بريكست.. الأمر لن ينتهي ببساطة

بريكست.. الأمر لن ينتهي ببساطة

قائمة الرابحين والخاسرين في الصدع الذي أصاب أوروبا لن تغلق في عام أو اثنين. وسيبقى نزيف الضفتين حتى يسترد البريطانيون والأوروبيون حياتهم وكأنهم لم يعرفوا الوحدة يوما.

بهاء العوام – العرب اللندنية:

 

الحزن الذي غنّى به البرلمانيون الأوروبيون في وداع المملكة المتحدة بعد المصادقة على اتفاق انفصال لندن وبروكسل يشاركهم فيه كثيرون على الضفة البريطانية، قاتلوا بشراسة على مدى ثلاث سنوات ونصف السنة لمنع قدوم هذه اللحظة، وها هي قد أتت.

ليس من بين هؤلاء طبعا نايجل فاراج زعيم حزب بريكست وأعضاؤه الذين مثلوا المملكة المتحدة في الوداع البرلماني الأخير. وإنما منهم أولئك الذين ظلوا يجوبون الشوارع والساحات أمام البرلمان والحكومة ليل نهار، وهم يطالبون بإلغاء بريكست.

الرابحون في حرب الخروج البريطانية يرفعون اليوم نخب الانفصال، بينما الخاسرون يتبادلون رسائل العزاء والخيبة. الفائزون يمثّلون ديمقراطية صناديق الاقتراع التي أصدرت قرار الرحيل. والخاسرون هم من يؤمنون بأن قرار الاستفتاء المصيري عام 2016 لم ولن يكون صحيحا. يراهن الطرفان على الزمن لإثبات صحة ادعائهم، لكن الحقيقة الوحيدة اليوم هي أن المملكة المتحدة والعالم بعد الحادي والثلاثين من يناير 2020، لن يكونا أبدا كما قبله.

قائمة الرابحين والخاسرين في هذا الصدع الذي أصاب القارة العجوز لن تغلق في عام أو اثنين. لن ينتهي الأمر ببساطة، وسيبقى نزيف الضفتين حتى يستردّ البريطانيون والأوروبيون حياتهم وكأنهم لم يعرفوا الوحدة يوما. لا أحد يعرف كم من الوقت يحتاج هذا، وما يشاع بهذا الشأن لا يتجاوز التكهنات التي قد تحدث وقد لا تحدث أبدا. سواء بالنسبة إلى لندن التي تحلم بغزو العالم بعد الخروج، أو بروكسل التي تتطلع إلى انفصال بخفة ذرة غبار تتدحرج على كثبان الصحراء.

تطبيق الخروج بالنسبة إلى البريطانيين اليوم أشبه بقرار احتراف رياضة ما في منتصف العمر. يحتاج الجسد فيها للكثير والكثير من الجهد والمثابرة، بالإضافة إلى مساندة ودعم كبيرين من الخارج. وكل ذلك دون ضمانات في التأهل إلى بطولة ما، أو إحراز لقب وتصنيف. يريدون خوض المغامرة بدافع الثقة بالنفس. ليست ثقة فارغة طبعا، ولديهم الكثير مما يمكن التعويل عليه. ولكن نقاط القوة اليوم قد تمسي مواطن ضعف غدا، إن لم تأت رياح العالم كما تشتهي سفن المحافظين. أو بدقة أكثر صقور المحافظين الذين أرادوا لبريطانيا الخروج.

أسماء كثيرة لمعت في بريطانيا طوال الطريق إلى الخروج منذ منتصف 2016، وعلى رأسهم رئيس حكومة المحافظين بوريس جونسون. وفي المقابل هوت أسماء مثل زعيم حزب العمال المعارض جيرمي كوربين، والرئيسة السابقة لحزب الليبراليين الديمقراطيين جوين سوينسون. كان المحك الرئيسي للمنافسة طوال السنوات الماضية هو الوصول إلى الخروج أو منعه. ولكن من الآن فصاعدا سيكون معيار الفوز أو الخسارة هو النجاح أو الفشل في تنفيذ الخروج.

يعرف جونسون، الفائز رقم واحد في بريكست، هذه المعادلة جيدا، ويعرف أيضا أن من يتربص بفوزه هذا كثر. هناك من يبحث عن انتقام سياسي، وهناك من يبني أجندات سياسية واقتصادية خاصة به أو بحزبه أو بجماعته. هناك مثلا القوميون الأسكتلنديون الذين يأملون بأن يكون الخروج بوابة لانفصال أدنبرة ولندن. والعمال الذين يريدون استرداد دورهم في المشهد السياسي للمملكة المتحدة.

المؤيدون لوحدة الجزيرة الأيرلندية لن يدخروا جهدا أيضا في الحشد لحلمهم هذا على امتداد أيرلندا الشمالية، كذلك سيفعل اليمينيون المتطرفون الذين يعتبرون “بريكست” أولى خطوات تطهير البلاد من المهاجرين واللاجئين.

وليس من قبيل المبالغة القول إن قوائم الرابحين والخاسرين في بريكست ستشمل دولا وليس أفرادا فقط. ثمة عواصم أوروبية ترى نفسها المركز المالي العالمي الذي سيقوم على أنقاض أسواق لندن. وعواصم أخرى تحبس أنفاسها خوفا من تداعيات إغلاق الأسواق البريطانية في وجه تجارتها وعمالتها المهاجرة.

في القائمة أيضا دول تريد أن تتراجع المكانة السياسية لبريطانيا، ودول أخرى تريدها أن تتحول إلى قطب يشجع كل دول الاتحاد الأوروبي على الانفصال عن بروكسل، لينتهي هذا التكتل الذي يقارب الولايات المتحدة في ناتجه المحلي الإجمالي.

تدرك حكومة لندن كل هذه التجاذبات التي تحيط بمستقبلها بعد الخروج. ربما قد حسمت أمرها في بعض ملامح خارطة علاقاتها الخارجية بعد بريكست، فوضعت الولايات المتحدة قبل الاتحاد الأوروبي على قائمة اتفاقيات التجارة الحرة.

ولكن مهمة الحفاظ على المرتبة الخامسة بين الاقتصاديات الكبرى عالميا، والبقاء على ذات الفعالية في الأمن الداخلي، والمشاركة الفاعلة في السياسة الدولية تحتاج إلى الانفتاح على كثير من الدول والتكتلات في العالم، وعلى رأس القائمة يأتي الاتحاد الأوروبي بعمقه السياسي والأمني والاقتصادي لبريطانيا.

في رحلة الخروج التي ستمتد على أحد عشرا شهرا، بدءا من منتصف ليلة الحادي والثلاثين من يناير 2020 وانتهاء بالحادي والثلاثين من ديسمبر للعام ذاته، ستواجه بريطانيا والاتحاد الأوروبي تحديات كثيرة. لن تكون هذه الرحلة أسهل من مشوار الوصول لاتفاق الخروج. والقاعدة التي يحتاجها الجميع لبلوغ بر الأمان في هذه الرحلة هي أن الرابحين في عزل الطرفين عن بعضهما، أو تفككهما من الداخل، هم الخاسرون في أجنداتهم السياسية والاقتصادية. لن يعيش حلم بريطاني دون حاضنة أوروبية، ولن يكتمل أيّ مشروع أوروبي دون المملكة المتحدة.

  • Social Links:

Leave a Reply