بيروت الثائرة، بيروت المدماة.. رحلة شخصية في دفتر أحوالها

بيروت الثائرة، بيروت المدماة.. رحلة شخصية في دفتر أحوالها

علي سفر – المدن :

فرض عليّ عملي وقتاً طويلاً في الصحافة المرئية الرسمية في التلفزيون السوري بين عامي 1995 و2011 أن أعاني من انفصام حقيقي في علاقتي مع تفاصيل حياتية وثقافية كثيرة وأمكنة متعددة، ومن بينها كانت بيروت في الصدارة!

 

هنا، المدينة بوصفها حياة بذاتها، وعوالم متعددة متراكمة فوق بعضها، ليست مجرد موضوع للعمل الاعتيادي، فأنا لم أكن أنتج أو أصور أفلاماً سياحية عنها، بل كنت أقوم بإخراج تقارير صحافية إخبارية ومناسباتية، تتركز في غالبيتها على إظهار مدى ولاء جزء كبير من السياسيين اللبنانيين للقيادة السورية وسياستها في لبنان الذي تحتله قواتها العسكرية ومخابراتها!

 

ضمن هذا السياق سأتعرف على جزء من هؤلاء الذين احتلوا تاريخ بيروت، وسأرى سفاهات الأقرب للنظام والأشد ولاء له، وهم يلبسون قناع الشخصيات المتبجحة، المزدهية بتغولها على السياسيين الآخرين، وعلى حيوات اللبنانيين من عامة الناس، وسأحاول إخفاء خجلي من سياسيين، وجدتهم مرغمين على ممالأة الأسديين من الطبقة السياسية الحاكمة، بعد أن صار لبنان مزرعة لهم يعيثون فيها، بحجة المقاومة والممانعة وغير ذلك من شعارات السيطرة!

 

 

وفي المقلب الآخر، كنت أرى المدينة بشخصيتها الثانية، أتجول فيها، وأتحسس رطوبة زوايا شوارعها، وصخب ليلها، و”رواق” التأمل في كورنيشها، دون أن تبلغ بي الجرأة القدرة على زيارة أي من الجرائد التي نشرت فيها بعضاً من المقالات والنصوص الشعرية!

 

“لن أكون سورياً آخر يذهب إلى بيروت”! هكذا سأجيب على سؤال رئيس القسم الثقافي لإحدى الجرائد، حينما سألني ضمن لقاء جرى بيننا في سوريا عن سبب عدم رؤيته لي في بيروت.

 

وعملياً لم ينتهِ الانفصام في علاقتي مع بيروت إلا بعد خروج جيش الأسد منها في عام 2005، حيث ستقودنا دعوات الأصدقاء أنا وزوجتي المبتلاة مثلي بمهنة الصحافة إلى زيارة المدينة مرات عديدة، وستبدأ معها علاقة مختلفة، بعيدة عن السياسيين وعن المثقفين في آن معاً، قوامها ومركزها هم الناس، البيارتة.

 

وعلى قدر ما تمكنا من التسرب إلى قاع المدينة عبر الهامشيين من لبنانيين وسوريين، كانت صورة المدينة المثالية المتخمة بانتفاخ ذاتي وتضخم هوائي تغذيه أقلام الكتاب الذين يتحدثون عن مدينة متخيلة أكثر من حديثهم عن واقعها، وتغذيه أيضاً البرامج التلفزيونية التي كانت تتوجه بشكل خاص إلى مشاهد خليجي، فتغير في ملامح الوجه المتجعد بفعل الأذى والإهمال، وتحيله وجهاً شاباً، لا تشوبه شائبة، حتى كاد التكلف والمبالغة في التزويق يجعلاننا نرى المسألة أبعد من مجرد صناعة للبرامج الترفيهية، بل عملاً ممنهجاً لتسليع تاريخ المدينة ومناخاتها، وتحويل صباياها وشبابها إلى دمى مصنعة تسرح في فيديو كليب أبدي!

 

جمعية (بيروت دي سي beirutdc) المختصة بالأفلام الوثائقية ستطرح في وقت ما في النصف الثاني من العقد الأول في الألفية الجديدة مشروعاً خاصاً بقاع المدن، وسأحاول المشاركة فيه من خلال الحصول على تمويل لفيلم يربط بين قاعي مدينتي دمشق وبيروت، ولكن مشروعي لن يلقى القبول من القائمين على الجمعية، وسينتهي به المطاف حبيس الأدراج.

 

وفي المقابل سأبدأ بالتحضير لمشروع مرئي خاص بالأرصفة وتحولاتها في فضاء المدينة السورية، من ممر للمشاة إلى سوق تجاري تبيعه البلديات في سياق فساد إداراتها إلى تجار يقومون بمصادرته كلياً ما يؤدي في المحصلة إلى أن يجد المشاة أنفسهم مضطرين للعبور بين السيارات كي يصلوا إلى غاياتهم!

 

“هامش” و”رصيف” ويا للمصادفة كانا ذات يوم عنوانين لمجلتين أدبيتين صدرتا في دمشق وفي بيروت، واختيارهما إنما جاء من اتساعهما لمضامين تكرس فضاءً حراً خارج سيطرة الرسمي والمكرس الذي يريد أن يحتكر كل شيء في مستودعاته وحظائره، وأن يمارس سياسة مصادرة كل التفاصيل لصالح بقائه! وبشكل رئيس مصادرة الحياة المدنية لصالح الغايات التسويقية والسياسية!

 

سياق هذه الفكرة سيفسر ما جرى في دمشق وبيروت سوية في فترات متقاربة، فبدلاً من أن يكون السوريون واللبنانيون شعباً واحداً في بلدين كما كان الإعلام السوري يروج طيلة عقدي الثمانينات والتسعينيات في برنامج حمل عنوان “سوا ربينا”، سيتحول الشعبان وبتغذية من القادة والحكام إلى عدوين في الإعلام، وفقيرين ومنتهكين ومسلوبي الإرادة في الحياة الواقعية!

 

وهكذا، لن يطول الوقت حتى تندلع الثورات في غير بلدٍ عربي، وستجد دمشق الناس البسطاء والمثقفين والطلبة نفسها في أتون ثورة سيحولها الأسد وعسكره ومخابراته وميليشياته إلى مذبحة، وسيراقب البيارتة المشهد الشامي، وسيفرزون أنفسهم بين مؤيد للثورات وبين متوجس منها، وسيحسم الجميع مواقفهم بعد 2013، حينما صار تدخل حزب الله العسكري في سوريا، علنياً، وستنتهي قصة النأي بالنفس التي طنطن لها المشهد الرسمي اللبناني طويلاً، قبل أن يبلع لسانه عن أفعال الميليشيات الصفراء وهي تتورط شيئاً فشيئاً ببحر الدماء السورية!

 

في تاريخ بيروت المكرس شامياً أن كل سوري يواجه حكومته، ويصبح طريدها، سيجد في بيروت صدراً حنوناً يغمره بالحماية!

 

وهكذا، ككثيرين غيري، قلت في بداية الثورة إنني إن وصلت إلى حد المجابهة مع مخابرات الأسد، سأفرّ إلى بيروت، وسأبقى فيها! ولكن تورط حزب الله سورياً، حمل معه على المستوى الداخلي اللبناني، سياسة رسمية رعناء، كانت تبحث عن مشاجب لتعلق عليها مشاكلها، فوجدت باللاجئين ما يناسبها! ومع الوقت تم تكريس هؤلاء عنواناً لأزمات لبنان كلها! وضمن مناخات مجابهة هذا التيار العنصري ضد السوريين والفلسطينيين وكافة الفئات المستضعفة في المجتمع اللبناني ذاته، سينكشف المشهد عن تيار ثقافي وشبابي لبناني رفض أن يتحول بلده إلى عنوانٍ للكراهية والشر، وصار هؤلاء بحضورهم وأسمائهم البهية عنواناً بديلاً للبنان!

 

كان المُهرّب قد وضع لي برنامجاً زمنياً كي يقلني عبر القلمون إلى بيروت، ولكن الخطة باءت بالفشل بعد أن أغلقت طرق التهريب، فكان عليّ أن أبدل الخطة باتجاه عمان، في طريق خطرة وصعبة، ولكن مع ضمان أن تستقبل بيروت عائلتي الصغيرة لعدة أيام قبل أن يلتئم شملنا مرة أخرى في العاصمة الأردنية. ولتبدأ بعدها رحلتنا في المنافي القريبة والبعيدة!

 

بيروت بقيت ورغم كل ما جرى فيها وفي لبنان عموماً من ممارسات سيئة ضد السوريين، بقيت صدراً حنوناً، إذ سرعان ما سيقرر أفراد العائلة الكبيرة أن يكون لقاؤهم العائلي السنوي فيها، ولكنني سأبقى بعيداً عنها، بعد أن أبلغني أحد الأصدقاء باحتمال أن يقوم أمن المطار باعتقالي وتسليمي للنظام السوري، طالما أن ثمة إشعاراً بإلقاء القبض علي صادراً من دمشق!

 

في المنفى سيصنع المنفيون ثورات مصغرة تحاكي أحلامهم في مدنهم الضائعة، فتخفق أرواحهم في فراديسهم المفقودة! فيذهب معناً شباب بيروت الثائر إلى وقفات واعتصامات رفضاً للتهجير القسري في المدن السورية وأريافها، حمص وحلب والغوطة ودرعا! وسأذهب معهم في وقفات تساند الحراك في بيروت، ففي نهاية آب 2015 وقفنا عشرات من لبنانيين وسوريين في ساحة غلطة سراي في إسطنبول، لنهتف “طلعت ريحتكم”! وبعد أيام سيصدمنا عباقرة إعلام التيار العوني باتهام صريح لياسين الحاج صالح ولي، فحواه أننا كنا في بيروت نحرض الشباب على الثورة!

 

ليتني كنت في بيروت أحرّض على الثورة فعلياً، وليتني كنت مع الرفاق الذين عادوا لبيروت وشاركوا في صناعة ثورتها خريف 2019، لأصرخ بـ”الهيلا هيلا هو”، ولأحاول ألا أغطي عيوني أمام الغاز المسيل للدموع، ليس رغبة في تعذيب الجسد والذات بل إمعاناً بحب المدينة الأقرب، وكم تكون بيروت جميلة حينما تكون ثائرة!

 

يُدركُ من صنع انفجار ميناء بيروت أو تسبب فيه، أن لا شيء يستطيع كتم أنفاسها سوى تدميرها، وتحويلها إلى مدينة منكوبة، بمئات القتلى وآلاف الجرحى، وبامتدادات غير منتهية للأزمات!

 

ويعرفُ مثقفو المدينة وثوارها أن ما يعيد لها بهاءها هو استعادة حريتها من سلطات الأمر الواقع. وبالتأكيد لا ينسى هؤلاء ومعهم تيار عريضٌ من المثقفين العرب، أن عاصمة التنوير قد حُوصرت زمناً طويلاً بالعتمة والسواد! وأن عودتها تعني الكثير لكل الإقليم، ولهذا ستكون معركتها طويلة، وتستحق أن يبذل المرء في سبيلها الكثير!

  • Social Links:

Leave a Reply