لماذا امضينا ٧ سنوات في عملية توثيق تعذيب المعتقلين في سجون سوريا السرية

لماذا امضينا ٧ سنوات في عملية توثيق تعذيب المعتقلين في سجون سوريا السرية

بقلم آن بارنارد
عندما بدأت في تغطية النزاع الداخلي السوري في عام 2012، بصفتي رئيس مكتب بيروت لصحيفة التايمز، كان نظام بشار الأسد المترامي الأطراف من سجون التعذيب، وعلى الرغم من وجوده في كل مكان، يبقى مختفيا في خلفية الحدث.. في المؤخرة. بالطبع، غطينا اعتقال المتظاهرين وقصص التعذيب. لكن ذلك لم يكن شيئا جديدًا – فالجميع يعرف تماما بأن ذلك ما كانت تفعله الحكومة دائمًا.
ولكن الجديد هو عنف الدولة العشوائي، الذي تصاعد على مرأى الجميع: الهجوم المدفعي الأول، الضربة الجوية الأولى، أول استخدام للأسلحة الكيميائية. لقد ركزنا على جرائم الحرب المرئية – تلك التي شهدناها شخصيا أو تم التحقق منها بسرعة من خلال الشهود ومقاطع الفيديو. رأينا الجلد المنسلخ لطفل وهو يتشبث بدراجة ثلاثية العجلات؛ رأينا برك الدماء في كافيتيريا جامعة دمشق؛ ويد طفل تحمل حقيبة الكتب، بعد ان انفصلت عن جسده.
على النقيض من ذلك، كان الاعتقال والتعذيب والإعدام يتكشفان في زنزانات سرية، وتم تسجيلها بشكل رئيسي في أذهان الذين نجوا. كان الكثيرون يعانون من عواقب الصدمة أو الخوف من الكلام.
لكن مع تراكم السنوات والاعتقالات، أخذت الأدلة تنضج، مثل طبقات أوراق الأشجار الميتة بعد تحولها إلى تربة صالحة للاستعمال.
أصبح من الواضح أن مفاصل النظام قد امتدت بشكل كبير. خلال حديثي مع مئات السوريين، لاحظنا أنا وفريقي أن كل الاشخاص تقريبًا لم يكن لديهم أدنى صلة بأنشطة المعارضة – والكثير ممن ليس لديهم اية صلة – تعرضوا “للاختفاء” على أيدي قوات الأمن.
بدأنا نسمع روايات الشهود التفصيلية عن التعذيب والإهمال، عن مدى ظلاميته وساديته لدرجة أنها لم تكن قابلة للتصديق – حتى في بعض الأحيان للناجين أنفسهم.

شيئًا فشيئًا، وجدت أشخاصًا راغبين في الثقة بي ليدلوا بقصصهم. سمعت كل التفاصيل الفنية للاعتقالات والضرب وأساليب التعذيب والاعترافات القسرية. قال لي أحد الناجين: كانت هناك ساحات كبيرة مليئة بالمحتجزين، “كما لو كان قد تم القاء القبض على سوريا بأكملها”. بقيت بعض الصور تعود إليّ: سجين وضع بمفرده في زنزانة مع جثة متحللة لفترة طويلة لدرجة أنه بدأت تنتابه هلوسات من ان الجثة تتحدث اليه؛ موقوفون تم تعليقهم بذراع واحدة تتدلى من خطاف في شاحنة اللحوم أثناء مرورها عبر طرق وعرة؛ محقق يتوقف مؤقتًا أثناء تعذيب أحد السجناء للتحدث بحنان على هاتف محمول؛ مراهق يموت ببطء وهو يعاني من الألم والالتهابات، بعد أن قام الحراس بصبغ جذعه بالوقود وإشعال النار فيه؛ أجبار محام على أكل برازه.
كانت رؤية نظام السجون من قبلنا شبه مستحيلة؛ كانت الحكومة تعطي تأشيرات محدودة بين الحين والآخر للزيارات التي يتم التحكم بها. لكن في عام 2013، استطعنا الحصول على صورة جزئية، بعد ان أخذني وفريق عملي، رجل أعمال مقرب من الأسد إلى مرفق أمني لمقابلة السجناء الذين قالوا إنهم جهاديون أجانب وسيثبتون لنا أن الانتفاضة لم تكن مدفوعة بحركة احتجاج محلية بل من قبل إرهابيين إسلاميين متطرفين.
لقد كانت تلك أكثر اللحظات إثارة لأخلاق الصحفيين، شاهدت مجموعة من السجناء الذين تم تقييدهم وتكبيل اياديهم ببعضهم البعض، كان بعضهم يعرجون نتيجة ضرب أخمص القدمين وهي طريقة تعذيب شائعة، ثم تمت قيادتهم عبر ساحة الفناء، فجلسوا واحدة تلو الآخر أمامي في المكتب، وورائي كانت صورة للرئيس سوريا السابق حافظ الأسد. وكان يحيط بي السجانون.
أخبرناهم انا وزميلتي، هويدا سعد، أننا صحفيون مستقلون، ويمكنهم إخبارنا بأي شيء يريدونه أو لا شيء. ولكن في الواقع، لم يكن هناك من طريقة تمكنهم من التحدث بحرية أو الرفض بطريقة آمنة.
تبين أن معظم السجناء هم سوريون، وقدم العديد منهم روايات متطابقة تقريبًا: لم تكن لديهم آراء سياسية، ولكن قالوا ان زعيما دينيا تواصل معهم، وتم إعطاؤهم المال والمخدرات مقابل مشاركتهم في القيام بأعمال العنف.
واحد منهم لم يتقيد بالخطوط المرسومة له فقال إنه بائع الجوز في إحدى الضواحي العمالية، وان احتجاجه كان “من أجل الحرية،” لكن ماذا يعني ذلك بالنسبة له؟ خاصة بعد ان قال إنه يريد التصويت في انتخابات ذات مغزى، أنا ما زلت حتى اليوم قلق حول ما يمكن ان يحدث له بعد ذلك.
لقد ضاعفنا جهودنا لتغطية القصة، حيث قامت مجموعات حقوق الإنسان بتجميع البيانات باستمرار عن عشرات منشآت التعذيب وعشرات الآلاف من السوريين المختفين وآلاف عمليات إعدام المعارضين المدنيين بعد محاكمات زائفة. هرب أحد المنشقين، الذي كان يعرف باسم قيصر، بصور لآلاف الجثث من المحتجزين الجائعين.
لكن في عام 2014، استولى الجهاديون الأجانب في الدولة الإسلامية على دائرة الضوء. لقد استعبدوا واغتصبوا الأقلية اليزيدية وأعدموا الصحفيين الأجانب امام الكاميرات- وكلها أعمال مخططة ومعدة مسبقا للاستهلاك العام، وهدفها نشر الذعر. لقد اتبع الأسد النهج المعاكس، حيث أبقى نظام التعذيب الخاص به خلف أبواب مغلقة، ومصرا في نفس الوقت أنه يترأس نظامًا عاديًا تسود فيه عدالة القانون، وان الأسد جعله حصنًا ضد بربرية الدولة الإسلامية.
لكن وفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن عدد السوريين الذين وثقتهم الدولة الإسلامية على أنهم اختفوا، وذلك استنادًا إلى ما تبثه الجماعة الإرهابية عن فظائعها (حوالي 5000)، وهو رقم يتضاءل كثيرا بالقياس الى العدد المفقود في الاحتجاز الحكومي (127،000)، حيث يتفشى الاعتداء الجنسي (من المرجح أن يكون كلا الرقمين اقل من الحقيقة)
في عام 2016، أتيحت لي الفرصة لأسأل السيد الأسد مباشرة عن السجناء، وخاصة أولئك الذين لم يتهموا بالقيام باي اعمال عنف، فكرر أن كل شخص في السجن قد ارتكب جريمة، وأنه كل ما يجري هو في ظل ممارسة نظام قضائي. سألت عن سجناء محددين اختفوا ببساطة بعد احتجازهم من قبل قوات الأمن، مثل عادل برازي، وهو شقيق صديق قديم لي، كان أقاربه يسألون السلطات عنه لمدة أربع سنوات، حتى الأسد حاول تغطية حرجه بالقول أنهم كانوا يكذبون أو أن عليهم الاستمرار في السؤال – على الرغم من أن أفراد أسر المعتقلين قد تم اعتقالهم في بعض الأحيان لمجرد ذلك.
قررت أنه كان علينا جمع أدلة أكثر صرامة لنقل وقائع القصة إلى ابعد من مقاربة الأسد المبنية على “قال، وقالت”.
مع مرور الوقت، اختفى المزيد والمزيد من المحتجزين – ولكن في الوقت نفسه، أصبح من الممكن أكثر فأكثر تأكيد قصص الناجين. تدريجيا، قام المزيد من الأشخاص بإخراج أسرهم بأكملها من سوريا، وأصبحوا على استعداد لتسجيل اوضاعهم بأسمائهم الكاملة، كما شجعت روايات الناجين من الاغتصاب والتعذيب السادي الواردة في تحقيقنا عشرات آخرين ممن تحدثوا لاحقا في المحضر.
أمضيت أنا وزملائي أسابيع شاقة في تركيا وألمانيا ولبنان نستمع إلى ساعات من الذكريات التفصيلية من قبل الناجين وتوثيقها. كان أحد الناجين في دوسلدورف ، الذي كان لا يزال يعاني من حالته العصبية بعد محنته، ومتلهفا جدًا لقصة قصته لمساعدة الآخرين
لقد اكتسبت مهارات جديدة في التعامل مع الناجين من الصدمات العنيفة وذلك من خلال المشاركة في (مركز DART للصحافة والصدمات النفسية(حول كيفية إجراء المقابلات ذات الطابع الحساس دون التضحية بالدقة.
لقد اظهر مرور الزمن الوقت سياقًا جديدًا ملحا، مثل الاتجاه العالمي المتزايد للاستبداد وانتشار المعتقلات الجماعية. واندفع الكثير من السوريين الذين أرادوا تأسيس دولة ديمقراطية مدنية – بما في ذلك أولئك الذين خاطروا بحياتهم في وقت سابق بتوثيق التفجيرات – في تركيز اهتمامهم على توثيق وتدوين كل ما يتعلق بالاحتجاز. ولذلك بدأت المنظمات السورية والدولية في دمج جهود التوثيق، وقامت مجموعة واحدة، هي لجنة العدالة والمساءلة الدولية، بمراجعة 800000 وثيقة حكومية سورية. من بينها مذكرات توضح ترتيب الاعتقالات الجماعية للمتظاهرين، فضلاً عن مناقشات بين مسؤولي الأمن حول التعذيب الذي يؤدي الى القتل والإهمال الذي يسود داخل المؤسسة.
من بين أهم ما وجدته في ملفاتهم، هناك مستندات تدعم رواية مريم خليف، التي أخبرتنا بأن رئيس قسم التحقيق في مركز الاحتجاز اعتدى عليها بالاغتصاب وبشكل منهجي، وقد ورد اسمها في إحدى المذكرات الحكومية كمعتقلة. وتبين لآخرون أن الرجل الذي اشارت اليه كان بالفعل القائد المذكور، كما أبلغ شاهد وبشكل مستقل عن معاملة مماثلة من قبل نفس الرجل في نفس المنشأة خلال نفس الفترة.
كنت أحد الصحفيين القلائل الذين تحدثوا مباشرة إلى قيصر، عبر سكايب، وعلمت بوجود المزيد من المذكرات التي قام بتهريبها، وتوثيق حالات وفاة معتقلين محددين تم التعرف عليهم لاحقًا في صور لعائلاتهم.
عادل برازي ما زال مفقودا. وقد توفيت والدته مؤخرا، مع عدم وجود أخبار عنه.

  • Social Links:

Leave a Reply