“عند مزار درويش”

“عند مزار درويش”

أحمد برقاوي يكتب لليوم الثامن:

”هذا الشاعر الذي تربع على عرش الشعر العربي في مرحلته أميراً لا ينازعه على العرش إلا نزار“

تنتمي فكرة المزار إلى تقاليد الشرق العربي، والفرق بين القبر والمزار هو أن القبر يزار من قبل جمهور  من الذين يمتون بقرابة  إلى ساكن القبر في أول أيام الأعياد عموماً، فيما المزار قبرٌ عظيم أثير لدى طائفة، لدى شعب، لدى فئة، قبر يحتل مكاناً خاصاً خارج مقبرة الجماعة في القرى أو المدن، وتغدو زيارة القبر طقساً أشبه بالطقس الديني، فقبر المعري منفرد، كما قبر محيي الدين بن عربي، وقبر صلاح الدين، وقس على ذلك.

ضريح درويش بالنسبة للكثيرين أشبه بضريح الولي الذي تُطلب بركاته، بل هو مزار، هذا الشاعر الذي تربع على عرش الشعر العربي في مرحلته أميراً لا ينازعه على العرش إلا نزار.

فأينما ذهب وحلّ أقيمت له الاحتفالات، وجاء جمهوره- وهو من الشباب- بالمئات يستمع إلى هذا الشاعر الذي لم تشهد المنابر حضوراً كحضوره وصوتاً كصوته.

محمود درويش شاعر العرب الفلسطيني، غنيت بعض قصائده وسجلت على الأشرطة وعلى ( CD)، لم يجمع  الفلسطينيون على شخص كما أجمعوا على حب درويش والتعلق به، أبو عمار، جورج حبش في السياسة، ودرويش في الشعر. أتحدث عن الشعب، بل قل درويش شاعر الشعب، لم ينتصر شعب كامل لشخصية كما أنتصر لدرويش، حين شوهه المسلسل أحس كل فلسطيني وعربي محب له بأنه تم النيل منه، درويش ليس لأحد بعينه، هو للكل من المحيط إلى الخليج.

كُرس درويش شاعراً ذا مناعة ضد أي نقد، بل أن أي نقد لدرويش لا أثر له عند محبيه.

اشتهر صغيراً وخرج من الحياة صغيراً، ومن بين شعراء الأرض المحتلة كما سمّوا في الستينات احتل درويش المكان الأبرز عن جدارة وحق.”سجل أنا عربي” ألهبت كل القوميين وهو الشاعر الشيوعي.

أجل شاعران اقتسما الجمهور العربي: نزار الذي استولى على أذواق الشباب والشابات في تجاربهم العاطفية ونزقهم السياسي، ودرويش في تجربتهم الوطنية وانتمائهم إلى فلسطين قضية.

صوت درويش الغنائي الشعري اخترق الوجدان العربي، فالشفاهي عند درويش خارق، بين قراءة شعر درويش والاستماع إليه فرق كبير، والذوق الشعري العربي بالأصل، ذوق شفاهي، بل إن عيوب الشعر تختفي بالإلقاء، وبخاصة الشعر الكلاسيكي الملتزم بالبحور والقوافي، فالإلقاء والقوافي والبحور هي التي منحت الجواهري لقب الشاعر الكبير، مع أن صوره عادية ومكرورة وباهتة، إنه صاحب قصيدة بحور وقافية ليس إلا.

لكن شعر درويش ليس نغماً وإلقاء فقط بل موضوعاً وصورة.

درويش مزار في رام الله، واليوم زيارة لدرويش.قليلة هي الأضرحة التي زرتها في حياتي، لقد زرت ما قيل إنها أضرحة إخوان الصفا في تلال مصياف، وزرت ضريح صلاح الدين الأيوبي في دمشق، وضريح يوسف العظمة في ميسلون، وضريح أبي العلاء المعري في معرة النعمان، وضريح ابن تيمية في جامعة دمشق، وضريح خالد بن الوليد في حمص، وضريح محي الدين النووي في نوى، وضريح محي الدين بن عربي في جامع محي الدين في دمشق.

وها أنا في طريقي إلى ضريح درويش بعد أن زرت قبلاً ضريح “أبو عمار”.

تربطني علاقات قوية بأكثر مبدعي فلسطين: شعراء وروائيين وفنانين تشكيليين ونقاد أدبيين وأكاديميين.

لكن الظروف الجغرافية ربما حالت دون أن تقوم علاقة ما بيني وبين درويش، مع أن لدينا أصدقاء مشتركين كثر، وقد التقيت بدرويش مرتين في سورية دون قصد، مرة في أمسية شعرية أحياها في صالة الجلاء، وكان اللقاء قصيراً جداً، ومرة بدعوة من وزير الإعلام السوري محمد سلمان آنذاك في نادي الشرق.

في المرة الأولى تصافحنا وعرفته بنفسي وكان ودوداً وقال لي:” معروف دكتور”.

وفي المرة الثانية تحلق حوله المدعوون على شرفه ولم يتسن لأحد أن يكمل فكرة ما، وكان الجميع يتوجه إليه بالكلام.

ولكني حضرت له أكثر من أمسية على مدرج الهندسة ومدرج الجامعة وصالة الجلاء.

في المرة الثانية التي رأيته فيها كان ذا وجه مرهق، دائم التحريك بشفتيه ولسانه، وشعره مصبوغ باللون الأقرب إلى الشقرة، يرفع نظارته بيده إلى عينيه، وحاجباه خفيفا الشعر، قليل الكلام وإن تكلم فبصوت أجش، ولم يكف عن التدخين.

أحسست أنه لم يكن سعيداً بهذه الجلسة، إما أنه لا يحب الجلوس مع عدد كثير من الناس، أو لأنه مرهق، لكنه كان ودوداً في نظراته مع الجميع، لم يتحدث أحد عن الشعر أو عن شعر الشاعر بل كان الحديث في السياسة ولك أن تتخيل عشرين شخصاً أو أكثر من الفلسطينيين والسوريين يتحدثون بالسياسة.

لكني أقمت علاقة متنوعة مع شعر الشاعر، فمازلت أقرأ درويش بوصفي شخصين: الفلسطيني من جهة، والفيلسوف من جهة ثانية، ولهذا عندما كتبت عن درويش في جريدة السفير كتبت نصاً فلسفياً،عندما رأيت درويش رأيته بوصفي فلسطينياً.

ولعمري إني نجحت دون إرادة مني في التمييز بين تلقيّ شعر درويش فلسطينياً وقراءتي له فلسفياً، ولهذا أنظر إلى درويش على أنه شاعران وليس شاعراً واحداً، ودرويش الشاعر الفلسطيني أميز من درويش الشاعر الفلسفي.

”أفرح بهذا الجيل الذي يستعيد حرارته وهو يصغي إلى صوت درويش الموسيقي دون ملل إطلاقاً“

كم كنت أفرح حين أرى الجمهور يفترش الأرض للاستماع إلى درويش، بل ويردد معه بعض قصائده، وحين أقول الجمهور فإني أعني المئات من كل الأجيال إناثاً وذكوراً، أفرح بهذا الجيل الذي يستعيد حرارته وهو يصغي إلى صوت درويش الموسيقي دون ملل إطلاقاً، وإن نعمة الحضور التي قيضت لدرويش أدخلته قلوب الناس وبسرعة كبيرة وميزته عن الجميع، إنه ببساطة يبز الجميع من هذه الزاوية كما قلت.

وإذا كان العربي يحب درويش، فالفلسطيني متعصب له، درويش وأبو عمار قادا معركة الفلسطيني بوصفهما رمزين: رمز الزعامة السياسية الكارزمية والبندقية، ورمز الكلمة المؤثرة والخلاقة.

ومازلت أتساءل: كيف تأتى لدرويش قوة ايقاف جل شعره على قضية واحدة هي قضية فلسطين، إنه شاعر قضية بامتياز ولو لم تتوافر له عبقرية شعرية لما استطاع ذلك.

من “سجل أنا عربي” إلى” لاعب النرد” أحد أجمل قصائده، مع أن حياة الذات ثرية أكثر مما نتخيل وبخاصة ذات الشاعر وتجاربه الوجودية متعددة وعميقة، هل كان باستطاعته أن يغير من تجربته؟ لا أدري.

لست الآن في معرض تقديم دراسة عن شعر درويش، وفي كل الأحوال، أعتقد بأنه حاضر في الوجدان كحضور قضية فلسطين، هل ضحى درويش بموهبته وحال دون ظهورها الأكمل بسبب وقوفه عند قضية شعبه..؟ ربما، ولكن فلسطين قضية تستحق أن يضحى من أجلها، وقس على ذلك تجربة رسام الكاريكاتور الفلسطيني الأشهر ناجي العلي.

ها أنا وعبد الرحمن أبو القاسم وعمر حلمي الغول أمام ضريح محمود درويش. لوحة مرمرية على القبر مكتوب عليها:”محمود درويش /13/ آذار /1941- /9 /آب /2008/، وحول القبر مساكب زهور يغلب عليها اللون الليلكي.

الضريح جزء من مجمع ثقافي كبير بني بفن معماري يليق بالعظماء.

تحت التراب يقيم الآن شاعر لم يبلغ السابعة والستين من العمر، أمضى منها أكثر من سبعة وأربعين عاماً في كتابة الشعر، تحت هذا الرخام كائن ملأ الدنيا وشغل الناس بكل نزقه وخوفه وشجاعته وعشقه وآلامه وأفراحه، تحت هذا الرخام يقيم لاعب النرد.

رحيل المبدع خسارة للحياة فكيف إذا رحل ومازالت تسبح في حبره عشرات القصائد.

أسأل صديقي عبد الرحمن الذي رغب في أخذ صورة لنا عند الضريح، وأي معنى لهذه الصورة، وأي ذكرى تلك التي تعنيها الصورة أمام القبر.

”إن محمود الراحل أغنى في الوجدان من محمود المقيم، هكذا هي الحياة. تلتقط الصور التذكارية مع الضريح“

يبدو أن هناك وعياً خفياً لدى الكائن بأن العدم نسبي، فهل محمود الحي هو محمود الميت ذاته، طبعاً لا، بل إن محمود الراحل أغنى في الوجدان من محمود المقيم، هكذا هي الحياة. تلتقط الصور التذكارية مع الضريح، وفي اللحظة ذاتها استحضر الحزن العميق الذي حطم قلوب الكثيرين ممن أعرفهم.

نترك القبر خلفنا وندخل متحف درويش، وهو بناء كبير تسمع في كل أنحائه صوت درويش دون توقف وهو يلقي قصائده، فأنَّى اتجهت ترى وجه درويش وتسمع صوته.

في القاعة التي تحتوي على بعض أشيائه، خزانة زجاجية تحتوي على وثائق رسمية، كبطاقة هوية وجلاء مدرسي، وأمر من أمام هذه الأشياء دون اكتراث لأنها لاتقول شيئاً عن درويش، أخطو إلى الأمام طاولة وكرسي، قيل لي أن درويش قد حملهما معه من باريس، إنها الطاولة نفسها التي كتب عليها والكرسي الذي جلس عليه. تشي الطاولة بذوق رفيع وحنين إلى عصر الحداثة، وكذا الكرسي.

قد لا يعرف الكثيرون العلاقة الحميمة التي تقوم بين الكاتب وكرسيه وطاولته، ولست أدري ما إذا كنت قادراً على تعميم تجربتي.

ففي مكتبي في قسم الفلسفة الذي يضم طاولات ثلاث إحداهما للدكتور يوسف سلامة والأخرى للدكتور سليمان الضاهر لم أستطع أبداً أن أجلس على الكرسي وأكتب على الطاولة، الكرسي والطاولة لا ينتميان إلى الفن، ولهذا فتشت عن طاولة قديمة من طاولات جامعة دمشق التي يعود عمرها إلى خمسين سنة وكرسي يليق بها، كلا الطاولة والكرسي مزخرفان.

وكذا في البيت حيث طاولتي وكرسي من فئة الأرابيسك. أتخيل الصداقة التي قامت بين درويش وهذه الطاولة الجميلة والكرسي الأنيق، أتخيل الأوراق المبعثرة وصحن السجائر والكتابة والتوقف عن الكتابة و”التشخيط “.

هذه الطاولة التي شهدت ولادة القصائد ها هي الآن وحيدة للفرجة، إنها في زاوية لا شغل لها سوى أن تعرض ذاتها أمام الزائر، الكرسي هذا لن يجلس أحدٌ عليه إلى الأبد، لن ينتظر أحدا ً،كنت أتسائل في إحدى قصائدي:

” ماذا لو كان للشجر عيون..”.

 

والآن أسأل ماذا لو كانت لهذه الطاولة عيون، ولهذا الكرسي عيون؟ فكيف ترانا، وكيف يرانا؟.

أنتبه إلى الخزانة القائمة خلف الكرسي،ثلاثة أقلام أو أربعة لست أذكر تستلقي على الرفوف. أدرك من فوري أن درويش أقام علاقة خاصة بالقلم، فالأقلام هي أقلام حبرٍ سائل ومن النوع الفاخر، وأنا مازلت أظن أن احترام الكتابة لاتكون إلا بأقلام الحبر.

عدد كبير من الكتاب يكتبون الآن بالأقلام  الناشفة أو بأقلام الرصاص أو ما شابه ذلك. من النادر أن تجد الآن من يكتب بقلم الحبر الفاخر.

أدرك المتعة التي كان يحس بها درويش وهو يضم القلم بين أصابعه، وتنساب ريشته الذهبية على الورق. القلم محبوب بالمعنى الدقيق للكلمة، بل إنك لا تستطيع- إن كنت تحب قلمك- أن تهديه للآخر.

أمام أقلام درويش تشعر بحزن وجودي، ذلك أنك تشعر بيتم القلم، أجل إذا كانت علاقة القلم بك يومية، قلم بعينه، في غيابك عنه يصير القلم يتيماً لا أب له أو أم.

لكل قلم من أقلام المبدع قصة، إنها مجموعة أولاد أناملك، لكل قلم مأثرة، بل- لمن لا يعرف- هناك طقس لإغتسال القلم من الحبر الذي يتراكم عليه ويضر بصحة إنسيابه.

يعتقد بعض الكتاب أنها العادة، عادة الكتابة بالقلم الفاخر، فجمال القلم يغدو جزأً من طقس الكتابة، حيث طقس الكتابة متكامل جداً بشكليه الخارجي والداخلي.

يمنحك القلم الحميم إحساساً خاصاً بأناك أنه أنا لا يشبهه أنا آخر، فيغدو القلم الخاص جزء من أناك الخاص.

لست أدري ما إذا كان لدرويش هواية اقتناء الأقلام الفاخرة لكن الأقلام التي رأيتها تشير إلى خصوصية القلم عند درويش، انتقلت من القلم إلى خزانة تحتوي على صفحات من شعر مكتوبة بخط درويش وبأقلام الحبر.

لقد أدهشني خط درويش الأنيق والجميل والمفهوم، إنه أشبه بخط والدي، ربما كانت هذه الأوراق أوراق قد بيضت لأنها خالية من الشطب. أقول أدهشتني لأن خطوط المبدعين بعامة خطوط جميلة لكنها غير مفهومة، وإذا صدقنا أن الخط معبر عن الشخصية فإن شخصية درويش منظمة حذرة وباطنية.

ونحن لا نعرف الكثير عن حياة درويش الخاصة، أو على الأقل أنا لا أعرف، ولم أقرأ لأحد عن حياته، والمسلسل السخيف الذي عرضته إحدى الفضائيات لا يقول شيئاً عن حياته الخاصة.

كل ما أعرفه عن درويش أنه عاش طفولة فقيرة ومعذبة، وعمل في مطعم، ثم عمل صحافياً في جريدة الاتحاد، وأنتسب إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي عام 1961، سافر إلى موسكو للدراسة عام 1970، لكنه لم يستسغ ذلك فعاد إلى القاهرة وأشتغل في جريدة الأهرام وقرر عدم العودة إلى فلسطين، ترأس مجلة شؤون فلسطينية بين أعوام 1973-1981، ثم صار مديراً لمركز الأبحاث. غادر بيروت بعد غزوها من قبل العدو، تزوج من الفتاة الدمشقية الارستقراطية رنا قباني عام 1977، وهي فتاة جميلة ومثقفة، لكننا لاندري ما إذا كان قد عاش معها قبل الزواج تجربة حب أم لا، ولاندري أيضاً أسباب الطلاق بعد سنتين أو ثلاث سنوات من الزواج، ثم تزوج من المترجمة المصرية حياة الهيني ثم انفصلا دون أن نعرف تفاصيل حياته معها وتفاصيل انفصاله.

عاش في باريس سنوات عشر بين 1985-1995، أنتخب عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ثم استقال بعد اتفاق أوسلو، أصيب بأزمة قلبية عام 1984 وأجريت له عملية جراحية عام 1999، وفي يوم السبت /9/آب/ رحل درويش بسبب العمل الجراحي في القلب.

نعرف أنه عاش تجربة حب قوية مع فتاة يهودية اسمها ريتا وكتب عنها قصائد جميلة تدل على هوىً جارف. والناس يعرفون قصيدته التي مطلعها بين ريتا وعيوني بندقية والتي كتبها في الستينات، ويبدو لي أنه لم يحب حباً عاصفاً غير ريتا، والحب الصاعقي هذا إذا ما بقي دون برود من أحد الطرفين ،وصار الانفصال ثمرة ظروف قاهرة لايزول أبداً.

وعندي إن الذي يعيش تجربة حب صاعقي يحتاج إلى وقت طويل كي يعيش تجربة حب مثيله،أو قد يمضي العمر كله دون استعادة التجربة، وإذا عدنا إلى ديوان أعراس الذي كتب درويش قصائده بين 1975-1976، وقرأنا قصيدة الحديقة النائمة سنجد أنفسنا أمام هذا الحب العاصف بعد ثلاثة عشر عاماً في صورة:

أحبك ريتا . أحبك . نامي وأرحل

بلا سبب كالطيور العنيفة أرحل

بلا سبب كالرياح الضعيفة أرحل

أحبك. ريتا .أحبك نامي

سأسأل:

أما زلت  نائمة

أم صحوت من النوم….

ريتا ! أحبك ريتا

أحبك…

بعد ثلاثة عشر شتاء، بعد ثلاثة عشر عاماً يردد درويش ست مرات في مقطع من قصيدة كلمة أحبك، وخمس مرات اسم ريتا، أي أن درويش ظل يحب ريتا حتى وفاته حباً صاعقياً.

هذا لايعني أنه درويش لم يحب بعد ريتا، بل أنه لم يعش تجربة العشق والهوى التي عاشها مع ريتا مع امرأة أخرى، وقد قالت لي السيدة نعمت خالد عندما سألتها إن كانت تعرف شيئاً عن تجربة درويش في الحب أنها علمت أن درويش قد أحب امرأة تونسية ولست أدري.

ولكن قصائده في سرير الغريبة قصائد الحب وليست قصائد هوىً، أما حياته في باريس فأنها سمحت له بفسحة تأمل بتجربته، بحياته بوجوده وهذه الفسحة أثمرت وعياً جديداً لديه للشعرية.

وربما كانت تجربته مع الموت واحدة من أعمق التجارب التي عاشها والتي صاغها في الجدارية.

أجل: حين أمتلأ درويش بكل أسباب الرحيل رحل.

ودعت درويش ومتحفه وضريحه وأنا فخور بكتابي:” كوميديا الوجود الإنساني”.

درويش الذي عاش الوجود تراجيدياً، محملاً لغته الهم الفلسطيني، درويش الذي- لا أدري كم كان مشدوداً للحياة- لكني أعتقد أنه يحبها ولكن ليس بطريقة الصعلوك، درويش الذي سيقيم إلى الأبد في بيته المزار، سيزار إلى الأبد بوصفه رمزاً من رموز التراجيديا الفلسطينية والكفاح المبدع للفلسطيني.

محمود درويش الذي كان يعشق اللعب بالنرد، لن تستطيع أنامله أن ترمي النرد على مسرح الحياة،بعد الآن، شعراً عظيماً.

رحل درويش وكتبتُ رثاءً له يوم موته أقول:

” سرق الموت نشيداً عربياً لازِمتُه فلسطين،

مات النشيد،

أمتطى براق الموت،

لوح دون أن يحمر وجهه خجلاً من دمعة أحمد العربي، وحيداً صار أحمد بلا نشيد.

صبرا تستعيد السؤال:

أكل هذا الموت لنا..؟

في الظَهر نُطعن بالمدى ليلاً،

بالصدر نطعن في وضح النهار،

وغزة تنام على وجعين،

تمر على موتين،

فهل آثرت الرحيل كي يستفيق الفلسطيني على الموت البهي..؟.

أتراك أعلنت الموت كي نتذكر أحمد العربي

والمحاصر بين بندقيتين الأولى لنا والثانية لنا.

مات النشيد بعد أن صار أناشيد الحزن الفلسطيني،

أناشيد الأمل الفلسطيني،

أناشيد العشق الفلسطيني،

أناشيد الحياة.

أي جرح نازف نحن يا محمود،

روائيين ننزف،

شعراء وموسيقيين ننزف،

وفيلسوفاً ومحاصراً وشهيداً ننزف.

جرح ينفر ورداً أحمر،

حتى إذا كانت آخر قطرة من الورد

عزفنا لأنفسنا موسيقى الوداع الأخير.

مات النشيد

وها نحن أولاء نشيعه على أكتافنا لقلبونا.

أيها الفلسطيني، أي قلب قلبك هذا!

قلب يصنع الحياة وقلب مقبرة.

تبعثرت أجسادنا في كل الأمكنة،

وتتجمع قلوبنا الراحلة في القلوب.

أنهكنا الموت يا محمود من أجل أرض تستحق الحياة، ستسألك فلسطين وهي تلقي عليك النظرة الأخيرة..!

أكل هذا الموت لي ..

أيها النشيد الراحل إلى قلبي،

دعني أسر إليك في لحظة وداعك قائلاً:

إني أحب القمح لكني أحب الورد أكثر..”.

  • Social Links:

Leave a Reply