في حضرة المناضل منصور الأتاسي

في حضرة المناضل منصور الأتاسي

 

عارف دليلة

منذ بضعة أيام قرأنا خبر نقل الصديق منصور الأتاسي إلى المستشفى بسبب “وعكة صحية”، وبينما كنا ننتظر خروجه سليماً معافى لمعاودة نشاطه الدؤوب في جمع السوريين على اختلاف مشاربهم، وفي تبادل الرأي معهم حول كيفية الخروج من الكارثة السورية الماحقة التي جرى استجرار سورية من قبل “سوريين !” ، أولا، وبكامل الوعي والإصرار، وللأسف الشديد، إلى مذبحها ، بقوة تحالف شرس أسود محلي _إقليمي _عالمي لإخراج سورية كلياً من الجغرافيا والتاريخ وتشتيت شمل أهلها ما بين مقتول ومعتقل ومهجر أو جثة تحت الأنقاض، أو بين أشداق حيتان البحار أو ضباع الاحتلال والإرهاب، أو نازح من تحت القصف والانفجارات ومن بين أكداس خرائب البيوت المدمرة فوق رؤوس أصحابها المكافحين، جيلا وراء جيل ، من أجل حياة مطمئنة، وسط عائلاتهم وقراهم ومدنهم وأحياءهم ، متمسكين بالحلم في مستقبل أفضل لأولادهم من بعدهم ولدولة عامرة وشعب كريم !

هذه كلها كانت الشغل الشاغل لمنصور الأتاسي ، الرجل الزاهد الصامد في حديقة أحلامه الخضراء، رغم تزايد أكوام الخرائب والهمجيات والمآسي في كل شبر من سوريانا ، تحت نظره وملء وعيه النابض، رغم كل ذلك، بالحياة والأمل.

والان ، بعد أن غافلنا القدر وعاجلنا بالخبر المؤسف بوداع صديقنا الغالي منصور الأتاسي قبل أن يشهد بدء قيامة سورية من بين الأنقاض، بل وهو يشهد تعمق مأساتها واستمرار كارثتها إلى أمد غير منظور، لتجرف من تبقى من أهلها وما تبقى من مصادر الحياة في جوف أرضها وعلى سطحها، دون أن تظهر، بعد، أية بشائر أمل في عودة الوعي واجتماع السوريين على خطة لإنقاذها وإفشال “احتفاء ” الأعداء الداخليين والإقليميين والخارجيين بإزالتها وإزالتهم من الوجود. واذا كانت خسارتنا بفقدان منصور الأتاسي، كبيرة، والتي تنضاف إلى الخسائر السورية الكبيرة الأخرى، إلا أن الأسف يزداد كونه راح حاملاً معه المزيد من الحزن والأسى بدلا من بارقة الأمل بسورية الجديدة العامرة. ولعل السوريين يستيقظون اليوم، قبل الغد، على الآماد البالغة لانحرافاتهم عن جادة الصواب، ليلتفوا حول عمل مشترك يبدأ بتغيير أنفسهم، مثلما يصلح أشقاؤهم في البلدان العربية الأخرى المنكوبة هذه الأيام أنفسهم وينتفضون ضد أسباب ومسببي شرذمتهم وانكساراتهم التي جعلت أعداءهم يرقصون على جثثهم، دولاً وبشراً، مدركين “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ” !

وتعود بي الذكرى في هذه المناسبة إلى العام ٢٠٠٠ ، يوم نهض السوريون ليودعوا سباتهم الطويل وغيبوبتهم ، اللهم إلا بعض من شبابهم المناضلين الواعين الذين لم يرتضوا لبلدهم هذا السبات بينما العالم يعج بالحركة والقفز إلى الأمام وإلى الأعلى في كل المجالات على مدى أهم العقود في تاريخ التطور البشري، وهي ثلاثة أرباع القرن الذي تلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإن كان وعيهم هذا لم يقدهم إلا إلى التضحية بأنفسهم مع استمرار غرق بلدهم في مستنقعات التخلف والاستبداد والفساد، بسبب من شرذمة وتخلف شعوبهم، من جهة، وطبيعة النظام الثقيل الرابص على صدورهم، بقوة الدعم الخارجي، من جهة أخرى ، وقد لمع الوعد في سماء ليلهم المدلهم بأن السبات لا بد آيل إلى انقضاء وأن أنوار اليقظة قد أطلت، مع انطلاق ربيع دمشق بصدور البيانات الواعية التي ترسم خطة طريق التغيير. وفي تلك الأثناء كنا قد نشرنا بيان “لجان إحياء المجتمع المدني ” والذي انتشر في كل المحافظات ، كهطول الغيث على رمال الصحراء الساخنة، لتنهمر تواقيع المؤيدين ، ولتبدا لجاننا بالانتقال إلى مختلف المدن السورية لعقد الاجتماعات مع الناهضين السوريين الذين نسوا “مآثر ” قوى القمع والتغييب ، كما نسوا كل أسباب التباعد والانقسام والاختلاف، واخذوا يحتشدون للاجتماع في المراكز الثقافية وحتى في البيوت الخاصة، في دمشق وريفها وفي حمص وحلب واللاذقية وطرطوس والسويداء والسلمية والحسكة… الخ مع مواعيد في مدن عديدة أخرى، كدرعا ودير الزور والرقة الخ، ولم تكن هذه الفرصة، من جانب السلطة ، إلا بهدف التعرف إلى شكل توزيع القوى على الأرض بينها ، بمؤيديها وأجهزتها ومؤسساتها المغرقة في ممارسة القمع والفساد والانحطاط والتخلف، من جهة، ومعارضيها المناضلين من دعاة النهضة والتغيير والتقدم والحرية والكرامة والديمقراطية، من جهة أخرى ، وبمجرد تأكدها بأن حصتها من التأييد لا تزيد عن ١٠% من الشعب السوري في أكثر الأحوال هذا في الظروف السلمية والطبيعية، وهذه النسبة لا تزيد عن عدد أعضاء أجهزتها ومؤسساتها السلطوية المعزولة عن الشعب، حتى سارعت لاتخاذ القرار بوقف هذه الأنشطة وباعتقال وملاحقة نشطاءها. واذكر ، بهذه المناسبة الحزينة ونحن نعزي برحيل المناضل منصور الأتاسي، وهو في ذروة نشاطه ، أنفسنا وعائلته الكريمة ، وأعضاء “حزب اليسار الديمقراطي ” الذي يحسب له شرف تأسيسه ، وكذلك هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الديمقراطي، التي شاركنا أبو مطيع عضوية مكتبها التنفيذي لفترة من الزمن، وفي خضم هذا النشاط وقبل إغلاقه أذكر دعوة أبي مطيع لي إلى اجتماع في بيته العامر، آنذاك، في حمص الجميلة، أثناء بدايات ربيع دمشق عام ٢٠٠٠، نفس البيت الذي يشارك حمص الخرائب نكبتها العظمى، الآن، وقد احتشد في صالونه أكثر من ١٨٠ شخصاً من السياسيين الوطنيين، وقد استغرقت المحاضرة والنقاشات الخصبة الشاملة التي تلتها، أكثر من أربع ساعات . وكنت في تلك الأيام قد قدمت محاضرة تبعتها ندوة نقاشية مفتوحة شارك بإبداء الراي أثناءها أكثر من ٢٥ شخصا، من معارضين كثيرين، وكذلك من سلطويين ، بمن فيهم المحافظ الذي كان مكلفا بالحضور، كما حصل في المراكز الثقافية الأخرى، في اللاذقية والسويداء والسلمية وصحنايا وغيرها، للرد على ما سيرد في محاضرتي ومداخلات المعارضين الآخرين، كما حضر الندوة مسؤولو المحافظة، بمن فيهم أمين فرع الحزب الحاكم (القائد للدولة والمجتمع إلى المصير الأسود الذي آلت إليه سورية المنكوبة هذه الأيام !) ، وجرت الندوة في قاعة المركز الثقافي الكبرى بحمص بحضور اكثر من سبعمائة شخص من مختلف الاتجاهات، بمن فيهم قدماء السياسيين الذين كانوا في “حالة كمون ” ، أو قد طلقوا السياسة لسنوات طويلة ، أو ممن قضوا في السجون ، بكل مشتملاتها المأساوية، سنوات طوال، كعادة السجون السياسية في سورية على مدى أكثر من نصف قرن! ، وقد كانت السلطة قد قررت، مكرهة، تجربة فتح الأبواب للمنتديات والمراكز الثقافية لأشهر قليلة خلال ما أصبح يسمى “ربيع دمشق ” ، والذي كان مبشراً ب “الربيع العربي ” الذي انطلق من تونس بعد عشر سنوات (أواخر ٢٠١٠ ) ، وهما ، الربيعان المستحقان جدا ، اللذان أسميتهما “الربيعان الواعدان المغدوران” اللذان تكالبت الأنظمة المستبدة الفاسدة المحلية، في تحالف أسود مع القوى الإقليمية والدولية الإرهابية الديكتاتورية الإمبريالية الصهيونية العالمية، على وأدهما لمنع انتصار الثورة العربية الشعبية الوطنية النهضوية الديمقراطية ، المحتبسة لعقود ، المعادية للتخلف بكل أشكاله ، وتحويلها إلى ثورة مضادة في الوطن العربي كله لتبقيه على تخلفه المزمن، ولتمكن تحالف أعداء الربيع من الاستمرار إلى أمد غير منظور !

وفي جميع هذه المناسبات كان صوت منصور الأتاسي حاضراً ، ورغم الخسارة الكبيرة بمغادرته هذه الحياة الفانية، مثلما غادرها وسيغادرها كل حي، فإننا على ثقة بأنه ليس من عادته إلا أن يبقى مواكباً لكل ما يجري، متمثلا بما زرعه، مع الكثيرين من السوريين أمثاله، في التربة السورية وفي نفوس السوريين الكثر الذين يعرفونه ويقرؤون أفكاره السديدة ، حتى انتصار القضية العادلة التي تبقى كلماته مؤشراً على الطريق السوي إليها.

فإلى جنة الخلد، أيها الصديق لكل الناس ، منصور الأتاسي .

  • Social Links:

Leave a Reply