نزار قباني شاعر معجونة كلماته بالمرأة والحرية

نزار قباني شاعر معجونة كلماته بالمرأة والحرية

الأيام السورية؛ ميّ الفارس
لطالما كانت الوشائج التاريخية تنسج ترابطاً بين بداية كسر التابهوات الاجتماعية في الوسط السوري الأدبي وبين جرأة أشعار نزار قباني، إذ تفاوتت الأحكام في حقه الأدبي وفقاً لذلك. وقد يظن البعض أن تلك الجرأة تتجلى في آلية طرحه شعرياً لتفاصيل الجسد الأنثوي واختراق خصوصيته الحميمية بشفافية العشق الذي لا يبالي بأعراف المجتمع الشرقي وتقاليده.

الجرأة في شعر نزار قباني
غير أن تأطير تلك الجرأة الشعرية بهذه الرؤية فيه من الإجحاف الكثير، لما لها من منحى آخر يتبدى بمدى تماهي الشاعر مع الأنثى بجزئيات دقيقة تُخرِج المنطوق الشعري من تجليات العلاقة ما بين الذكر والأنثى لتنهض به على تخوم ما يمكن أن نصفه دخائل الرجل الأنثوي.

فلقب شاعر المرأة الذي يسم نزار قباني، لا يشي بدفاعه عن المرأة ولا حتى عشقه للمرأة أو غير ذلك من المواضيع التي تعج بالإبداعات الأدبية، إن ذلك اللقب مستمدٌ من مقدرة نزار قباني على تقديم خطاب أنثوي بصوت المرأة لا الرجل، عبر لوحات شعرية ينثال منها مونولوج أنثوي، وفي حضرتها لن يكون بوسع المتلقي إلا أن ينصت إلى تلك المرأة، وهي تتجلى أمامه عارية الروح من كل أدلجة ذكورية لقضاياها، فيعجز عن التقاط صوت الرجل الشاعر بين ثنايا البوح الشعري، فلا شيء سوى صرخة أنثوية:

تماهي الشاعر مع الأنثى بجزئيات دقيقة تُخرِج المنطوق الشعري من تجليات العلاقة ما بين الذكر والأنثى لتنهض به على تخوم ما يمكن أن نصفه دخائل الرجل الأنثوي

لماذا؟

منحت لقلبي الهواء

فلما أضاء

بحب كعرض السماء

ذهبت بركب المساء

وخلفت هذي الصديقة

هنا.. عند سور الحديقة

على مقعد من بكاء

لماذا؟

غير أن جرأة نزار قباني الشعرية لا تقف عند تمثله للأنثى والنطق بلسان حالها، بل يمكن القول إنه تفوق على الأنثى وتجاوزها في البوح عن مكنوناتها، ولاسيما في مجتمعنا الشرقي حيث تتخذ المرأة من ستار الصمت حجاباً يقيها من أحكام هذا المجتمع وقسوته فيما يخص شؤونها الحميمية، فتنطوي على ذاتها، لتبقى عاجزة عن حماية ماهية أنوثتها وقيمتها الإنسانية من مقاصد تجار الجسد وتجار القلوب على السواء. ولا يختلف الحديث عن الفترة الزمنية التي عاصرها نزار قباني عن أيام عصرنا هذا، فما زلنا نعاني من ذلك التقوقع الاجتماعي الذي يسهم في تردي حال المرأة العربية واضطهادها، ومازالت تقول:

معذرة يا سيَّدي

إذا تطاولتُ على مملكة الرجالِ

فالأدب الكبير- طبعاً- أدبُ الرجالِ

والحبُّ كان دائماً… من حصة الرجالِ..

والجنسُ كان دائماً

مخدراً يُباع للرجالِ

خرافةٌ حريّةُ النساء في بلادنا

فليس من حريّة أخرى سوى حرية الرجالِ..

نزار وزوجته بلقيس- المصدر :سيدتي
الحرمان النفسي والجسدي والكبت الاجتماعي
ولعل نزار قباني كان من القلة الذين أدركوا أن الكبت الاجتماعي للنساء سيولد علاقات يصفها المجتمع بالشذوذ، لذلك لم يتناول القباني الشذوذ الجنسي النسوي من حيث الرغبة التي تعود إلى طبيعة فيزيولوجية في تكوين جسد المرأة، بل سلط الضوء على الشذوذ الناتج عن الحرمان النفسي والجسدي والكبت الاجتماعي في مدن تُلقب الإناث اللواتي تجاوزن الثلاثين من العمر بالعانسات، وتعاملهن كسلع منتهية الصلاحية، متناسين أن الروح والجسد لا انفصال بينهما، وأن هذا الكبت سيولد انفجاراً، وأن الأعراف الاجتماعية التي تحط من شأن النساء الناضجات، هي ذاتها الأعراف التي قللت فرص أن يحظين بحياة طبيعية لا يقيدها تقاليد المجتمع وشروطه المادية والوظيفية والاجتماعية التي تعرقل سبل الارتباط بين الذكر والأنثى، وتزيد من نسبة ما يصفونه بلقب العنوسة، مما يؤدي إلى ما لا يوافق عليه المجتمع في الخفاء، وربما كانت قصيدة نزار قباني المعنونة “القصيدة الشريرة” من أكثر القصائد جرأة في عصره بما تنطوي عليه من موضوع كان شائكاً اجتماعياً وما يزال، لذا نراه يتقمص تلك الأنثى بكل تفاصيل إشكاليتها وبما يجتاحها من الجفاف الروحي في صحراء مجتمع لا يرحم فتقول لصديقتها:

أتُراني كُوِّنتُ امرأةً

كي تمضغ نهدي الأشباح

أشذوذ، أختاه، إذا ما

لثمَ التفّاحَ التفّاحُ

نحن امرأتان.. لنا قممٌ

ولنا أنواءُ ورياحُ

حرية المرأة
ولما كانت قضية المرأة قد أخذت اليوم جلّ أصداء الاهتمام في مجتمعاتنا، وأصبحت حريتها وكرامتها موضوعاً أدبياً بامتياز، كان من الطبيعي أن يبرز ما يصطلح عليه اليوم بالأدب النسوي الذي اتخذ من كسر التابهوات الاجتماعية ركيزة لإبداعه، وحين نمعن النظر اليوم سنجد أن المبدعات السوريات هن اللواتي يشكلن نواة هذا الأدب في الوطن العربي، غير أنه لا شك أن نزار قباني قد أسس أولى إرهاصات هذا الأدب في بنية المجتمع السوري، وهنا تكمن المفارقة إذ حفز الكثيرات على البوح الإبداعي للنهوض بالمرأة السورية، فتألم بأجسادهن، ونطق بقلوبهن، من خلال معايشته لجزئيات الأنوثة الكامنة في كل رجل، تلك الجزئيات التي يصعب على الرجال إيقاظها في مجتمعات تقيد الرجل بالصلابة، فيصبح بكاؤه عاراً، ويغدو تعاطفه مع الأنثى وهناً،

متى تَفــهمْ؟

متى يا ســـيدي تفــهمْ؟

بأنـي لسـت واحدةً..

كـــغيري، من صديقاتــكْ

ولا فتحاً نسائــياً..

يضــاف إلى فتوحاتك

ولا رقمــاً من الأرقـــام يعبُرُ في ســجلاتِك..

متى تفــهمْ؟

حرية الكرامة الأنثوية
وأهم ما يُقال هنا في هذا المقام أن نزار قباني لم يمتطِ ركاب المدافعين عن الأنثى من منظور ذكوري، كحال الكثيرين في الأمس واليوم، ولم يسعَ إلى حريتها الشكلية الهشة وحسب، بل عبّر عن مطالبتها بحرية كرامتها الأنثوية، تلك الحرية التي تأمل أن تتخلص من تشييىء الرجل للأنثى وامتهانها باستبدالها بامرأة أخرى كلما أصابه الضجر العاطفي فيتألم بصوتها:

يا من وقفت دمي عليك

وذللتني

ونفضتني

كذبابة عن عارضيك

ودعوة سيدة إليك

وأهنتني..

من بعد ما كنتُ الضياءَ بناظريك

يبقى نزار قباني بتلك الجرأة الإبداعية من أكثر الشعراء المثيرين للجدل، غير أن الحقيقة التي لا جدال فيها أن القباني حين أحب المرأة تماهى بكينونتها، فلما تجلى الشعر كان هي وكانت هو..

  • Social Links:

Leave a Reply