حكاية من التراث

حكاية من التراث

عبد الرزاق دحنون – العربي الجديد:

نبهتني لأهمية هذه الحكاية التي يزيد عمرها عن الألف عام الأديبة السورية المعروفة ألفت الإدلبي -رحمها الله- وهي كاتبة قصة عريقة ازدهرت في النصف الثاني من القرن العشرين.

وألفت الإدلبي دمشقية كرست معظم كتاباتها لمدينتها. ومدينتها دمشق وليست إدلب وإنما تأدلبت تبعاً لزوجها على حسب العادة الغربية. في كتبها “نفحات دمشقية” جمعت محاضرات قدمتها للجمهور الدمشقي في مناسبات مختلفة حكت فيها عن همومها الثقافية وعن رحلاتها العديدة إلى مختلف البلدان. أما حكايتنا هذه فقد تناولتها كتب السير والأخبار والكشاكيل، وجاءت الحكاية في أكثر من مصدر من كتب تراثنا العربي، منها “الإمتاع والمؤانسة” لأبي حيان التوحيدي و”رسائل أخوان الصفا”، وقد أخذت ألفت الإدلبي نصَّ روايتها عن أبي حيان التوحيدي ونشرته في كتابها “نفحات دمشقية” في فصل عنونته “إسرائيليات”.

تحكي القصة عن رجلين تصاحبا في بعض الأسفار، أحدهما من أهل كرمان والآخر من أهل أصفهان في بلاد فارس، وكان الأول من أهل الديانة الزردشتية راكباً على بغلة عليها كل ما يحتاج إليه المسافر في سفره من الزاد والنفقة والأثاث، فهو يسير مرفّهاً، والثاني من أهل الديانة اليهودية كان ماشياً ليس معه زاد ولا نفقة. فبينا هما يتحدثان، قال الأول للثاني: ما مذهبك واعتقادك، يا شايلوك؟

أجاب: في ديانتي اليهودية اعتقاد أن في هذه السماء إلهاً هو إله بني إسرائيل وأنا أعبده، وأسأله وأطلب إليه ومنه السعة والرزق، وطول العمر، وصحة البدن، والسلامة من الآفات، والنصرة على الأعداء، أريد منه الخير لنفسي ولمن يوافقني، ولا أفكر في من يخالفني في ديني ومذهبي، بل أرى وأعتقد أن من يخالفني في ديني ومذهبي، فحلال لي دمه وماله، وحرام عليَّ نصرته أو نصيحته أو معاونته أو الرحمة أو الشفقة عليه.

عندما استغرب أهل البلدة ما قام به مغا، أجاب بأن سلوك شايلوك صار جبلة وطبيعة ثانية، يصعب عليه تركها والإقلاع عنها، كما صار رأيي ومذهبي عادة وجبلة يصعب الإقلاع عنها والترك لها

ثمَّ التفت إلى رفيقه في السفر قائلاً: قد أخبرتك عن مذهبي واعتقادي لما سألتني عنه، فأخبرني، يا مغا، أنت أيضا عن مذهبك واعتقادك.

عندها قال مغا: أما اعتقادي ورأيي فهو أنني أريد الخير لنفسي ولأبناء جنسي كلهم ولا أريد لأحد من الخلق سوءاً، لا لمن كان على ديني ويوافقني، ولا لمن يخالفني ويضادّني في مذهبي.

استفسر شايلوك: وإن ظلمك واعتدى عليك؟

أجاب مغا: نعم، لأنني أعلم أن في هذه السماء إلهاً خيراً فاضلاً عادلاً حكيماً عليماً لا تخفى عليه خافية في أمر خلقه، وهو يجازي المحسنين بإحسانهم، ويكافئ المسيئين على إساءتهم.

علق شايلوك: فلست أراك تنصر مذهبك وتحقق اعتقادك.

قال مغا: وكيف ذلك؟

قال شايلوك: لأني من أبناء جنسك، وأنت تراني أمشي وقد أرهقني التعب وضربني الجوع وكاد يهلكني، وأنت راكب شبعان مترفه.

استفسر مغا: صدقت، وماذا تريد؟

قال شايلوك: أطعمني واحملني ساعة لأستريح فقد أعييت.

عندها نزل مغا عن بغلته، وفتح سفرته، فأطعمه حتى أشبعه، ثم أركبه ومشى معه ساعة يتحدثان. فلما تمكن شايلوك من الركوب، وعلم أن مغا قد أعيا، حرك البغلة وسبقه، وجعل مغا يمشي فلا يلحقه، فناداه: يا شايلوك، قف لي وانزل فقد أعييت!

فأجاب شايلوك: أليس قد أخبرتك عن مذهبي يا مغا، وأخبرتني عن مذهبك، ونصرته وحققته، وأنا أريد أيضا أن أنصر مذهبي وأحقق اعتقادي.

وجعل يجري البغلة وصاحب الديانة الزردشتية في أثره يعدو، ويقول: ويحك يا شايلوك، قف لي قليلا واحملني معك، ولا تتركني في هذه البرية تأكلني السباع وأموت جوعا وعطشا، وارحمني كما رحمتك.

في حين استمر شايلوك لا يفكر في نداء صاحب الديانة الزردشتية، ولا يلوي عليه حتى مضى وغاب عن بصره. فلما يئس مغا من شايلوك وأشرف على الهلاك، تذكر تمام اعتقاده، وما وصف له بأن في السماء إلها خيراً فاضلاً عالماً عادلاً لا يخفى عليه من أمر خلقه خافية، فرفع رأسه إلى السماء فقال: يا إلهي، قد علمت أني قد اعتقدت مذهباً ونصرته وحققته ووصفتك بما سمعت وعلمت وتحققت. فحقق عند اليهودي شايلوك ما وصفتك به ليعلم حقيقة ما قلت.

فما مشى صاحب الديانة الزردشتية إلا قليلا حتى رأى شايلوك قد رمت به البغلة فاندقت عنقه، وهي واقفة بالبعد منه تنتظر صاحبها. فلما لحق صاحب الديانة الزردشتية بغلته ركبها ومضى لسبيله، وترك شايلوك يقاسي الجهد ويعالج كرب الموت..

فناداه شايلوك: يا مغا، ارحمني واحملني ولا تتركني في هذه البرية تأكلني السباع وأموت جوعاً وعطشاً، وحقق مذهبك، وانصر اعتقادك.

أجاب: قد فعلت مرة، ولكن بعد لم تفهم ما قلت لك، ولم تعقل ما وصفت لك.

قال شايلوك: وكيف ذلك؟

رد صاحب الديانة الزردشتية: لأني وصفت لك مذهبي فلم تصدقني بقولي حتى حققته بفعلي، وأنت بعد لم تعقل ما قلت لك، وذلك أني قلت لك أن في هذه السماء إلها خيراً فاضلاً عالماً عادلاً لا تخفى عليه خافية، وهو يجازي المحسنين بإحسانهم، ويكافئ المسيئين بإساءتهم.

أجاب شايلوك: قد فهمت ما قلت وعلمت ما وصفت.

قال مغا: إذن ما الذي منعك أن تتعظ بما قلت لك يا شايلوك؟!

أجاب: اعتقاد قد نشأت عليه ومذهب قد ألفته وصار عادة وجبلة بطول الدؤوب فيه، وكثرة الاستعمال له، اقتداء بالآباء والأمهات والأستاذين والمعلمين من أهل ديني ومذهبي، فقد صار جبلة وطبيعة ثانية، يصعب عليَّ تركها والإقلاع عنها.

فرحمه صاحب الديانة الزردشتية وحمله معه حتى جاء به إلى المدينة وسلمه إلى أهله مكسوراً. وعندما استغرب أهل البلدة ما قام به مغا، أجاب، بأن سلوك شايلوك صار جبلة وطبيعة ثانية، يصعب عليه تركها والإقلاع عنها، كما صار رأيي ومذهبي عادة وجبلة يصعب الإقلاع عنها والترك لها.

  • Social Links:

Leave a Reply