فصائل سياسية تغيّب التفكير النقدي وتتبرّم من النقد

فصائل سياسية تغيّب التفكير النقدي وتتبرّم من النقد

ماجد كيالي

كثيرا ما تتبرّم الفصائل الفلسطينية، كبيرها وصغيرها، من النقد السياسي، مهما كان مستواه، ودلالاته، معتبرة إياه زائدا عن حده، أو بمثابة ترف لا يفترض اقترافه، بحكم الظروف المعقدة للكفاح الفلسطيني، وهو كلام يفسر ضعف الحراكات السياسية في تلك الفصائل، وحال التكلّس في الفكر السياسي الفلسطيني، إضافة إلى أنه يحيل الإخفاقات والتقصيرات والثغرات إلى الخارج، أو إلى الظروف الموضوعية، فقط.

وفي الحقيقة فإن الأمر على خلاف ذلك، فمن يتمعّن في الخطابات والأدبيات وأنماط التفكير السائدة سيجد بكل بساطة أن ثمة ندرة في النقد، أو في أنماط التفكير النقدية، أو في إنتاج الأفكار النقدية، إذ إن نمط التفكير المهيمن هو الذي تنتجه الكيانات السياسية السائدة، وبالأخص الحركتين المهيمنتين “فتح” و”حماس”، سيما بعد أن باتت كل واحدة منهما بمثابة سلطة بكل معنى الكلمة، وأيضا بعد انحسار مكانة ودور الكيانات اليسارية.

على أية حال فإن الانطباع الاستنكاري الفصائلي في خصوص النقد السياسي الفلسطيني، ينطوي على تخوف بحدود معينة من تولّد أفكار نقدية في الحقل السياسي الفلسطيني العام، كما ينطوي، على اختزال تلك القوى للسياسة، وإصرار منها على خصخصتها، على طريقة الأنظمة السائدة، بجعلها احتكارا للطبقة السياسية المسيطرة، بمعزل عن معظم الشعب، وبغض النظر عن علاقات المأسسة والتمثيل والمشاركة السياسية.

هذا لا يعني أنه ليس ثمة نقد سياسي بين الكيانات السياسية السائدة، ذلك أن هكذا نقد موجود وبكثرة، لكن لعل ذلك النمط من النقد هو بالذات الفائض عن الحاجة، لأنه مجرد نقد فصائلي، وسطحي، ومضرّ، ولا جدوى منه، بما يتعلق بإيجاد حلول لمعضلات الساحة الفلسطينية، أو بشأن الارتقاء بفكرها السياسي. على ذلك ينبغي هنا التمييز بين النقد الذي تنتجه الفصائل في صراعاتها البينية، والذي يصدر عن عقليات أو حسابات فصائلية ضيقة، وبين النقد السياسي الذي يصدر عن عقليات وطنية تأخذ في حسبانها المصلحة العامة.

وكما شهدنا فإن النقد الفصائلي، في غالبيته، ليس تغييرياً، فهو يتعرض لسطح السياسة، وليس لعمقها، لمظاهرها وليس لجوهرها. وهو إن توخّى الإصلاح، فللحفاظ على النظام السياسي السائد (القديم)، بغض النظر عن أهليته وقدرته على صون الإنجازات المتحقّقة أو مواجهة التحديات الجديدة.

ينطوي النقد الفصائلي، المرهق، والعبثي، والمضرّ، على عديد من الادعاءات وضمنها، ادعاء احتكار الحقيقة والنزاهة والشرعية والوطنية، فكل من الكيانات السياسية يدعي حق احتكار كل ذلك، هذا ما تدعيه “فتح”، و”حماس”، والجبهات، والأحزاب.

والحال، فمن الصعب أن تنتزع اعترافاً من أي كيان من هذه الكيانات السياسية، مهما كان حجمه أو دوره صغيراً، إن في مواجهة العدو، أو بالنسبة لمكانته عند شعبه، بأقل من هذه الادعاءات. كما لا يمكنك انتزاع اعتراف من التنظيمات الكبيرة بمسؤوليتها عن مسار التدهور الحاصل في الساحة الفلسطينية، على الأقل بالقياس لحجمها ودورها، فما دامت مسؤوليتها القيادية كبيرة، فهذا يستدعي أن مسؤوليتها عما وصلت اليه الساحة الفلسطينية هو كبير أيضاً.

في هذا الخصوص من الصعب، مثلاً، أن تعترف حركة “فتح” بقسطها من المسؤولية عن التدهور الحاصل، إن بعقدها اتفاق أوسلو، بالثغرات والمخاطر التي تضمنها، وتهميشها منظمة التحرير، ودور اللاجئين في العملية الوطنية، وكذا مسؤوليتها عن كيفية إدارة السلطة، وعن الانقسام الحاصل في النظام الفلسطيني، فقد حصل ما حصل، بالنسبة لها، بسبب سياسات حركة حماس، وأيضا بسبب الظروف الموضوعية، والخلل في موازين القوى.

الأمر ذاته تقوله حركة “حماس”، أيضا، وفي المقدار نفسه، فهي لا تعترف بمسؤوليتها عما جرى، بالقياس للسياسات الانقسامية والتحريضية التي اتبعتها، وبالنظر لانتهاجها نمط العمليات التفجيرية التي أدت إلى استنزاف القدرات الفلسطينية، ما سهّل على إسرائيل البطش بالفلسطينيين، وصولاً إلى مسؤوليتها عن الانقسام الحاصل وعن استمراره، فكل شيء بالنسبة لحماس هو من مسؤولية حركة فتح.

والحال فإن كل من حركة فتح وحماس تعتبر نفسها عصيّة على النقد، أو فوق النقد، ويمكن تفسير ذلك بسيادة نمط من العقليات المغلقة والأبوية، وغياب علاقات المكاشفة والمساءلة والمحاسبة، لأن هذه الفصائل لم تتأسس على قواعد تمثيلية وانتخابية وديموقراطية. هذا يفسّر، أيضاً، أن بعض الفتحاويين يرون أنه ينبغي تركيز النقد على “حماس” والجبهات، وبعض الحمساويين يعتقد بتركيزه على “فتح” والجبهات، والبعض من الجبهات يرى تركيزه على “فتح” و”حماس”!

اللافت إن حركتي “فتح” و”حماس”، اللتين تحولتا الى سلطة تحت الاحتلال، ومن دون تحقيق الاستقلال الناجز، لا يعملان شيئا من أجل تجاوز هذه الحالة التي بات لها 13 عاما، على رغم توافقهما على مقاربة سياسية تتمثل بالتركيز على هدف الدولة الفلسطينية، وعلى التحول نحو انتهاج المقاومة الشعبية.

وفي المحصلة فقد بات النقاش بين “فتح” و”حماس”، أي بين السلطتين في الضفة وغزة، مملا وممجوجاً ومؤسفاً، ولا يليق بنضالات الشعب الفلسطيني. ومثلاً، فإن النقاش بشأن الشرعية لم يعد ثمة معنى له، في واقع باتت فيه الهيمنة والسيادة للاحتلال، وفي واقع باتت فيه شرعية الرئيس والمجلس التشريعي منتهية منذ زمن، ما يتطلب التوافق على إجراء انتخابات جديدة، وفي واقع يجري فيه تهميش المنظمة وعدم قيامها بأي دور لإثبات مكانتها كممثل للفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم، وفي واقع ينهش فيه الانقسام في الجسم الفلسطيني ويشيع الإحباط وفقدان الأمل بين الفلسطينيين.

وعليه ربما يجدر بمنتسبي الفصائل، بخاصة “فتح” و”حماس”، بإدراك أن العملية الوطنية الفلسطينية المعقدة والمركبة تستوعب وجهات نظر ثالثة ورابعة وخامسة وسادسة، وان تقاطعت هنا أو هناك، في مرة مع هذا الطرف أو ذاك، أو لم تتقاطع البتة، ذلك أن أغلبية الفلسطينيين اليوم خارج الفصائل، وهؤلاء أيضاً لهم رأيهم بما يجري، وتلك هي أبجديات السياسة والعمل السياسي.

فوق كل ما تقدم يتناسى أرباب الفصائل بأن نقد التجربة الفلسطينية بالكلام، أفضل بكثير من نقدها بالسلاح، وبالاقتتال، وبالانشقاق، وبالانقسام، فالنقد يساهم بالتطوير ويغني العملية الوطنية، ويرشّد أشكالها النضالية، في حين أن الاقتتال والانشقاق والانقسام يدمر الحركة الوطنية ويفتتها، ويهدر طاقاتها ويبدد إنجازاتها.

وباختصار، فإن الوضع الفلسطيني أحوج إلى عقلية نقدية تغييرية، أي تجديدية وتطويرية، لأن الوضع تجاوز مجرد الإصلاح، أو الترقيع. وهذا يعني أن الأمر بات يتطلب القطع مع العقلية الفصائلية الضيقة، التي سادت في المرحلة الماضية، بعد أن تآكلت هذه الفصائل، وتآكل حضورها في المجتمع وفي ميدان الصراع ضد إسرائيل، من دون أن يشكل ذلك قطع مع الخبرة الوطنية التي تم اكتسابها، ولا مع الإنجازات التي ينبغي صونها والبناء عليها وتطويرها. ثمة فائض نقد فصائلي، هو أقرب للتهجمات، والاتهامات، لكن أحوال الفلسطينيين تتطلب تنمية التفكير السياسي النقدي، فهذا النوع من التفكير هو ما يحتاجه الفلسطينيون لبناء اجماعاتهم الوطنية، وإعادة الروح إلى كياناتهم ومشاريعهم السياسية، واستنهاض أحوال شعبهم.

  • Social Links:

Leave a Reply