس محمود العقاد عندما سمع هذا الشعر سأل: لمن هذا؟ فقيل هذا لشاعر مجنون، فقال: فعلاً هذا لا يقوله إلا مجنون.
وفي حكاية أخرى أن الشاعر كان يطيل النظر في عيني ممرضة كانت تعالجه في مستشفى الأمراض النفسية، فشكت الأمر لمديرها، فنصحها بأن تضع نظارة سوداء على عينيها، وهكذا أخفتهما عنه فقال:
والسيف في الغمد لا تُخشى مضاربه
وسيف عينيك في الحالين بتّار.
وفي قصيدة يصف فيها حظّه السّيئ ببلاغة بالغة يقول:
إنّ حظّي كدقيقٍ فوق شوكٍ نثروه
ثم قالوا لحفاةٍ يوم ريحٍ إجمعوه..
عظُم الأمر عليهم ثم قالوا أتركوه
إن من أشقاه ربّي كيف أنتم تسعدوه
بحثت ووجدت هذه الأبيات يغنيها الفنان العراقي فؤاد سالم، فاجتمع اللحن العراقي مع كلمات السوداني في موال شجي حزين.
خلال البحث ومتابعة الشاعر، وجدت تسجيلاً لفرقة إنشاد سودانية تسمى (نمارق) منذ عام 1988، تنشد قصيدة للشاعر بعنوان «الفجر المرتقب»، ألقاها الشاعر عام 1945 في الأبيض، ونالت جائزة.
أمةٌ للمجد والمجدُ لها
وثبَتْ تنشدُ مستقبلها
روّ نفسي من حديثٍ خالدٍ
كلما غنّت به أثملها
مِن هوى السودان مِن آماله
من كفاحٍ ناره أشعلها
الرابط لسماع الأغنية.

الجميل هو الحوار الذي كتبه المعقّبون، أعجبني أحدهم إذ كتب، إن إدريس لم يكن مجنوناً، ولكنه اتهم بذلك لأسباب سياسية، انظروا قصيدته بعنوان «من وراء القضبان».
دخلت إلى القصيدة فوجدتها منشورة في موقع (سودانيز أونلاين)، ومغناة بصوت سيّد خليفة، وهو صديقه الذي كان يزوره، القصيدة منشورة مع عنوان «صور لشهداء ثورة ديسمبر 2018 السودانية»، وهنالك خبر من يوم أمس الأربعاء، عن اعتقال الدكتورة مريم الصادق المهدي في 30-1-2019.
مطلع قصيدة من وراء القضبان:
على الخطبِ المريعِ طويتُ صدري
وبحتُ فلم يُفدْ صمتي وذِكري
وفي لُججِ الأثيرِ يذوبُ صوتي
كساكبِ قطرةٍ في لُجِّ بحرِ
وتستمر القصيدة…
وقاكِ اللهُ شراً يا بلادي
سَرَتْ نيرانُه لحصاد عمري
ينازعني الحياةَ وفي ضلوعي
هوىً ضجّت به خفقات صدري.
«لحظات باقية»، هو عنوان ديوانه الوحيد الصادر عام 1989 عن دار الفكر في الخرطوم، يحوي أكثر من سبعين قصيدة، معظمها وطنية وقومية، مناهضة للاستعمار، وفيه قصيدة للجزائر وللقاهرة، كذلك فيه بعض قصائد حب وقصائد مناهضة للحرب وتدعو للسلام والمحبة بين أبناء البشر، كما في قصيدة «مجدٌ إنساني» كتبها في الذكرى الثامنة لصدور وثيقة حقوق الإنسان، أي في عام 1956، يقول فيها:
لكَ إجلالي على مر الزمان
أيها الإنسان في كل مكان
تبني للحق صرحاً شامخاً
فوق أنقاض التجنّي والهوان
كتب مقدمة الديوان صديقه منير صالح عبد القادر، يتحدث فيها عن علاقته الشخصية بالشاعر، ويذكر زيارته له في مصحة للأمراض النفسية في بيروت، ثم إعادته إلى السودان حيث توفي في أحد مصحات الخرطوم النفسية.

رحل الشاعر الفذ عام 1980، تاركاً إرثاً رائعاً ملهماً لأجيال أتت من بعده، وما زال شعره ملهماً للأشقاء السودانيين الثائرين لأجل مجد الإنسان ورفع الضيم عنه.

  • Social Links:

Leave a Reply