الأسد من الإزاحة إلى التعويم

الأسد من الإزاحة إلى التعويم

محمود الوهب_العربي الجديد

بغض النظر عن السياسة الخارجية للإتحاد السوفييتي السابق، وعلاقتها بالبلدان النامية وربطها أو عدمه بالإيديولوجيا، وعما آل إليه الإتحاد السوفييتي .. تبدو السياسة الروسية وريثة تلك الحمولة، وكأنها تسعى إلى التعويض عما افتقدته خلال تلك السنين الطويلة، أو عما أفقدتها إياه الإيديولوجيا، إذ تظهر روسيا اليوم أشد توحشّاً مما فعله الغرب وأميركا خلال الحرب الباردة أو قبلها. وبعد حربين عالميتين، أفقدتا البشرية قرابة مائة مليون من البشر .. فروسيا التي فعلت ما فعلته، خلال السنوات الخمس الماضية في سورية، تبدو في سياستها أشد وحشيةً من كل الذين تعاطوا مع الشأن السوري، وهي في السياسة أكثر خشونةً من سواها، هذا ما كشفته زيارة الوفد الروسي إلى دمشق قبل أيام. ومن هذه الزاوية بالذات، يمكن فهم زيارات الوفود الروسية التي تتوالى إلى دمشق، فقد وجد الروس ضالتهم في ابتزاز بشار الأسد، ما دام كرسيه فوق كل اعتبار، وما دامت مصالحهم تقتضي ذلك.. ولهذا، تحاول أن تمكّن لنفسها عبر هذا المشروع الاقتصادي أو ذاك، وكذلك عبر توسعها العسكري، وترى أنها أحقّ من غيرها، طالما نجحت في منع إسقاط بشار الأسد.

في نهاية شهر مايو/ أيار الماضي، عين الرئيس الروسي، بوتين، ألكسندر يفيموف مبعوثًا خاصًا له، وصفته تقارير بأنه المندوب السامي الروسي على سورية، ولم تعترض، آنذاك، الحكومة السورية. وقبل أيام، زار وفد روسي رفيع المستوى برئاسة نائب رئيس مجلس الوزراء، يوري بوريسوف، يرافقه مواطنه وزير الخارجية، لافروف، وكان النائب نفسه قد زار سورية قبل عامين، ومعه حزمة المشاريع التي عاد بها بعد أن أضاف إليها مشاريع جديدة، تمنح دولته مكاسب جديدة، وتوسع لها في البقاء والاستثمار والاستمرار.

ولعلَّ أهم ما طرحه الوفد هو تعويم بشار الأسد! إذ قال وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، في المباحثات، إن استحقاق الانتخابات الرئاسية السورية قائمة عام 2021 في موعدها، وبغض النظر عن مسار أعمال اللجنة الدستورية، وقد ردَّ نظيره سيرغي لافروف: “هذا قرار سيادي سوري”، ما يعني أن بشار الأسد مستمر، وخصوصاً إذا عرفنا أنَّ دستور 2012 يشترط على المرشّح إلى رئاسة الجمهورية أن تكون إقامته في سورية قبيل الترشح مباشرة عشر سنوات متتالية، إضافة إلى تزكية 30 عضواً من أعضاء مجلس الشعب الحالي، البالغ 250 عضواً، بينهم 166 بعثياً و17 جبهوياً (كان عددهم 32 عضواً).

ما الذي تطلبه روسيا مقابل هذه التقدمة التي هي غاية ما يطمح إليها النظام؟ يجيب بوريسوف: “سلمنا الجانب السوري مشروعًا روسيًا للاتفاقية الاقتصادية الجديدة، لتوسيع التعاون الاقتصادي والتجاري، وهو حاليًا قيد الدراسة عند السوريين”. وأعرب عن أمله بتوقيع الاتفاقية، خلال زيارته المقبلة إلى دمشق في ديسمبر/ كانون الأول المقبل. أهم ما يطمح إليه الروس حيازة مشاريع الطاقة بكاملها. وفي هذا الصدد، نذكِّر بتصريح سابق لنائب رئيس الوزراء الروسي، ديمتري روغوزين، عام 2017، يعلن فيه أن روسيا هي الدولة الوحيدة التي سوف تعمل في قطاع الطاقة السورية وإعادة بناء منشآتها.

ويقترح الروس على الأسد تقديم تنازلاتٍ تسهيلاً للحل السياسي (تفاهمات غير عسكرية في شمال سورية وشرقها، بحسب الصحافية الروسية ماريانا بيلينكايا المتخصصة في سورية والمنطقة)، ومن ذلك إجراء مصالحة مع تركيا “يغدو معها بشار الأسد لاعباً أساسياً أو شريكا في استثمار الغاز الموجود بكميات هائلة في المياه الإقليمية لسورية شرق المتوسط. وبالتالي، ووفق تصريح روغوزين، سوف يكون الروس أنفسهم اللاعبين الرئيسين عن الجانب السوري، وربما عن غيره في هذا الزحام الدولي الشديد.

كما يقترح الروس، وفي ضوء ما وقّعه أمين حزب الإرادة الشعبية، قدري جميل، مع رئيسة الهيئة التنفيذية لـ”مجلس سوريا الديمقراطية”، إلهام أحمد، قبل فترة قريبة في موسكو، وبرعاية الخارجية الروسية، إجراء حوارات بين النظام وهذا المجلس حول نمط ما من الحكم يعطي حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) بعضاً من حقوق (فيدرالية، حكم ذاتي) أو لإقليم شرق سورية. وفي هذا، يدخل الروس أنفسهم مدخلاً عويصاً، إذ يزاحمون الأميركان الذين كانوا قد رتبوا منطقة الجزيرة على مهل.

تأتي توجهات الروس هذه، والوضع السوري منهار كلياً، سواء على مستوى الاقتصاد أم على المستوى المعيشي المتردّي للأغلبية الساحقة من المواطنين السوريين، إذ بلغت نسبة الفقر بينهم 90%، فالشعب السوري اليوم يتقلب على صفيح ساخن .. تارة على نار الأسعار، وأخرى على تفشّي فيروس كورونا الذي أخذ يحصد الناس بالجملة، والأطباء منهم خصوصا، وتارة ثالثة على وجع حرائق الغابات لغاية سرقة الأراضي ورابعة وخامسة .. إلخ. ذلك كله والفساد وحش منفلت من عقاله في مفاصل الدولة كلها، وخارجها أيضاً. كما أن الشرخ الذي حدث في “العائلة المالكة” لم يلتئم تماماً، بل يصعب أن يلتئم. وخصوصاً إذا أضفنا إليه تململ الشعب في الداخل، وضعف الصوت المؤيد للنظام، إذ انشغل الناس بهمومهم المشار إليها، وبقهر محاصرتهم بالقوى المتدخلة شمالاً وشرقاً. جنوباً وغرباً ووسطاً. ما يفيد بأن ما فعله الروس، في النهاية، لم يكن إلا المحافظة على النظام، وتمزيق سورية..

وها هم أولاء، وبعد أن ارتكبوا الفظائع كلها ضد الشعب السوري، فيما أسموها حرباً على “الإرهاب”، يسعون اليوم إلى الاستثمار بما فعلوه، وعلى نحو أفظع، فلا حديث لديهم عن ملايين المهجّرين، إلا من إشارة (بحسب الصحافية الروسية) إلى “تشكيل لجنة خاصة بالنازحين واللاجئين السوريين داخل وخارج سورية، يتم العمل عليها بين الحكومتين الروسية والسورية” (تثير هذه اللجنة إشارات استفهام كثيرة، إذ تذكّر بمصطلح “التجانس” وبتوطين عناصر المليشيات الأجانب)، بينما لا كلمة عن عشرات ألوف المعتقلين والمغيبين. همّ الروس تثبيت ما هو واقع على الأرض السورية بالسياسة الخاطئة التي اتبعوها، وتجاهلهم قرار مجلس الأمن 2254 الذي أنجزه المجتمع الدولي تلبية لحاجة سورية، وشعبها، إذ ينطلق من الاحتجاجات الشعبية العارمة في العام 2011.

يتجاهل الروس ذلك كله، فلا يفكّرون بغير مصالحهم، ويعلمون جيداً أن هذه الحلول لا تقوم على أسسٍ واقعية، بل تنطلق من وصايتهم على الشعب السوري، فمؤدّاها إلى انتزاع استقلال سورية، ووضعها تحت وصايات دولية تحت إشرافهم. ولكن ما يسير به الروس إنما يعبر عن مأزقهم الذي بدأوه منذ خمس سنوات، وأراد لهم الأميركان الغرق فيه.

  • Social Links:

Leave a Reply