من أعلام الفكر السياسي في منتصف القرن العشرين حقبة الزُهوّ الوطني والتنوير

من أعلام الفكر السياسي في منتصف القرن العشرين حقبة الزُهوّ الوطني والتنوير

الدكتور عبد الرحمن الشهبندر
(1879-1940)
علم نهضوي، زعيم وطني ، خطيب مفوّه
ولد الشهبندر في دمشق لأسرة رقيقة الحال. وبفضل مساعدة قريبه التاجر حسن القتلان أتمّ الشهبندر تعليمه الابتدائي والإعدادي في مدارس دمشق ثم انتقل عام 1896 إلى بيروت حيث درس في “الكلية السورية الإنجيلية” وألقى في حفلة التخرج عام 1901 خطابا في التقليد حمل فيه على الجمود بأنواعه حملة شعواء. عاد إلى دمشق وانضم إلى حلقة الشيخ طاهر الجزائري التنويرية. ثم قفل راجعاً إلى بيروت لدراسة الطب في الكلية السورية الإنجيلية ونال عام 1906 شهادة الدكتوراه في الطب بدرجة امتياز ولهذا ألقى كلمة الطلاب في حفلة التخرج بعنوان “التسامح” أو “التساهل” حمل فيها على التعصب حملة مماثلة لحملته على التقليد.
بدأ نجم الشهبندر يلمع في ميداني الطب والفكر السياسي بعد عودته من بيروت عام 1906واستقراره في مدينة دمشق. لقد دخل الشهبندر الميدان السياسي والفكري وهو لا يملك من الأطيان ورأس المال إلا علمه الطبي وثقافته الواسعة، وربما من هنا يفهم المرء نزعته الاشتراكية، واهتمامه بالقضايا الاجتماعية وإحساسه بامتيازه الفكري والمعرفي على باقي زملائه سليلي العائلات الإقطاعية والتجارية ووجوه الأحياء .
بين عامي 1909-1914 كتب الشهبندر عدداً من المقالات في الجريدة الوطنية الدمشقية “المقتبس”، لصاحبها محمد كرد علي. ونشط في الجمعية الإصلاحية الدمشقية، التي تألفت عام 1913 مؤيدة الجمعية الإصلاحية البيروتية في المطالبة بالإصلاح وإعطاء القوى البورجوازية (التجارية) في المدينتين قسطاً من الحكم الإداري والحرية الاقتصادية.
عندما شعر الشهبندر أيام الحرب العالمية الأولى –وكان طبيباً لجمال باشا- بأن دوره في الاعتقال والإعدام قد حان هرب في تشرين الثاني 1915 عبر بادية الشام إلى البصرة ومنها إلى الهند فمصر. وهناك شارك الشهبندر في الحركة الوطنية الشامية الناشطة آنذاك في القطر المصري.
بعد انهيار الدولة العثمانية عام 1918 وتأسيس الدولة الوطنية العربية (الفيصلية) عاد الشهبندر إلى دمشق وكان في طليعة القوى الوطنية المطالبة بعدم الرضوخ للاستعمار الفرنسي. وعندما قويت شكيمة العناصر المعادية للاستعمار تشكلت في 3 أيار 1920 وزارة هاشم الأتاسي واحتل الشهبندر فيها منصب وزير الخارجية. وبعد هزيمة المقاومة الوطنية في ميسلون في 24 تموز 1920 واحتلال المستعمرين الفرنسيين لدمشق حُكم على الشهبندر بالإعدام. فغادر دمشق والتجأ مرة ثانية إلى مصر وبقي حتى عودته في تموز 1921، بعد صدور العفو عن الوطنيين المؤيدين للدولة الوطنية العربية.
اغتنم الشهبندر فرصة عودة الأميركي المستر كراين إلى دمشق بالمبادرة على حملة مناهضة للانتداب الفرنسي. فنظم عدة لقاءات واسعة مع الأهالي في عدد من أحياء دمشق، كما استغل الشهبندر مناسبة توديع المستر كراين في 6 نيسان 1922 لجمع جمهور ضخم، ضم عدداً كبيراً من النساء، أخذ ينشد الأناشيد الوطنية ضد الحماية والوصاية. أما الشهبندر فختم خطابه أمام حشد كبير قائلاً: “فليحيى الاستقلال التام ولتحيى شجرة الحرية النامية ” .
كان رد فعل السلطات الفرنسية سريعاً وعنيفاً فقامت باعتقال الشهبندر ومحاكمته وزجه في سجن جزيرة أرواد. وبعد أن أمضى في السجن نحو تسعة عشر شهراً أُطلق سراحه في 12 تشرين الأول 1923.
هناك في حجرة السجن ومن وراء القضبان قام الشهبندر بترجمة كتاب ديزل بورنس “في السياسة الدولية” الصادر في لندن عام 1920 ونشره في دمشق عام 1925 مع مقدمة طويلة له أعلن فيها سروره بتقدم الاشتراكية الديمقراطية في أوربا وإعجابه بالولايات المتحدة (آنذاك). كما أكد الشهبندر في مقدمته على “أن الأسباب الاقتصادية تحدث الثورات الاجتماعية” وأن المظالم القومية والمنافسات الاقتصادية هي التي تسبب الحروب. ودعا إلى الثورة الاجتماعية بدون عنف وإراقة دماء”.
في أواخر عام 1924 وأوائل عام 1925 شرع الشهبندر في تأسيس حزب يحوز على الشرعية ويقود النضال الوطني. وهكذا تأسس في أيار 1925 حزب الشعب بزعامة الشهبندر. وهو أول حزب سياسي اعترفت به السلطة الفرنسية بعد الاحتلال في تموز 1920.
وبالرغم من عدم دعوة حزب الشعب إلى الثورة المسلحة واقتصاره على “الدعوة إلى الثورة الفكرية السلمية” والسعي “لتحقيق مبادئه بالطرق القانونية”. فإن بعض أعضائه وفي مقدمتهم الشهبندر ساروا، وإن يكن بتردد في طريق التهيئة السرية للثورة المسلحة.
التحق الشهبندر بالثورة في أواخر آب 1925 وبذل قصارى جهده بالتعاون مع قائد الثورة سلطان باشا الأطرش لتوحيد قوى الثورة . وبعد أن أقام مدة في جبل حوران ( الدروز،العرب ) معقل الثورة، وصل في 12 نيسان 1926 إلى الغوطة لتنظيم أمور الثورة فيها ثم عاد إلى الجبل.
لم تكلل بالنجاح مساعي تأجيج نيران الثورة الوطنية مرة أخرى، وتمكن الفرنسيون من السيطرة على الموقف عسكرياً وتوجيه ضربات متتالية للعصابات الثائرة في أواخر عام 1926 ومستهل 1927. ولهذا لم يبق أمام الشهبندر وغيره من المشاركين في الثورة إلا طريق اللجوء السياسي إلى إحدى الدول العربية وبخاصةً أن حكماً بالإعدام كان قد صدر بحقه من المجلس العدلي الفرنسي بسبب مشاركته في الثورة، التي اعتبرها المستعمرون تمرداً وعصياناً وخراباً للبلاد.
التجأ الشهبندر في 7 آذار عام 1927 إلى القاهرة، وهناك، لم ينكس علم النضال الوطني بل استمر إلى جانب عمله الطبي – يكافح ويناضل دون أن يقطع الصلة بالحركة الوطنية السورية. وفي الوقت نفسه خصص الشهبندر جزءاً من وقته للعمل الفكري ترجمة وإبداعاً. فقام بنشر سلسلة من المقالات في مجلتي المقتطف والهلال القاهريتين بالإضافة إلى الخطب التي ألقاها ونشرتها الصحف المصرية والعربية.
وفي عام 1936 قام الشهبندر بطبع مجموعة مقالاته المنشورة في المقتطف بدءاً من عدد فبراير (شباط) 1932 في كتاب صدر في القاهرة في أوائل عام 1936 تحت عنوان: “القضايا الاجتماعية في العالم العربي”, ومنه اقتطفنا مقاطع ذُكِرت في حلقة : حزب الشعب 1924 بزعامة الشهبندر .
عاد الشهبندر إلى دمشق في أواسط أيار 1937 بعد صدور عفو عام شامل في نيسان عام 1937 عن المشاركين في الثورة وفي مقدمتهم عبد الرحمن الشهبندر وسلطان باشا الأطرش. وكان استقبال الشهبندر استقبالاً منقطع النظير. ثم شرع في زيارة أحياء دمشق وألقى فيها أربعين خطاباً في واحد وعشرين يوماً متتابعاً، لم يحص عليه المحصون فيها كلها لحنة واحدة معادة أو رأياً مكرراً. وكانت الحفلات والخطب تجري في البيوت الدمشقية القديمة، وغالباً في الليل.
دخل الشهبندر في صراع، يطول الحديث عنه، مع بعض قيادات الكتلة الوطنية، التي وصلت إلى (جزء من) السلطة بموجب معاهدة 1936 بين فرنسا وسورية. وفي ضحى السادس من تموز 1940 اغتيل الشهبندر غدراً في عيادته بدمشق. وقد كشف التحقيق عن الجناة المنفذين من الحلقة الدنيا إلا أنه لم يستطع (أو يرغب) أن يصل إلى الجناة من الحلقة العليا وحتى المتوسطة.
لقد أثار هذا الاغتيال اضطراباً في النفوس وقلقاً في الخواطر وشغل الناس بتتبُع أخبار اعتقال الجناة والمتهمين وبالمحاكمة التي نشأت عنه حيناً من الزمن. وتضاربت الآراء حول دوافع الاغتيال وهي ثلاثة:
– دوافع سياسية ناجمة عن الخصومة بين الشهبندر ومنافسيه في الكتلة الوطنية وتحديداً جميل مردم بك.
ـ رغبة السلطات الفرنسية في تصفية هذه الشخصية الوطنية المناهضة لها وإلصاق التهمة بأعداء الشهبندر السياسيين، أي برجال الكتلة الوطنية.
ـ الدافع الإيديولوجي، أو بالأصح دافع أولئك النفر، الذين لم تَرُقْ لهم المنطلقات الفكرية التنويرية النهضوية الجريئة التي طرحها الشهبندر بصراحة وعزيمة لا تلين.
لقد مثّل الشهبندر فكرياً يسار عصر النهضة أو بالأصح إحدى تيارات ذلك اليسار النهضوي، الذي شرع يطرح آراءه في خضم عصر النهضة العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر. وكان اغتيال الشهبندر على يد تلك الفئة المنغلقة المتزمتة بمثابة تحذير للمنادين بحرية الفكر العربي والداعين إلى العقلانية والعلمانية والتنوير والسير بالمجتمع العربي خطوات إلى الأمام في ميدان التقدم الحضاري.
جاء في بيان “جماعة الإصلاح الاجتماعي العربي” بدمشق الصادر بعد اغتيال الشهبندر المقطع التالي :
” إذا صح أن التهوّس الديني ساعد ” على اغتيال الشهبندر ” كان معنى ذلك أن العالم العربي يعيش في بؤرة التقهقر الاجتماعي وأن حرية الفكر في بلاد العرب أصبحت في خطر، وأن كل مفكر لا يستطيع التفوه بما يعود على الحضارة العربية بالتقدم “.
***
عندما اغتيل 1987 في بيروت صاحب كتاب النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية على يد قوى ظلامية ، أنشأتُ مقالا تحت عنوان : من اغتيال الشهبندر 1940 إلى اغتيال حسين مروه ماذا تغيّر ؟ ..
***
إذا نظرنا اليوم اواخر 2019 إلى حالة عالمنا العربي المؤسفة ، ماذا اقول ؟ .. سأستخدم تعبيرا عاميا من بلدتنا : ” تيتي تيتي .. مِثِلْ ما رُحْتِ .. مِثِلْ ما جيتي ” .
***
الأمل هو أحد مقوّمات الحياة معنويا . ولهذا لا بدّ أن نقول : انهض ايها العربي بعد التخلّص من أوساخ النفط وسِرْ مع الانسانية نحو حلمها السعيد …

  • Social Links:

Leave a Reply