ورقة بحث حول أحداث 1860 في لبنان ودمشق

ورقة بحث حول أحداث 1860 في لبنان ودمشق

الياس بولاد_الحوار المتمدن

فتنة دينية أم مؤامرة سـياسية غربيــة ؟!!

لا زال هذا السؤال يشغل بالي منذ سنوات ولقد دعوت في تقديم الكتاب الذي ترجمته إلى اللغة العربية عام 2003م بعنوان تاريخ الفنون والصناعات الدمشقية ” تأليف توفيق يوسف بولاد المختص بالتاريخ إلى دراسة هذه الحوادث بتعمق ، من الناحيتين الاقتصادية والسياسية ، لأن معظم الكتب التي تناولتها قامت بعرض الأحداث والمذابح بتفاصيلها اليومية والواقعية من الناحية الدينية فقط، حيث لم يتعرض أحد حتى الآن لأسبابها الخارجية والحقيقية، وأبعادها الدولية والاقتصادية وإن أشار بعضهم إلى وقوف قوى خارجية وراء الأطراف المتنازعة، بصورة عابرة تفتقد إلى البحث العلمي والتاريخي .

إن الظروف الدولية والمحلية التي تعيشها دول المنطقة اليوم وبالأخص العراق، لبنان، سوريا …. تدفع أكثر لإعادة السؤال الذي أشرت إليه في الفقرة السابقة راغباً في عرض وجهة نظري بقليل من التفصيل راجياً أن تكون كورقة بحث، يغنيها المتخصصون بالتاريخ والمهتمون بأحوال وتاريخ وحاضر ومستقبل هذه المنطقة، من أبنائها أولاً، ومن الباحثين الأجانب ثانياً .

أرى أن حوادث 1860م في لبنان ودمشق ، تعتبر مفصلاً تاريخياً أساسياً، ساهم في صياغة السياسة الخارجية الغربية حتى اليوم، وربما لقرون أخرى !! . فقد تكرر ظهور هذه السياسة وجرى التذرع بموجبها لتبرير العديد من التدخلات الأجنبية إلى يومنا هذا. يمكننا إيجاز الغاية والهدف والوسيلة من وراء إثارة الفتن والحروب الدينية والطائفية بثلاثة بنود .

1- القضاء بأسرع ما يمكن، وبأي ثمن على أية خطوة تقوم بها شعوب هذه المنطقة للمضي قدماً نحو تحقيق نهضة اقتصادية حضارية صناعية، مثال ذلك محاولة محمد علي في مصر واعتماده على السوريين في مشروع نهضته التي تبعتها حوادث العام 1860م في لبنان ودمشق . ففي البداية كان القضاء عليه عسكرياً، أما في المرحلة اللاحقة فقد تم ذلك من خلال مؤامرة دُفِعَ أبناء الشعب الواحد لتنفيذها إلى التقاتل فيما بينهم. وقد تم الإعداد لها بسرية تامة بحيث يظهر الجلاد فيها بمظهر المنقذ .

2- احتكار الغرب للمادة الأولية التي هي الأساس المادي لقيام النهضة الصناعية في القرن التاسع عشر، “الحرير” سابقاً و”النفط” حالياً .

3- وكانت الوسيلة دائماً هي نشر وتشجيع وتمويل الحروب الدينية والعرقية والطائفية، وقد توصل اليوم الكثير من الباحثين والسياسيين إلى هذه القناعة، عندما رأوا نتائجها أمام أعينهم، ولكن بعد خراب البصرة كما يقول المثل ! .

إن أبحاث هؤلاء لم تتعمق بعد في الأسباب الحقيقية لتلك الحروب وكان دائماً تصديهم لنتائجها ناقصاً ومتأخراً، وهذا مما جعلنا نسير من فشل إلى فشل أكبر .

نعود لسؤالنا الكبير عن حوادث 1860م في لبنان ودمشق .

– جاء في قاموس الجغرافيا القديمة والحديثة المطبوع في باريس عام 1854م تأليف (ميساس وميشلو) إصدار مكتبة هاشيت ، في الصفحة /269/ حول مدينة دمشق: « إنها المدينة الأكثر أهمية والتي تأتي في المرتبة الأولى في الصناعة في الشرق كله، فقد أعطت اسمها للمنسوجات الحريرية والتي يأتي الغرب للبحث عنها وشرائها. كما أنها تتاجر بالأسلحة الفولاذية ذات النصال القاطعة، وتتاجر أيضاً بالأصداف وأنواع متعددة من الحرير، وماء الزهر، كما تمر بها القوافل إلى حلب وبغداد وتتجمع فيها قوافل الحجاج » .

– في كتاب “تاريخ الفنون والصناعات الدمشقية” يقول المؤلف في الفصل السابع صفحة 105 بأن صيدا التي تبعد 40 كم من دمشق كانت مرفأ دمشق التجاري وأنها المدينة الرئيسة الأولى بمكانتها الاقتصادية في بلاد المشرق وأن كافة منتجات دمشق الجميلة والثمينة من الأقطان والأقمشة الحريرية والأجواخ التي ينتجها ويصنعها الدمشقيون بكميات كبيرة، تُصدَّر عن طريق مرفئها . وفي الصفحة 70 من نفس المصدر ونقلاً عن (ألفريد مارتينو) في كتابة التجارة الفرنسية في الشرق 1902 نقرأ : “بأن فرنسا كانت تستورد كامل الكمية الفائضة من الحرير عن إنتاج الورشات المحلية بدمشق” .

– في كتاب (فرانسوا بيرنو) “طرق الحرير” إصدار أرتيميس ” صفحة 185-186 نقرأ : “أُصيبت صناعة الحرير في فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر بكارثة كبيرة، فقد أصاب مرض خطير دودة الحرير فيها، وكذلك أصاب المرض نفسه دودة الحرير في الصين في وقت كانت فرنسا تستورد نصف حاجتها من الحرير الصيني. ويقول المؤلف بأن فترة الأزمة امتدت من عام 1845م حتى عام 1869م . ومما أثر على أسعار الحرير المستورد أيضاً افتتاح قناة السويس عام 1869م بحيث انتقل هذا الارتفاع في الأسعار إلى أسواق أوروبا كلها كما زاد الطلب على هذه المادة في الحرب العالمية الأولى في الأسواق الخارجية” .

نستنتج مما سبق بعض الاستنتاجات التالية:

1- فقبيل عام 1860م كانت دمشق تشكل مركزاً صناعياً كبيراً ومهماً وبالأخص في صناعة الحرير والأقمشة والمنسوجات وهذه النهضة الصناعية كانت تتطور وتواكب آخر التطورات التقنية الصناعية العالمية في ذلك الوقت، أي نظام الجاكار الميكانيكي الذي كان أول من أدخله إلى دمشق في خمسينات القرن التاسع عشر “آل بولاد” المشهورون بصناعة “حرير البولاديّة” وذلك بغية زيادة الإنتاج كماً ونوعاً . هذه النهضة الصناعية واكبها ازدهار تجاري واقتصادي كبير وتوسيع للأسواق ( تصدير الأقمشة الحريرية الدمشقية إلى القدس ومصر ودول مثل تركيا وإيران وحتى إلى أوروبا نفسها ) . وكانت مادة الحرير متوفرة وبأسعار زهيدة، وكان لقربها من المعامل والورشات أهمية اقتصادية بالغة، حيث كان ينعكس على رخص وجودة الإنتاج الدمشقي الذي اكتسب شهرة عالمية وزيادة في الطلب عليه، كما أن وجود مرفأ صيدا التجاري وقربه من دمشق أيضاً، كل هذا ساعد كثيراً على عملية الازدهار الاقتصادي لأبناء هذه المنطقة وعلى التوسع الصناعي والتجاري لدمشق .

ولابد من الإشارة هنا، وهذا ما يتم التعتيم عليه دائماً مع الأسف، إلى أن هذه الصناعة وهذه النهضة الاقتصادية كانت بمعظمها بأيدٍ مسيحية دمشقية (راجع كتاب “تاريخ الفنون والصناعات الدمشقية” وأيضاً قاموس الصناعات الشامية للشيخ ظافر القاسمي وغيرهم … )، ذلك أن نهضة العديد من الصناعات والفنون توارثتها عبر قرون العائلات المسيحية الدمشقية أباً عن جد، وكانت خبرتهم تنعكس إيجابياً على جودة ونوعية هذه المنسوجات مما جعل القاموس الفرنسي يتحدث عن دمشق كأول مدينة صناعية في الشرق بمنسوجاتها الحريرية التي كان الغرب دائم الطلب عليها. كذلك لابد من الإشارة إلى أن هذه الصناعة وخصوصاً الحريرية، كانت متمركزة في الحي المسيحي في مدينة دمشق وهو الحي الذي استهدفته حوادث 1860م بالذات .

2- في الطرف المقابل، أي في الغرب شكَّل المرض الذي أصاب دودة الحرير في فرنسا والصين أعوام الأربعينات من القرن التاسع عشر أزمة كادت أن تؤدي إلى كارثة اقتصادية حقيقية في هذا القطاع، إذا لم يتم تأمين الحرير كمادة أولية لمعاملها. ومن المعلوم أن المكان الوحيد الذي توفرت فيه هذه المادة في ذلك الوقت هو لبنان وسورية .

إن دمشق بورشاتها الكثيرة، ومعاملها التي بدأت بتطبيق نظام الجاكار الميكانيكي كانت تكفي لاستيعاب كامل الإنتاج من الحرير المستخرج في لبنان وسورية وحيث بات إنتاجها ذا نوعية ممتازة وأسعار معتدلة، مما جعله مطلوباً عالمياً، ومن الممكن مراجعة كافة كتب الرحالة الذين زاروا لبنان وسورية في القرن التاسع عشر والثامن عشر؛ منهم على سبيل المثال الشاعر “لامارتين” وغيره كثيرون ممن عبَّروا عن دهشتهم لتنوع ورخص المنسوجات الحريرية وجودتها خصوصاً في أسواق دمشق .

وباتت هذه المنطقة أي سوريا، منافسة قوية للغرب بأهم صناعة في القرن التاسع عشر، وهي صناعة المنسوجات الحريرية، وأصبحت تشكل خطراً حقيقياً على صناعتها واقتصادها، حيث أن المادة الأولية لهذه الصناعة موجودة فيها فقط في ذلك الوقت بحيث أنه إذا استمرت الأحوال على ما هي عليه، وأدركت سوريا مركزها القوي، وإذا استغلَّت جيداً الضعف والحاجة الغربية لمادة الحرير فإنها كانت ستصبح الأقوى وتسيطر حتى على الأسواق الأوروبية لسنوات طويلة، وبخاصة عندما يتم تطوير تصنيعها كماً ونوعاً .

إذا راجعنا كتب التاريخ التي تتحدث عن منطقتنا ، فإنها تؤكد دائماً على أننا متخلفون حضارياً كما تتحدث عن الصراعات الدينية والطائفية والحزبية ، وهذا ما كان يسجّله دائماً الرحّالة عند زيارتهم للشرق، ولكنهم كانوا يتحدثون في الوقت نفسه وبعد تصوير حالة التخلف، عن الصناعات الحريرية الفاخرة وعن الغنى والتنوع الصناعي، وغيرها من الصناعات الموجودة في أسواق دمشق وحلب !!! … وكذلك عن رخص هذه المنتجات .

من هذا الواقع التاريخي الخطير جاء التخطيط الغربي لحوادث 1860 في لبنان ودمشق وعلى أعلى المستويات السياسية والاقتصادية، حيث رُصدت له الميزانيات الضخمة وجرى إعداد سيناريو المذابح والأماكن المقصود تدميرها والجهات المنفذة لها ( من الغوغاء ، وضعاف النفوس والمتآمرين ) وعن طريق بث الإشاعات الدينية. ولكن المسلمين المتنوّرين وعَوا تلك المؤامرة ، وحموا إخوانهم المسيحيين ( راجع كتاب ” تاريخ الفنون والصناعات الدمشقية ” وثيقة شاهد عيان آخر الكتاب ) .

والمؤسف، أن معظم المؤرخين، غربيين وشرقيين، لم يدركوا أن الهدف من وراء تلك الحوادث كان تأمين الحصول على الحرير، واستهداف الصناعة السورية، وتقويض النهوض الحضاري لها والقضاء عليه، وفي تقديري أنه لو تم تلافي وقوع تلك الحوادث لكنا اليوم، بكل تأكيد، كما في الماضي دولة صناعية كبرى في مجال المنسوجات، وفي مجالات صناعية أخرى، وكنا دولةً لا تقل أهمية عن أية دولة أوروبية !! ولكن حدوثها جعلنا دولاً استهلاكية تعتمد على الاقتصاد الغربي الذي كنا على قدم المساواة معه حضارياً آنذاك !! .

إن هجرة وتهجير الطبقة البرجوازية الصناعية جعل من الصعب علينا أن نتمكن من تأسيس نهضة حضارية صناعية حقيقية علماً بأن الأمر قد تكرر بعد ذلك ولكن بأسلوب آخر، في فترة ما بعد الاستقلال (1945- 1958)!!!

وبالعودة إلى تلك الفترة /1840 -1870م/ فلقد ارتفعت أسعار الحرير كثيراً نتيجة الطلب الخارجي عليه، وقد تم فرض ضرائب إضافية من قبل الحكومة العثمانية مما انعكس سلباً على الصناعيين الدمشقيين وخلق بلبلة وتفاوتاً بأسعار البضائع، وقد دفع ذلك ولأسباب أخرى غير خافية على أحد، منها أن كثيراً من الفرنسيين والغربيين قد استوطنوا لبنان ودمشق وأسسوا مراكز لزراعة الحرير وصناعته وذلك لتأمين هذه المادة لمصانعهم في بلدانهم دون اللجوء إلى التجار السوريين واللبنانيين! ويذكر لنا بهذا الصدد (فرانسوا لونورمان) كشاهد عيان في كتابه« الحوادث الأخيرة في سورية 1860م » العديد من تلك المراكز التي أُنشئت في جبل لبنان ودير القمر وغيرها من المدن والقرى اللبنانية .

لقد طلبت الحملة العسكرية الفرنسية التي أتت إلى بيروت في عام 1860م من البطريرك الماروني ومن البطل يوسف بيك كرم، الذي كان يدافع عن حقوق الفلاحين الذين يزرعون دود القز لإنتاج الحرير أن تنقل بعض الفلاحين على متن بوارجها للإقامة في بلاد الجزائر حيث تؤمن لهم الأراضي الزراعية الخصبة هناك ليمارسوا زراعتها تحت حكم الفرنسـيين!!.

فجاء الرفض قاطعاً. من الواضح أن الغاية تمثلت في جعل الحرير أقرب وأرخص لهم من سواحل لبنان وجباله!! . بعد 115 سنة على هذه الحادثة تكرر الأمر وهذه المرة من الأمريكان ولنفس الغاية متمثلة بنقل المسيحيين اللبنانيين على متن البوارج الأمريكية إلى أمريكا وكندا واستراليا…

نعود لنسأل هنا: هل كان الهدف من تلك الحوادث هو الحرير فقط ؟ لا شك أن هناك أهداف أخرى . منها :

1- استهداف وضرب القاعدة والبنية الصناعية في دمشق التي كان المسيحيون الدمشقيون يحتفظون بها في أحيائهم حيث رأى الغربيون أنها المنافسة الحقيقية لصناعتهم لأنها تستخدم مادة الحرير التي يريدونها رخيصة ولمعاملهم فقط !! .

2- القضاء على أمهر الصناعيين والحرفيين وعلى ورشات عملهم ومنازلهم ، حيث كان معظمهم من المسيحيين الدمشقيين وكان التركيز في هذه الحوادث على ورشات آل بولاد التي كانت تسخدم النظام المتطور للجاكار الميكانيكي لزيادة الإنتاج كماً ونوعاً ( راجع كتاب تاريخ الفنون والصناعات الدمشقية عموماً والصفحة 173 خصوصاً ) .

3- تهجير من تبقى من المسيحيين ممن أحرقت أحيائهم وبيوتهم وورشات عملهم والذين تجمعوا في قلعة دمشق، حيث رُتِّبت القوافل لنقلهم إلى بيروت ثم مصر ، وقد كانت كل قافلة تتألف من حوالي ثلاثة آلاف شخص ( راجع نفس المصدر صفحة 267-276 ) بحيث لا يستطيعون العودة إلى مدينتهم التي عاشوا فيها آلاف السنين، لما يحملون من ذكريات أليمة، لا يعرفون من كان من ورائها، ولصعوبة البدء من جديد بأعمالهم وخوفهم من تكرار تلك الحوادث، ولذلك فإن أول منـزل شُيّد من جديد في الحي المسيحي كان بعد مرور أربع سنوات على هذه الأحداث أي في عام 1864م .

4- نتيجة تلك الحوادث تم القضاء على المنافس الحقيقي للاقتصاد الغربي كما تم الاستحواذ على المادة الأولية ( الحرير ) بكل سهولة وفُتحت الأسواق السورية على مصراعيها أمام البضائع الأجنبية. وكان لا بد أمام تدفق البضائع الأجنبية من إحداث مصارف خاصة تسهل القروض للمزارعين واستيفاء الديون ، وتحويل ثمن المنتجات الغربية إلى أصحابها في الغرب . لقد تضاعف الاستهلاك وارتبط الاقتصاد السوري على المدى البعيد بالاقتصاد الغربي وقامت بعض المصارف مثل ” بنك سيوفي وصباغ وبنك أصفر وبنك زلخا … ” بتسهيل ذلك وهكذا تحوَّل عمل بعض من تبقَّى من المسيحيين من الأعمال الصناعية إلى أعمال السمسرة والتجارة

المالية ….!! .

إن الارتباط الاقتصادي الناتج عن تلك الحوادث قد مهّد في المستقبل القريب إلى احتلال سياسي وعسكري لسورية ولبنان وغيرهما من البلدان العربية تحت عناوين مثل “الانتداب” أو “الحماية” بحجة أن هذه البلاد غير مهيئة لمواكبة التمدُّن والتقدُّم الحضاري والصناعي !!! .

– ولضرب أي أمل بعودة الترابط الاقتصادي والصناعي بين لبنان ودمشق وبلاد حوض البحر الأبيض المتوسط من بلاد عربية وأجنبية قام الانتداب الفرنسي بخلق ” لبنان الكبير ” وضم ميناءي صيدا وطرابلس لهذا البلد وقام بإيجاد حدود مُصطنعة بين البلدين لا زالت قائمة إلى اليوم .

– ولتكتمل هذه المؤامرة أُسِّست في سورية ولبنان المحافل الماسونية التابعة إلى محفل الشرق الكبير ومقره باريس بالإضافة إلى محافل إنكليزية أخرى ! وقد ضمّت هذه المحافل خيرة أبناء هذه البلاد من أصحاب المناصب السياسية العالية ومدراء المصارف والأدباء وغيرهم ! ..

– وبالعودة إلى كتاب فرانسوا لونورمان الآنف الذكر ، عن تلك الحوادث في سوريا في صفحة 28-29 يروي : كيف أنه زار القرى اللبنانية التي أتت عليها الحوادث ، حيث زار قرية حمّانا اللبنانية ولاحظ بأنها قد دُمِّرت بكاملها ما عدا مبنَيين لاستخراج خيوط الحرير ، وعندما سأل الحرس الموجود على مدخلهما : لماذا لم يلحق بهما أذى ، في حين أن جميع المباني الأخرى قد أُحرقت ، جاءه الجواب بأن ملكيتهما تعود لرجل فرنسي يدعى السيد “بيرتران” وقد جاءتنا الأوامر بأن لا نتعرض لهما !!؟؟…ومن جملة الحوادث التي ذكرها الكتاب يشير إلى تعرض كبار تجار الحرير للقتل مثل ” بشارة صوصه ” من لبنان و “آل المسابكي” من دمشق ! وقد جاء أيضاً في الصفحة 137 أن مراقبين لتلك الحوادث وممن عايشوها ومنهم السيد ” روبسون ” أن الوالي الذي كان تحت إمرته أكثر من /600/ عنصر من الجيش العثماني كان بإمكانه وقف تلك الحوادث لو أمر /50/ عنصراً فقط بإغلاق مدخل الأحياء المسيحية بدمشق لكنه لم يفعل ! وفي الصفحة 140 يقدّر صاحب الكتاب عدد الضحايا من المسيحيين ما بين عشرة آلاف إلى أحد عشر ألف قتيل ، بينما هناك إحصائيات أخرى تقدر عدد سكان دمشق في تلك الفترة قبل الحوادث بمائة ألف نسمة منهم عشرون ألف نسمة من المسيحيين . بعد أعوام لا تتعدى الأربعة من هذه الحوادث قام أحد المصورين ويدعى (بيدفور) بتصوير الحي المسيحي الذي كان لا يزال آنذاك في حالة خراب شامل ( لقد تم نشر هذه الصور في كتاب ظهر عام 2000م بعنوان مصورون في دمشق 1840-1918م لبدر الحاج في الصفحة /30-33-34/ .

– نتساءل مرة أخرى ؟! لماذا تم استهداف الحي المسيحي ” القيمرية ” ولقبها (الهند الصغرى) الذي يقع داخل السور ولم يتم استهداف الحي المسيحي في نفس المدينة في حي الميدان ؟! إننا نرى أن السبب يعود إلى أن المسيحيين في حي الميدان كانوا يتعاطون تجارة الحبوب !! أما في حي القيمرية فكان المسيحيون يتعاطون تجارة الحرير !! وكانت تُقيم فيه الطبقة البرجوازية الصناعية التجارية !! ، كما نتساءل أيضاً : إذا كانت تلك الحوادث بسبب الفتنة الدينية فلماذا لم تنتقل إلى مدنٍ أخرى كحلب وحمص وحماه … ؟؟ لم يحصل ذلك لأن الهدف كان تدمير المركز الصناعي في دمشق فقط !! …

– جاء في كتاب بلاد الشام في القرن التاسع عشر للدكتور (سهيل زكّار) وفي فصل منتخبات من مذكرات محمد أبو السعود الحسيبي الدمشقي صفحة 283 أنه قد أُعدم مباشرة بعد هذه الحوادث ” وبلا محاكمة ” ؟؟!!! أكثر من مائتي شيخ حارة أو زعيم حارة كما تم إبعاد الكثير من المشاركين في هذه الحوادث إلى تركيا وإلى مدن بعيدة لمدة سنوات .

من المُلفت للنظر أيضاً أن الرأس المنفذ للمؤامرة وهو والي دمشق العثماني : (أحمد باشا) قد أُعدم مباشرةً أيضاً ” وبلا محاكمة ” ؟؟!!! وهو الذي قيل بأن تعيينه والياً على دمشق قد جاء إثر مساعٍ لإحدى السفارات الأجنبية في استانبول ؟؟!!! لم تُجرِ له أية محاكمة في حين أن الذين قتلوا البادري توما الكبوشي عام 1840م وعددهم على الأكثر عشرة أشخاص قد أعدت لهم محاكمة دامت شهوراً وتدخلت دول غربية عديدة لإبطال تنفيذ الأحكام الصادرة بحقهم ومنها ” فرنسا وإنكلترا والنمسا …؟!! ”

لماذا لم تجرِ محاكمة عادلة وعلنية لمنفذي فتنة 1860م ؟؟؟!!!! الجواب بعد هذا العرض الذي قدمناه لا يحتاج إلى عناء التفكير والبحث !! إننا نقول بكل ثقة : لقد تم ذلك حتى يبقى السر مكتوماً حول تلك المؤامرة الدولية الكبرى ويبقى التعتيم عليها إلى اليوم وربما لقرون أخرى !؟ …

إلياس بولاد

دمشـق

  • Social Links:

Leave a Reply