الثورة الوطنية ل ” اهل القرى “

الثورة الوطنية ل ” اهل القرى “

بقيادة إبراهيم هنانو
بين سندان الإقطاعية العثمانية ومطرقة الاحتلال الاستعماري

الدكتور عبد الله حنا 

لن نتحدث هنا عن الثورة السورية الكبرى 1925 – 1927 فقد كُتب عنها الكثير ، بل سنولي الاهتمام هنا إلى ما عُرِف بثورة الشمال أو بثورة إبراهيم هنانو والظروف المحيطة بقيامها وانتهائها
واجهت ثورات الشمال مشكلة شائكة أربكت جمهورها والقائمين عليها . فالنضال ضد الاحتلال الاستعماري الفرنسي أمر مشروع ومفهوم شاركت فيه بنسب متفاوتة أعداد من المجاهدين ، الذين رفعوا راية النضال . ولكن المشكلة الأساسية كَمُنت في تحديد مستقبل البلاد وطبيعة النظام بعد طرد الاستعمار؟ .. فما العمل بعد التحرر من الاستعمار ؟ .. هل يعني ذلك عودة الحكم العثماني وتفرعاته وعودة الفوضى وتسلط قوى الإقطاع والدولة المريضة ؟ .. ذكر مؤلفا كتاب ” المجاهد مصطفى حاج حسين وثورة جبل الزاوية ” إن المستعمر الفرنسي أتى في أعقاب ” أربعمائة عام عثماني إقطاعي ” خيّم على جبل الزاوية
وتحت وطأة هذه الظروف الناشئة في العقود الأخيرة من عمر الدولة العثمانية تقدم الاستعمار الفرنسي ليدق المسمار الأخير في نعش الدولة العثمانية الآيلة إلى الزوال منذ زمن بعيد . ومن هنا ندرك عمق المشكلة التي واجهت ثوار الشمال الواقعين تحت وطأة الاستغلال الإقطاعي ( العثماني ) وذكريات حكمه من جهة , ونار الغزو الامبريالي الفرنسي من جهة أخرى .
لم يتزعم إبراهيم هنانو الثورة من منطلق عشائري أو طائفي . فهو لم يكن صاحب عصبية قبلية أو طائفية , على الرغم من تحدّره من فئات ملاك الأرض . ويبدو أن إتمام دراسته في استنبول وجولاته في مناطق عديدة كوّنت لديه مفاهيم جديدة , وجعلته على اتصال بالأفكار القومية العربية , واطلاع واسع على بعض جوانب الحركات الثورية العالمية .
لقد استهل هنانو بيانه الأول بإعلان الثورة بعبارة ” من العرب إلى العرب ” . وفي هذا إشارة واضحة إلى قومية المعركة ، مع العلم أن هنانو تحدّر من عائلة كردية .
وفي الأيام الحالكة من أوائل صيف1921 وبعد أن تبيّن أن الثورة تجتاز أيامها الأخيرة دعا هنانو لمؤتمر عام للبحث في أفضل الطرق الواجب اتباعها . وعندما اقترح نجيب عويد الالتجاء إلى الأراضي التركية المتاخمة ردّ هنانو بقوله :
” والله لو خُيّرت على أن أكون مسلما تركيا أو مسيحيا عربيا لاخترت الثانية ، ولذا فإني أفضل اجتياز الصحراء الشاسعة إلى شرقي الأردن لأعيش في كنف حكومة عربية ”
ويبدو بوضوح أن إبراهيم هنانو كان عن طريق تركيا على اطلاع على مجريات ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا ، وله كما ذكر يوسف إبراهيم يزبك عدة مراسلات مع لينين يدلّ على ذلك أيضا بيانه المؤرخ في أيلول 1920 والموجه إلى قناصل الدول الأجنبية ، والذي جاء فيه :
” إننا لا نقصد من قيامنا هذا إلا حفظ استقلالنا ليمكننا تأسيس موازنة عادلة على أسس الحرية والمساواة بين جميع الطوائف … هذا وإنّا لا ننفَّكُ ندافع عن أوطاننا حتى الموت , فلسنا بمسؤولين عمّا يسفك من الدماء في غايتنا المشروعة نحن السوريين نموت ونتبلشف ( من البلاشفة وهو حزب لينين الذي قاد 1917 روسيا الى التحرر ) ونجعل البلاد رمادا ولا نخضع لحكم الظالمين ” .
لقد أحاطت جملة عوامل وظروف فجعلت من إبراهيم هنانو المثقف والبعيد عن العشائرية والطائفية قائدا وطنيا بامتياز.
ولكن ثمة أمر حدّ من نشاطات وإمكانات إبراهيم هنانو وهو القاعدة الاجتماعية , التي اشتركت في الثورة والمؤلفة عموما من فلاحين غارقين آنذاك في غياهب الجهل والأمية وخاضعين لجملة عوامل كانت تتحكم في الريف السوري في عهد السيطرة الإقطاعية العثمانية , التي فرضت على الفلاح نمطا من الحياة والتفكير والمفاهيم الغيبية , التي تعرقل انتشار الروح الثورية وتهيئ أرضية صالحة للعناصر المتخاذلة والفوضوية الراغبة في التعاون مع المستعمر المحتل .
ومعنى ذلك أن إبراهيم هنانو ومن التفّ حوله من نواة وطنية فلاحية واعية نسبيا لم تكن قادرة رغم جهودها الجبارة ، على تنظيم الثورة تنظيما دقيقا صارما يمنع أعداءها من استغلال نواقصها لضربها من الداخل .
وعلى الرغم من إشكالية الحامل الاجتماعي للثورة , فإن الفلاحين حملوا العبء الأكبر من النضال الوطني في الفترة الأولى من الاحتلال الاستعماري الفرنسي . ومن أدلة المكانة الرفيعة التي تمتع بها الفلاحون داخل الحركة الوطنية , النداء الذي أذاعه إبراهيم هنانو في 6 كانون الثاني 1921 , والذي ابتدأ بمخاطبة الفلاحين والقرويين ب ( أهل القرى ) وحثهم على الجهاد . لقد افتتح النداء بالعبارة التالية :
” أيها الفلاحون والقرويون يا بني وطني … ويا أبناء سورية الأشاوس ” .
لقد خصّ إبراهيم هنانو الفلاحين بندائه في الأيام الأولى من عام 1921 بعد أن انحازت القوى الإقطاعية إلى جانب المستعمرين ، أو اتخذت موقفا مهادنا منهم .
وبعد أن فقدت ثورة إبراهيم هنانو مقومات النجاح انسحب هنانو مع 40 مجاهدا باتجاه البادية بهدف الالتجاء إلى شرق الأردن . وبعد إقامة قصيرة في عمان انتقل إلى فلسطين كطريق للوصول إلى أوروبا . ولكن سلطات الاحتلال البريطاني سلّمته إلى الفرنسيين , الذين أحالوه إلى محكمة عسكرية فرنسية في حلب . وكانت المفاجأة أن المحكمة الفرنسية برّأته من تهمة السلب وتشكيل عصابات واعتبرت عمله ثورة مشروعة لمقاومة الاحتلال .
***
لقد سُجن إبراهيم هنانو في آب 1921 في خان استنبول , وسمح النائب العام العسكري الفرنسي لمحامي هنانو بمقابلته في ايلول 1921 , وبدأت محاكمته في 15 آذار 1922 حيث تولى الدفاع عنه المحامي الحلبي المسيحي القدير, الذي يجيد الفرنسية , فتح الله الصقال . وقد اثبت الصقال بالوثائق أن هنانو كان تابعا من الناحية العسكرية للجيش النظامي التركي . وعندما أعلنت المحكمة العسكرية بالأكثرية براءة هنانو كان أكثر من ثلاثين ألف إنسان ينتظرون , خارج المحكمة في الشوارع , نتيجة الحكم . وبعد إعلان براءة هنانو أخذت الجموع تهتف : ” فليحي العدل , فليحي إبراهيم هنانو , فليحي المحامي الصقال , فلتحي فرنسا ” …
وبعد البراءة زار الصقال في بيته وفد حلبي شاكرا صنيعه برئاسة الشيخ رضا الرفاعي , الذي ناول الصقال منديلا من الحرير وقال له هذه ” صرّة عرب ” أرسلها لك الحاج فاتح المرعشي , وهو الصديق الحميم لهنانو وممول الثورة . وكانت الصرّة تحتوي على 300 ليرة ذهبية أجرة أتعاب الصقال . .
وبعدها انتقل هنانو إلى النضال الوطني السلمي وكان من أبرز زعماء الكتلة الوطنية حتى وفاته عام 1935 .
خرجت حلب بقضّها وقضيضها وراء جثمان هنانو . وفي الذكرى الأربعين لوفاته اندلعت الاضرابات في سائر المدن السورية مطالبة بالاستقلال . وبعد ستين يوما من الاضراب اضطرت سلطات الانتداب بالسماح بتشكيل حكومة وطنية تتقاسم السلطة مع الانتداب الفرنسي القرى ”
بقيادة إبراهيم هنانو
بين سندان الإقطاعية العثمانية ومطرقة الاحتلال الاستعماري
لن نتحدث هنا عن الثورة السورية الكبرى 1925 – 1927 فقد كُتب عنها الكثير ، بل سنولي الاهتمام هنا إلى ما عُرِف بثورة الشمال أو بثورة إبراهيم هنانو والظروف المحيطة بقيامها وانتهائها
واجهت ثورات الشمال مشكلة شائكة أربكت جمهورها والقائمين عليها . فالنضال ضد الاحتلال الاستعماري الفرنسي أمر مشروع ومفهوم شاركت فيه بنسب متفاوتة أعداد من المجاهدين ، الذين رفعوا راية النضال . ولكن المشكلة الأساسية كَمُنت في تحديد مستقبل البلاد وطبيعة النظام بعد طرد الاستعمار؟ .. فما العمل بعد التحرر من الاستعمار ؟ .. هل يعني ذلك عودة الحكم العثماني وتفرعاته وعودة الفوضى وتسلط قوى الإقطاع والدولة المريضة ؟ .. ذكر مؤلفا كتاب ” المجاهد مصطفى حاج حسين وثورة جبل الزاوية ” إن المستعمر الفرنسي أتى في أعقاب ” أربعمائة عام عثماني إقطاعي ” خيّم على جبل الزاوية
وتحت وطأة هذه الظروف الناشئة في العقود الأخيرة من عمر الدولة العثمانية تقدم الاستعمار الفرنسي ليدق المسمار الأخير في نعش الدولة العثمانية الآيلة إلى الزوال منذ زمن بعيد . ومن هنا ندرك عمق المشكلة التي واجهت ثوار الشمال الواقعين تحت وطأة الاستغلال الإقطاعي ( العثماني ) وذكريات حكمه من جهة , ونار الغزو الامبريالي الفرنسي من جهة أخرى .
لم يتزعم إبراهيم هنانو الثورة من منطلق عشائري أو طائفي . فهو لم يكن صاحب عصبية قبلية أو طائفية , على الرغم من تحدّره من فئات ملاك الأرض . ويبدو أن إتمام دراسته في استنبول وجولاته في مناطق عديدة كوّنت لديه مفاهيم جديدة , وجعلته على اتصال بالأفكار القومية العربية , واطلاع واسع على بعض جوانب الحركات الثورية العالمية .
لقد استهل هنانو بيانه الأول بإعلان الثورة بعبارة ” من العرب إلى العرب ” . وفي هذا إشارة واضحة إلى قومية المعركة ، مع العلم أن هنانو تحدّر من عائلة كردية .
وفي الأيام الحالكة من أوائل صيف1921 وبعد أن تبيّن أن الثورة تجتاز أيامها الأخيرة دعا هنانو لمؤتمر عام للبحث في أفضل الطرق الواجب اتباعها . وعندما اقترح نجيب عويد الالتجاء إلى الأراضي التركية المتاخمة ردّ هنانو بقوله :
” والله لو خُيّرت على أن أكون مسلما تركيا أو مسيحيا عربيا لاخترت الثانية ، ولذا فإني أفضل اجتياز الصحراء الشاسعة إلى شرقي الأردن لأعيش في كنف حكومة عربية ”
ويبدو بوضوح أن إبراهيم هنانو كان عن طريق تركيا على اطلاع على مجريات ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا ، وله كما ذكر يوسف إبراهيم يزبك عدة مراسلات مع لينين يدلّ على ذلك أيضا بيانه المؤرخ في أيلول 1920 والموجه إلى قناصل الدول الأجنبية ، والذي جاء فيه :
” إننا لا نقصد من قيامنا هذا إلا حفظ استقلالنا ليمكننا تأسيس موازنة عادلة على أسس الحرية والمساواة بين جميع الطوائف … هذا وإنّا لا ننفَّكُ ندافع عن أوطاننا حتى الموت , فلسنا بمسؤولين عمّا يسفك من الدماء في غايتنا المشروعة نحن السوريين نموت ونتبلشف ( من البلاشفة وهو حزب لينين الذي قاد 1917 روسيا الى التحرر ) ونجعل البلاد رمادا ولا نخضع لحكم الظالمين ” .
لقد أحاطت جملة عوامل وظروف فجعلت من إبراهيم هنانو المثقف والبعيد عن العشائرية والطائفية قائدا وطنيا بامتياز.
ولكن ثمة أمر حدّ من نشاطات وإمكانات إبراهيم هنانو وهو القاعدة الاجتماعية , التي اشتركت في الثورة والمؤلفة عموما من فلاحين غارقين آنذاك في غياهب الجهل والأمية وخاضعين لجملة عوامل كانت تتحكم في الريف السوري في عهد السيطرة الإقطاعية العثمانية , التي فرضت على الفلاح نمطا من الحياة والتفكير والمفاهيم الغيبية , التي تعرقل انتشار الروح الثورية وتهيئ أرضية صالحة للعناصر المتخاذلة والفوضوية الراغبة في التعاون مع المستعمر المحتل .
ومعنى ذلك أن إبراهيم هنانو ومن التفّ حوله من نواة وطنية فلاحية واعية نسبيا لم تكن قادرة رغم جهودها الجبارة ، على تنظيم الثورة تنظيما دقيقا صارما يمنع أعداءها من استغلال نواقصها لضربها من الداخل .
وعلى الرغم من إشكالية الحامل الاجتماعي للثورة , فإن الفلاحين حملوا العبء الأكبر من النضال الوطني في الفترة الأولى من الاحتلال الاستعماري الفرنسي . ومن أدلة المكانة الرفيعة التي تمتع بها الفلاحون داخل الحركة الوطنية , النداء الذي أذاعه إبراهيم هنانو في 6 كانون الثاني 1921 , والذي ابتدأ بمخاطبة الفلاحين والقرويين ب ( أهل القرى ) وحثهم على الجهاد . لقد افتتح النداء بالعبارة التالية :
” أيها الفلاحون والقرويون يا بني وطني … ويا أبناء سورية الأشاوس ” .
لقد خصّ إبراهيم هنانو الفلاحين بندائه في الأيام الأولى من عام 1921 بعد أن انحازت القوى الإقطاعية إلى جانب المستعمرين ، أو اتخذت موقفا مهادنا منهم .
وبعد أن فقدت ثورة إبراهيم هنانو مقومات النجاح انسحب هنانو مع 40 مجاهدا باتجاه البادية بهدف الالتجاء إلى شرق الأردن . وبعد إقامة قصيرة في عمان انتقل إلى فلسطين كطريق للوصول إلى أوروبا . ولكن سلطات الاحتلال البريطاني سلّمته إلى الفرنسيين , الذين أحالوه إلى محكمة عسكرية فرنسية في حلب . وكانت المفاجأة أن المحكمة الفرنسية برّأته من تهمة السلب وتشكيل عصابات واعتبرت عمله ثورة مشروعة لمقاومة الاحتلال .
***
لقد سُجن إبراهيم هنانو في آب 1921 في خان استنبول , وسمح النائب العام العسكري الفرنسي لمحامي هنانو بمقابلته في ايلول 1921 , وبدأت محاكمته في 15 آذار 1922 حيث تولى الدفاع عنه المحامي الحلبي المسيحي القدير, الذي يجيد الفرنسية , فتح الله الصقال . وقد اثبت الصقال بالوثائق أن هنانو كان تابعا من الناحية العسكرية للجيش النظامي التركي . وعندما أعلنت المحكمة العسكرية بالأكثرية براءة هنانو كان أكثر من ثلاثين ألف إنسان ينتظرون , خارج المحكمة في الشوارع , نتيجة الحكم . وبعد إعلان براءة هنانو أخذت الجموع تهتف : ” فليحي العدل , فليحي إبراهيم هنانو , فليحي المحامي الصقال , فلتحي فرنسا ” …
وبعد البراءة زار الصقال في بيته وفد حلبي شاكرا صنيعه برئاسة الشيخ رضا الرفاعي , الذي ناول الصقال منديلا من الحرير وقال له هذه ” صرّة عرب ” أرسلها لك الحاج فاتح المرعشي , وهو الصديق الحميم لهنانو وممول الثورة . وكانت الصرّة تحتوي على 300 ليرة ذهبية أجرة أتعاب الصقال . .
وبعدها انتقل هنانو إلى النضال الوطني السلمي وكان من أبرز زعماء الكتلة الوطنية حتى وفاته عام 1935 .
خرجت حلب بقضّها وقضيضها وراء جثمان هنانو . وفي الذكرى الأربعين لوفاته اندلعت الاضرابات في سائر المدن السورية مطالبة بالاستقلال . وبعد ستين يوما من الاضراب اضطرت سلطات الانتداب بالسماح بتشكيل حكومة وطنية تتقاسم السلطة مع الانتداب الفرنسي

  • Social Links:

Leave a Reply