طيب تيزيني كما عرفته

طيب تيزيني كما عرفته

الدكتور جون نسطة

(بمناسبة مرور عام على وفاة الدكتور طيب تيزيني)

تشكل عملية الكتابة عن ذكريات مع شخصية فلسفية بارزة مثل الدكتور طيب تيزيني، ترجع بداياتها لأكثر من ستين عاما، مهمة ليست سهلة، تستلزم الدقة وحك الرأس، كما يقال بالعامية.

عرفته في مطلع الشباب من خلال تواجدنا في مدينة واحدة، حمص التي تتميز علاقاتها الاجتماعية بطابع خاص متميز عن بقية المدن السورية الاخرى.

كنا – وحمص مدينة عدد سكانها في الخمسينيات قليل نسبياً – نعرف بعضنا البعض وخصوصا معشر الطلاب.

وكان الطيب من سكان المدينة القديمة الشرقية، وكان عليه حينما يرغب بالذهاب إلى مركزها أن يمر بنفس الشارع الذي كنت أعيش فيه حيث ألتقيه فيه.

كان شاباً متوسط القامة يميل إلى القصر، كثيف الشعر، أبيض الوجه، لباسه لا يميل إلى البذخ، يسير التؤدة متمهلا، لطيف السحنة، وكلامه ينطق بالتهذيب العالي والتواضع والانفتاح على الآخر، وكنا نحمل نفس الأفكار والتوجهات السياسية. بعد هذه الفترة من التلاقي الغير منتظمة وغير مخطط لها، شاءت الأقدار أن نلتقي في مدينة بيروت اللبنانية، فارين من أجهزة القمع الاستبدادية السراجية في زمن الوحدة بين مصر وسوريا.

كنا الطيب وانا منتظمين في صفوف الحزب الشيوعي السوري بقيادة خالد بكداش الشخصية التاريخية المثيرة للجدل، الذي لم يصوت كعضو مجلس نيابي على قرار المجلس النيابي السوري عن قيام دولة الوحدة في شباط 1958، بعد أن غادر دمشق بنفس اليوم.

ولم يوافق الحزب بحل نفسه حسب شروط الرئيس جمال عبد الناصر للوحدة، وأعلن الحزب عن موقفه تجاه الوحدة بإعلان المبادئ الثلاثة عشرة والتي قالت بتلخيص أن هذه الوحدة الاتحادية لم تراعي الظروف الموضوعية والتاريخية لكلا البلدين، وأنها تغاضت عن مبادئ الديموقراطية، وأنها بهذا الشكل لا يمكن ان تعيش طويلا، إلا إذا راعت هذه المبادئ الهادفة إلى الإصلاح.

في ليلة رأس السنة عام ١٩٥٨-١٩٥٩ شنت الأجهزة الأمنية المخابراتية حملة اعتقالات واسعة شملت آلاف من كوادر وأعضاء الحزب. في بيروت كان أعضاء من قيادة الحزب وبمساعدة الحزب الشيوعي اللبناني يعملون على استيعاب الأعداد الكبيرة من الشيوعيين اللاجئين وتنظيمهم وإيجاد مساكن لهم ومساعدتهم مالياً ومعنوياً. وشاءت الصدفة أيضا أن نلتقي في غرفة واحدة استأجرها الحزب لنا على سطح بناية عالية في حي الأشرفية، وهي بالأساس معدة للغسيل لسكان البناية. كانت غرفة صغيرة الحجم، وكنا نعيش فيها وعددنا يتراوح بين سبعة الى عشرة أشخاص حسب الظروف. كنا نفترش الأرض على فرشات محشوة بقشر الموز المجفف وسعر الواحدة سبعة ليرات لبنانية بدون شراشف ولا مخدات تحت الرأس، التي كنا نستعيض عنها إما بالكتب او الأحذية، وكنا أحياناً نتناوب بالنوم نظراً لضيق المكان. كانت النقاشات حادة وبصوت عالي تمتد لساعات طويلة، وأحيانا كان يتحلق الرفاق للعب الورق او الشدة بالعامية وما يرافق ذلك من صراخ من إعجاب وسخط.

كان الطيب رجلا هادئاً، جاداً متزناً، شديد التفكير والتأمل، منزعجا من هذا الجو المحيط به. وكان يقرأ لساعات طويلة في مختلف الكتب اليسارية الفكرية والتاريخية.

وفي مرة سألته لماذا يواظب على القراءة المكثفة أجابني بأنه يعد لكتابة مؤلف يهز به أركان الدولة الناصرية- حسب تعبيره- “القائمة على الاستبداد وديكتاتورية الفرد ومظلومية الشعب السوري”. كان الطيب إنساناً عاقلاً حكيماً شديد التزهد بالطعام والشراب والملبس. كان أحياناً يسلق كيلو من البطاطا ويعيش عليه لمدة أسبوع كامل طبعاً مع الثوم والزيت.

بقينا في في بيروت عدة ًشهر، وبعدها بدأ الحزب بإرسالنا تباعا لدول المنظومة الاشتراكية بقصد الدراسة الجامعية. وخرج الطيب بوثيقة سفر لبنانية لمرة واحدة, وخرجت أنا ورفيقي (عون جبور) بجوازين سفر لبنانيين مزورين.

وشاءت الصدف أيضاً أن نلتقي أيضا بقرية صغيرة بالقرب من برلين في بيت للراحة تابع لاتحاد النقابات العمالية الألمانية.

وأمضينا في هذا البيت وتحت سقف واحد أيضا عدة أشهر تعرفنا خلالها على معظم مدن ألمانيا الديموقراطية ومعالمها الرئيسية عن طريق رحلات نظمها لنا الحزب الاشتراكي الموحد الحاكم الذي أكرم ضيافتنا إلى أبعد الحدود. وبعدها ،واختصارا للوقت، بدأنا في شهر أيلول من العام ١٩٦٠ بدراسة اللغة الألمانية في معهد هردر بمدينة لايبزغ وأيضاً في بيت واحد للطلبة. كانت قيادة الحزب قد أصدرت قراراً لا يسمح لأعضاء الحزب بالدراسة إلا بالفروع العلمية من هندسة وكيمياء وفيزياء ورياضيات إلخ، ولا يسمح بدراسة العلوم الاجتماعية من فلسفة وتاريخ واقتصاد إلخ. سألنا عن امكانية دراسة الطب فجاء الجواب ايجابياً. فعكفنا الطيب تيزيني وأنا وعدد لا بأس به من الرفاق بدراسة الطب في جامعة لايبزغ. صديقي الطيب وافق على ذلك بمضض ولكنه وبعد عدة أشهر اكتشف نهائياً بأنه غير متأقلم ومنسجم مع دراسة الطب، وتقدم بطلب خاص للسماح له بدراسة الفلسفة وأخذ الموافقة.

أخذ الطيب في الانصباب بشكل مذهل على الدراسة في قراءة أسس الماركسية اللينينية، واستغرق بدراسته عدة أشهر، واستمر بهذا الاجتهاد والجلد لحين تخرجه في العام ١٩٧٠.

خلال دراسته كان يسكن في غرفة منفردة في بيت للطلبة، وكان لا يخرج منها إلا فيما ندر وللضرورة فقط، ولم يكن مهتما بتبؤ مراكز قيادية في منظمة الطلاب أو بالمنظمة الحزبية.

في العام ١٩٧٤ وبعد حصوله على شهادة الدكتوراة في الفلسفة التقينا مجدداً على أرض الوطن وفي دمشق بالتحديد. وكان يحاول الدخول إلى قسم الفلسفة بجامعة دمشق كمدرس، والجامعة ترفض بناءاً على قرار من القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي لا يسمح لغير أعضاء الحزب بممارسة مهنة التدريس في الجامعة. وقتها سألني ،باعتباري كنت قيادياً في منظمة لايبزغ الحزبية، عن رأي الحزب بهذا الموضوع. فقلت له وبدون مراجعة قيادة الحزب، اذهب وانتسب لحزب البعث ودرِس بالجامعة لأنك هناك تفيد الفكر الماركسي أكثر مما لو بقيت في الحزب الشيوعي السوري، هذا الحزب الذي لم يكن يولي اهتماماً بالمثقفين عموماً والفلاسفة خصوصاً، وكان يقول “أن الرفاق الكبار (السوفييت) يمدونا بالفكر والفلسفة بما يكفي”.

ودخل الطيب جامعة دمشق مدرساً ناجحاً جداً محبوباً من الطلاب المتشوقين للاطلاع على الماركسية في تلك الفترة، وبدأ الدكتور طيب تيزيني يؤلف كتاباً بعد الآخر يدرس فيه التراث الفكري العربي الإسلامي وينتقده من وجهة نظر ماركسبة متطورة. وانتشرت كتب طيب تيزيني كالنار في الهشيم في كل العالم العربي من أقصاه إلى اقصاه، في محاولة تشكيل وعي عربي جديد. ومن أكثر ما قرأته بشغف كان جداله ونقده لفكر محمد عابد الجابري، وتأويله في تفسير القرآن الكريم ونقاشه مع المفكر الإسلامي محمد سعيد رمضان البوطي.

وعلى النطاق الاجتماعي السياسي أيضاً لا يسعني إلا أن أذكر بمواقف الدكتور طيب المشرفة والشجاعة، فقد قام منذ التسعينيات من القرن الماضي بتعرية النظام القائم من حيث ممارسته العنف المنظم من اعتقالات وملاحقات لستر تورطه في مجالات الفساد ونهب خيرات وثروات الشعب بأكمله. وهو صاحب ترويج فكرة فضح نظام الفساد والإفساد على نطاق واسع. طيب تيزيني شكل مثالاً واقعياً لما عبر عنه الماركسي الإيطالي غرامشي عن (المثقف العضوي). فهو في دفاعه عن المفقرين والمهمشين وأصحاب الدخل المحدود لم ينسى تحميل النظام المسؤولية عما يحدث. وبنفس الوقت كان يهاجم الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل والصهيونية والرجعية العربية وحلفائها، ويحمل العولمة الرأسمالية المتوحشة مسؤولية افقار الشعوب وفرض الهيمنة الأمريكية على أسواقها واقتصادياتها الضعيفة. وهو خاض مع بقية أطراف المعارضة الدفاع عن هبة الشعب السوري في 18 آذار 2011 وقتل المتظاهرين العزل وأيد أهدافها بكل جرأة ووضوح. ففي اللقاء التشاوري الذي دعا اليه نائب رئيس الجمهورية السيد فاروق الشرع في 10 تموز 2011 طالب بتفكيك الدولة الأمنية وبوقف اطلاق الرصاص على المتظاهرين، وبإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، كمقدمة لحوار ديمقراطي يعالج الأزمة السورية.

رحل عنا فقيدنا الدكتور طيب تيزيني مخلفاً إرثاً ثقافياً عظيماً سوف يخلده في تاريخ الفكر العربي الحديث

  • Social Links:

Leave a Reply