الوضع المعاشي في مناطق سيطرة النظام وتأثيره على مواقف المواطنين

الوضع المعاشي في مناطق سيطرة النظام وتأثيره على مواقف المواطنين

 مركز حرمون

يعاني السوريون اليوم معاناة شديدة من أوضاعهم المعيشية، وتتعالى أصواتهم بالشكوى من الغلاء وصعوبات الحياة ومشقاتها. وينتظرون “الفَرَج”، ويأملون الخلاص من الأوضاع الحالية الشاذة، وعودة الأمور إلى طبيعتها. لكن تلك المعاناة لا تنعكس تلقائيًا، وبشكل مباشر، على مواقفهم السياسية. فالموالون يُحمّلون الإرهابيين والمخربين والمؤامرة سبب معاناتهم وينتظرون انتصار النظام للخلاص. وعلى العكس يحمل المعارضون النظام كل ما يحصل ويأملون رحيله. والمحايدون يتحدثون عن “الأزمة” التي تمر بها البلد ويتساءلون: متى تنتهي؟ وليس من المتوقع في الأفق المنظور أي حراك سياسي بسبب الأوضاع المعيشية، كما لا يُتوقع حدوث احتجاجات عفوية بسبب ظروف حياتهم الأخرى الصعبة جدًا، ما لم يحدث ما ليس في الحسبان.

إن نظرة سريعة إلى بعض الأسعار تشير إلى مدى درجة صعوبات المعيشة. فأسعار المواد الغذائية أصبحت لا تطاق، وتغيرت موائد الناس كمًا ونوعًا. وأسعار الحاجات والسلع الأخرى، من دواء ومسكن وملبس وأجور نقل واتصالات وتدفئة وماء وكهرباء، ليست أحسن حالًا إن لم تكن أسوأ.

أولًا: تقدير أوضاع المعيشة ومدى تأثيرها على مواقف المواطنين

انخفضت أسعار الخضار والفواكه في فصل الصيف، ولم تعد خيالية كما كانت عليه في فصل الشتاء. لكنها لا تزال ترهق كاهل الناس قياسًا بدخولهم. فقد سجل سعر الكيلو غرام الواحد من الخضروات: الباذنجان 200 ل.س، البازلاء 150، البطاطا 160 إلى 200، البندورة 100 إلى 175، الجزر 175، الخيار 170، الفاصولياء الخضراء 350، الفليفلة 100 إلى 400، الكوسا 70، والبصل اليابس 135، ثوم بلدي 650. الزهرة 160، الفول الأخضر 200، الليمون 700. والفواكه: البرتقال 60 ل.س (تضرر المزارعون، السعر يكاد يغطي تكلفة الإنتاج. إنتاج كبير، ولا يوجد تصدير والسوق الداخلية ضاقت جدًا)، التفاح 250، الموز 350، الكرز 350، جانرك 200، فريز300، دراق 200، المشمش 600.

أسعار لحوم الدجاج: كيلو الفروج المذبوح 1400 ل.س، جوانح 1500، سودة دجاج 1550، شرحات دجاج 2800، دبوس 1900، كستا 1950. وأسعار اللحوم الحمراء: كيلو لحم العجل الهبرة 4000 ل.س، وكيلو لحم الغنم الهبرة 6000، أما كيلو الغنم متضمن العظام 4000. وأسعار الألبان والأجبان: كيلو الحليب 200 ليرة، وكيلو اللبن 200 وكيلو اللبنة 600، جبنة بلدية 850 ليرة، والجبنة الشلل 1500 ليرة، والجبنة القشقوان 2100 ليرة، والجبنة عكاوي 800، وصحن البيض 1200.

وسجل سعر كيلو الشاي الفرط “2500” ليرة، والقهوة “2500” والسكر “400”.  وتراوح سعر كيلو الأرز بين 550 و650 بحسب الماركة التجارية والمصدر، وكيلو الشعيرية بـ 500 ليرة، وسعر شعيرية الاندومي بـ 100 ليرة للظرف الواحد، أما بازيلاء معلبات فبلغ سعر العلبة الواحدة 335 ليرة سورية، وكيلو المسبحة 650 ليرة سورية. أما كيلو الفاصولياء البيضاء فسجّل سعر 460 ليرة، والعدس الأبيض 380 ليرة، والعدس المجروش 660 ليرة، وبرغل ناعم 250 ليرة، وفريكة 650 ليرة. والتمر هندي 850 ليرة، والسميد 250 ليرة، وسمنة أصيل 1 كغ 1750 ليرة، وسمنة ممتاز 2 كغ 2500 ليرة، وحلاوة البرج بالفستق فرط 1200 ليرة، وطحينة البرج 1450 ليرة، وزيت فلورينا 4 لتر 3150 ليرة، ليتر زيت عباد الشمس 700 ليرة. وجبنة السهول 400غ 550 ليرة، ومرتديلا هنا دجاج 850 غ 1000 ليرة.

جدول رقم (1) مقارنة أسعار بعض المواد بين عام 2010 وعام 2016

المادة      سعر عام 2010 ل.س/1 كغ   سعر صيف 2016 ل.س/ كغ نسبة التغير %

فروج مذبوح         125      1400    1120%

لحم عجل 500      4000    800%

لحم غنم   700      6000    857%

بيض (30 بيضة)   180      1200    666%

حليب      25        200      800%

جبن بلدي 120      850      708%

خبز       9          50        555%

أرز        50        650      1300%

بطاطا     20        160 ـ 200         800% ـ 1000%

بن برازيلي           500      2500    500%

علبة دخان حمراء   30        125      416%

علبة طون            85        400      470%

زيت عبوة ليتر      70        700      1000%

سمنة 2كغ            250      2500    1000%

اسطوانة الغاز        250      2500    1000%

ليتر مازوت تدفئة   16        180      1125%

المصدر: جولات ميدانية في الأسواق، وقرارات وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك الصادرة في 16 حزيران/ يونيو 2016 (ثلاثة قرارات قضت برفع أسعار المازوت والبنزين والغاز).

بعد أشهر قليلة من اندلاع التظاهرات بدأ النظام سلسلة عمليات زيادة الرواتب والأجور. ففي مايو/ أيار صدر المرسوم التشريعي رقم 40 لعام 2011 القاضي بزيادة الرواتب والأجور الشهرية المقطوعة بمبلغ 1500 ليرة، يضاف إليها زيادة بنسبة 30 في المئة من الرواتب دون 10000 ليرة وزيادة بنسبة 20 في المئة من الرواتب البالغ 10000 ليرة فما فوق. وفي حزيران/ يونيو 2013 صدر المرسوم التشريعي رقم 38 القاضي بإضافة إلى الرواتب والأجور الشهرية المقطوعة، نسبة 40 في المئة على 10000 ليرة الأولى من الراتب، ونسبة 20 في المئة على 10000 ليرة الثانية، ونسبة 10 في المئة على 10000 ليرة الثالثة، ونسبة 5 في المئة على ما يزيد عن 10000 ليرة الثالثة. وفي مطلع عام 2015 منح المرسوم التشريعي رقم 7 العاملين تعويضًا معيشيًا قدره 4000 ليرة. وفي الشهر التاسع من العام نفسه صدر المرسوم التشريعي رقم 41 القاضي بإضافة إلى الرواتب مبلغ 2500 ليرة. وفي الشهر السادس من العام 2016 صدر المرسوم التشريعي رقم 13 القاضي بإضافة مبلغ 7500 ليرة. لكن تلك الزيادات الاسمية على الأجور والرواتب ليست زيادات حقيقية. بسبب انخفاض القيمة الشرائية لليرة السورية نتيجة الغلاء وارتفاع الأسعار بنسب تزيد أضعافًا مضاعفة على نسب زيادة الرواتب.

مؤخرًا قدم بحث أجراه مركز “فيريل” للدراساتـ برلين، ألمانيا. Firil Center for Studies – Berlin, Germany www.firil.net في سورية خلال شهر أيار/ مايو 2016 حول حاجات الأسرة الفقيرة، وقمنا بتعديل بعض أرقامه بسبب اعتباره سعر الدولار 600 ليرة سورية كما كان في شهر أيار/ مايو وقت قيامه بالبحث إلى سعر 500 ليرة كما هو في شهر آب/ أغسطس 2016.

يعتمد المركز خط الفقر ما دون 1000 ليرة يوميًا كنصيب للفرد الواحد، أي ما يعادل 2 دولار. وبالتالي كل فرد مدخوله الشهري أقل من 60 دولارًا أي 30000 ليرة سورية هو دون خط الفقر العالمي، وقد اتخذ المركز في دراسته العائلة السورية المكونة من 5 أفراد فقط، حيث يبلغ متوسط راتب موظف معيل لأسرة مكونة من 5 أشخاص 24000 ليرة سورية عام 2016، وهو لا يكفي لفرد واحد من عائلته، وبالتالي تكون حاجة الأسرة بكاملها 150000 ليرة سورية، أي أنّ الأسرة السورية المكونة من خمسة أفراد ودخلها الشهري هو 150000 ليرة سورية، تكون عند خط الفقر العالمي. لذلك فإنّ أخطر الأعوام اقتصاديًا على المواطن السوري هو عام 2016، بسبب الارتفاع الهائل في تكلفة المعيشة للفرد، من تأمين الغذاء والسكن واللباس ومصادر التدفئة وتكاليف المواصلات وفواتير الكهرباء والماء، فهل يكفي هذا الرقم لشخص مثله؟ والسؤال الأهم: كيف يمكن تأمين مبلغ 30000 ليرة سورية شهريًا للفرد الواحد؟ ويقدر المركز ارتفاع تكاليف المعيشة بشكل عام في سورية بين عامي 2010 و2016 ما قدرهُ 1155 في المئة.

وكما نوهنا آنفًا، فإن الأسعار الأخرى ليست أقل سوءًا، إن لم تكن أسوأ. فإذا كان الصيف رحيمًا نسبيًا فالحكومة ليست كذلك. فبعد أن رفعت سابقًا أسعار الكهرباء والماء والهاتف، أصدرت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك ثلاثة قرارات تقضي برفع سعر ليتر البنزين 65 ليرة وليتر المازوت 45 ليرة واسطوانة الغاز المنزلي 700 ليرة. أي أصبح سعر ليتر البنزين 225 وليتر المازوت 180 ليرة وسعر اسطوانة الغاز المنزلي 2500. وبهذا تكون أسعار المشتقات النفطية قد ارتفعت بشكل كبير منذ عام 2010 لتصل في مادتي المازوت والغاز الى نحو عشرة أضعاف.

كما ارتفعت أسعار الدواء بنسبة 50 في المئة، ثم تم خفضها بنسبة 5 في المئة. وبرر النظام سياسته هذه بالسعي لضمان استمرارية عمل المنشآت المنتجة للدواء المحلي. وحاليًا تطالب الشركات الدوائية برفع الأسعار مع ارتفاع أسعار موادها المستوردة. لكن نقابة الصيادلة تعارض ذلك بسبب مخاوفها من انخفاض أرباحها نتيجة انخفاض مبيعاتها. ويشكو الأطباء والمرضى من انخفاض نسبة المادة الفعالة في الأدوية المحلية بسبب عدم تناسب الأسعار مع التكاليف. والأدوية المستوردة غالية، لا يستطيع معظم المرضى شراءها.

كما رفعت شركتا الهاتف المحمول تعرفة الاتصالات ابتداء من أول حزيران/ يونيو، فقد حددت سعر دقيقة الاتصال من الخط اللاحق الدفع إلى خلوي بـ 11 ليرة سورية بدلًا من 6.5 ليرات، وسعر الدقيقة من الخط مسبق الدفع إلى خلوي بـ 13 ليرة بدلًا من 9 ليرات، وخدمة بيانات الجيل الثالث لخطوط مسبقة ولاحقة الدفع بـ 11 ليرة لكل ميغابايت بدلًا من 6 ليرات. كذلك رفع سعر الدقيقة من خلوي لاحق الدفع إلى ارضي لتصبح بـ 14 ليرة، ومن مسبق الدفع إلى أرضي بـ 16 ليرة.

وماذا عن ظاهرة ارتفاع إيجارات الشقق السكنية. فعلى سبيل المثال إيجار الشقة المفروشة في المناطق “الراقية” مثل أبو رمانة – القصور – التجارة – المهاجرين – القصاع – الخطيب – المالكي- المزة –  الشعلان – مشروع دمر – تصل ما بين 50 الى 100 ألف ليرة سورية، بحسب موقع المنزل ومواصفاته. كما تُراوح إيجارات الشقق في الأحياء الشعبية مثل دويلعة – جرمانا – صحنايا – مزة 86 – من 20 الى 30 ألف ليرة سورية، فضلًا عن المنازل غير صالحة للسكن وبأسعار مرتفعة لا تتناسب مع دخل الفرد.

وتشهد المدن المستقرة في باقي المحافظات مثل طرطوس والسويداء واللاذقية وبعض أحياء حمص ازدحام المهجّرين من مناطقهم إليها. فعلى سبيل المثال تبلغ قيمة إيجار الشقق السكنية في أحياء حمص والسويداء من 15 ألفًا وما فوق، وفي مناطق ريف حمص مثل مشتى الحلو والكفرون وغيرها تُراوح الأسعار بين 25 و35 ألف ليرة. وفي اللاذقية تبدأ قيمة إيجار منزل سكني من 40 ألفًا وتصل إلى 70 ألفًا بحسب تجهيز المنزل وموقعه، فيما تُراوح أسعار الإيجار في الضواحي القريبة من المدينة بين 20 ألفًا و30 ألف ليرة.

وفي طرطوس بعد أن كان أعلى سعر إيجار 10 آلاف ليرة قبل عام 2010، أصبحت قيمة إيجار بعض الشقق بين 50 ألفًا و75 ألفًا بحسب موقع المنزل ومواصفاته وإن كان مفروشًا أم لا، وتستقر في أغلب الضواحي عند 25 ألف ليرة، خاصة بعد أن شهدت إقبالًا واسعًا قياسًا ببقية المدن. تقدر معدلات تكاليف الإيجار في السنتين الأخيرتين بنحو 4 أضعاف ما كانت عليه خلال السنوات العشرين الماضية.

ارتفعت تكاليف المواصلات 700 في المئة لباصات النقل الداخلي الحكومية و500 في المئة للميكرو باصات الخاصة، أما شركات النقل الخاصة فقد ارتفعت بمقدار 400 في المئة، وصلت نسبة ارتفاع أجور سيارات الأجرة /التاكسي/ ضمن المدينة إلى 660 في المئة.

هذه الأسعار، وغيرها، مرشحة للارتفاع. ففي الشتاء سترتفع أسعار الخضار والفواكه بنسب عالية بسبب ندرتها وارتفاع تكاليف إنتاج بعضها في البيوت البلاستيكية، وتكاليف تخزين بعضها الآخر. وبقية السلع الأخرى مرشحة للزيادة بفعل الاحتمالات المُرجَحة لارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة السورية. والمشكلة أن أسعار السلع ترتفع بارتفاع الدولار، لكنها لا تنخفض بانخفاضه، وإن انخفضت فبنسبة أقل.

ثانيًا: خدمات الكهرباء والماء والتعليم والصحة والنقل

الكهرباء

تتفاوت ساعات تقنين الكهرباء من وقت إلى آخر. فحين يُضرب أحد خطوط إمداد الوقود للمحطات الكهربائية. تزداد ساعات التقنين، وقد يطول الأمر ساعات طويلة حتى يتم وصل الخط المقطوع. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأعطال الفنية. كما تختلف ساعات التقنين بين منطقة وأخرى. وفي المتوسط ينقطع التيار ثلاث ساعات ويوصل ثلاثًا أخرى. وأحيانًا ينقطع التيار أربع ساعات ويوصل ساعتين. وفي بعض المناطق القريبة من خطوط الاشتباكات يوصل التيار ساعة واحدة وينقطع نحو 4-5 ساعات “مدينة السلميّة كمثال”. كما يتأثر وضع الكهرباء في أوقات الذروة بحسب فصول السنة أو ساعات الليل والنهار. فمثلًا في ليالي الشتاء ينقطع التيار مرات عديدة في أثناء الساعات التي من المفترض أن التيار موصول خلالها. وأحيانًا تضطر ربات البيوت إلى السهر في النصف الثاني من الليل لمتابعة الغسالة. كما يحدث أن تفسد المواد الغذائية المحفوظة في الثلاجات.

انتشرت طرق جديدة للإنارة الليلية بشكل واسع. أفضل وأرخص من الشمع والشواحن المتنقلة، تُستخدم بطاريات صغيرة جافة، تنير حبلًا من حبيبات صغيرة، تعرف بالليدات، يتم التحكم بطول الحبل بحسب مساحة الغرف، وإنارتها جيدة ونظيفة وسهلة الاستعمال ورخيصة نسبيًا. كما تستخدم نسبة قليلة من الناس بطاريات سائلة، مع روافع جهد، يمكنها تشغيل أكثر من لمبة توفير مع التلفزيون والبراد.

الماء

معاناة الناس مع المياه هي الأشد بين الخدمات الأخرى، نظرًا إلى الأهمية الحيوية للماء بالنسبة إلى حياتهم، وكلفتها العالية. وتزداد المعاناة في فصل الصيف مع انخفاض منسوب المياه واشتداد الحاجة إليها. تُضخ المياه مرتين في الأسبوع في بعض المناطق، ومرة في الأسبوع في مناطق أخرى. وإذا تصادف ضخ الماء مع انقطاع التيار الكهربائي لا يُستفاد منها بسبب عدم القدرة على تشغيل مضخات المياه لتعبئة الخزانات على الأسطحة. وتنتشر بشكل واسع تجارة بيع المياه بالصهاريج. ويختلف سعر الخمسة براميل بحسب المنطقة والحي، إذ يُراوح بين ثلاثة آلاف ليرة في المناطق والأحياء الشعبية، وقد يصل إلى عشرة آلاف في المناطق الغنية. أما مياه الشرب فتباع في الدكاكين بسعر خمسين ليرة لكل 20 ليتر. كما تباع المياه المعلبة بسعر 150 ليرة للعبوة من سعة ليتر ونصف.

التعليم

تسير العملية التعليمية بانتظام في مناطق سيطرة النظام. وتستقبل المدارس أبناء النازحين من مناطق أخرى إضافة لأبناء المنطقة. وتكتظ الصفوف بأعداد كبيرة. تنخفض جودة التعليم في المدن والبلدات الكبيرة. ويرتفع المستوى التعليمي في البلدات الصغيرة والقرى نتيجة عدم ارتفاع عدد الطلاب في قاعات التدريس. وعلاقة المعلمين بأهالي التلاميذ. انتشرت ظاهرة النقل والتنقيل وحل الأسئلة الجماعي في امتحانات الشهادات، خاصة البكالوريا، بشكل واسع وشبه مكشوف في مناطق المسؤولين والشبيحة. وأصبح الطالب المجتهد الذي ينجح بكفاءته يشعر بالظلم حين يتقدم لمفاضلة القبول بالجامعة، إذ يرى العديد من الطلاب الكسالى يحصلون على اختصاصات جامعية أفضل من اختصاصه. تنتشر الدروس الخصوصية المأجورة بشكل واسع، حتى في مستوى التعليم الأساسي. وتصل الظاهرة إلى الشرائح الدنيا من الفئات المتوسطة والتي تلامس الطبقات الشعبية. ويزداد الإقبال على تعلم اللغات، الانكليزية والفرنسية.

الصحة

تراجعت الخدمات الطبية بشكل كبير لأسباب كثيرة. فالاكتظاظ السكاني، نتيجة النزوح، يشكل ضغطًا كبيرًا على المرافق الصحية المعدة لكثافة سكانية أقل. كما تراجع أداء المستشفيات والمستوصفات الحكومية، فقد تقادمت الأجهزة الطبية، وأدى نقص السيولة لدى وزارة الصحة إلى الحد من إمكانية تحديثها وإصلاح المتعطلة منها. تناقصت أعداد الكوادر والكفاءات الطبية، نتيجة الهجرة. كل ذلك أدى إلى ازدهار أعمال المستشفيات الخاصة. ولا يمكن مقارنة تكلفة العمليات الجراحية والكشفيات الطبية في القطاع الخاص بتلك التي لا تزال تقدمها المستشفيات الحكومية، على الرغم من أنها لم تعد شبه مجانية كما كانت سابقًا. إذ تبلغ تكلفة عملية جراحية، في مستشفى خاص، مثل: إزالة مرارة نحو 300 ألف ليرة، والقثطرة القلبية مئات الآلاف وقد تصل إلى مليون ليرة بحسب عدد الشبكات وأنواعها. ووصلت تكلفة العمليات المعقدة المتعلقة بالأورام الخبيثة والغدد والأعصاب إلى عدة ملايين.

ومع تراجع القدرة الشرائية للمواطنين، ارتفعت الكشفية الطبية من حوالي (200 ـ 500) ليرة إلى حوالي (1000 ـ 3000) ليرة. كما ارتفعت أسعار الدواء بنسبة 50 في المئة، ويشكو الأطباء والمرضى من انخفاض نسبة المادة الفعالة في الأدوية المحلية بسبب عدم تناسب الأسعار مع التكاليف. والأدوية المستوردة غالية، لا يستطيع معظم المرضى شراءها. فثمن جرعة المضاد الحيوي المحلية 250 ليرة، والأجنبية 1800 ليرة.

انتشرت أمراض معدية أو وبائية عديدة بصورة أعلى من الطبيعي، لتصل أحيانًا لمستوى جائحة محدودة وليست عامة، مثل السلّ واليرقان واللايشمانيا/حبة حلب/، الإسهال المائي والكوليرا والتيفوئيد وشلل الأطفال والحصبة والتهاب الكبد الفيروسي، كما انتشر القمل والجرب وداء الكَلَب، معظم هذه الأمراض موجود قبل الحرب، لكنها كانت أقل انتشارًا ونسبة الإصابات منخفضة. من أسباب ذلك تراكم القمامة واختلاط الصرف الصحي بمياه الشرب. ووجود مواد غذائية دخلت سورية بطرق غير شرعية، وغير مفحوصة طبيًا ومجهولة المصدر وتاريخ الصلاحية، كالمعلبات واللحوم المجمدة.

النقل

انخفض عدد رحلات بولمانات الركاب انخفاضًا كبيرًا جدًا بين المحافظات. وتناقصت أعداد المسافرين. بينما لم تنخفض الحركة بالدرجة نفسها داخل المحافظات. توقفت الرحلات الليلية، وأيام الجمع. ازداد زمن السفر بسبب التوقف الطويل والاكتظاظ على الحواجز ومداخل المدن. بينما الحركة على الطرقات العامة خفيفة. ارتفعت تكاليف المواصلات بنسبة 700 في المئة لباصات النقل الداخلي الحكومية و500 في المئة للميكرو باصات الخاصة، أما شركات النقل الخاصة فقد ارتفعت بمقدار 400 في المئة، وصلت نسبة ارتفاع أجور سيارات الأجرة /التاكسي/ ضمن المدينة إلى 660 في المئة. كما انخفضت حركة نقل البضائع وارتفعت تكاليفها بشكل كبير، نتيجة ما يجب دفعه للحواجز. يقول لك التاجر، عندما يبلغك بارتفاع سعر السلعة، إن الارتفاع ليس بسبب زيادة سعر السلعة عند المنتج، بل بسبب زيادة ما يُدفع للحواجز.

ثالثًا: فرص العمل والبطالة والغلاء

ترافق الغلاء الفاحش مع التراجع الاقتصادي الكبير وتدهور الإنتاج، ما يجعل من إيجاد فرصة عمل مهمة شبه مستحيلة، فالبطالة خيالية لا تصدق، ومن الصعب تقديرها بنسبة رقمية (علمًا أن بعض التقديرات تجعلها أكثر من 70 في المئة). فكيف إذًا يتدبر الناس سبل معيشتهم. هناك من يعيش على الحوالات المرسلة من ذويهم في الخارج. والحوالات نفسها تتحول عند بعض الناس مصدرًا إضافيًا للدخل من خلال المتاجرة بالعملة الصعبة في السوق السوداء. قدرت بيانات المصرف المركزي عام 2014، قيمة التحويلات بنحو 8 ملايين دولار يوميًا. هذا المبلغ سيزداد في الأعوام اللاحقة بسبب زيادة أعداد المهاجرين. بعض الناس تعتمد على التضامن الأسري فيعمل في الأسرة أكثر من فرد، ولو بأجور منخفضة. كما يعمد آخرون إلى أكثر من عمل لأوقات طويلة.

ازدادت عمالة الأطفال، (من عمر 10 إلى 18 سنة)، بشكل كبير، حيث يضطر الكثير من الأطفال إلى العمل للمساعدة في إعالة أسرهم. وتشير بعض التقديرات إلى أن نسبة عمالة الأطفال تضاعفت من (10 في المئة) إلى (20 في المئة). وفي السابق كان معظم هؤلاء الأطفال في عمر 15 سنة أي بعد التعليم الأساسي، لكن بعد الأزمة ارتفعت نسبة الأطفال العاملين دون الخامسة عشرة.

ويمكن وصف ما تقوم به الحكومة بعد كل رفع للأسعار وتخفيض للدعم، بالمضحك المبكي. فبعد يومين من زيادة أسعار المشتقات النفطية بنسبة نحو 40 في المئة، منحت تعويضًا معيشيًا بمبلغ 7500 ليرة شهريًا، أي نحو 15 دولارًا. وقبل سنة رفعت الرواتب بمقدار (2500) ليرة، نحو (5) دولارات. كما كانت قد منحت تعويضًا معيشيًا بمقدار 4 آلاف ليرة بعد زيادة أسعار الخبز والمازوت والبنزين والغاز والكهرباء والمياه والهاتف. وعندما وصل سعر غرام الذهب إلى 23 ألف ليرة، تهكم أحد الموظفين وقال راتبي يساوي غرام ذهب.

وصلت نسبة الفقر في سورية بسبب الحرب إلى رقم مخيف، هو 86,7 في المئة، بحسب تقديرات مركز فيريل للدراسات ـ برلين، ألمانيا. Firil Center For Studies – Berlin, Germany www.firil.net باعتماد خط الفقر بما دون 2 دولار للفرد الواحد، وتناقصت أعداد الأسر المتوسطة بشكل كبير، باعتبار أن معظمها كان عند الخط الفاصل بين المستوى المتوسط والفقير. وبذلك يصبح الوضع الاقتصادي والحالة المعيشية المتردية إضافة إلى الفساد وجشع التجار، على حافة مجاعـة حقيقية في سورية، والوضع يتطلب حلولًا إسعافية سريعة، بزيادة الدعم لجميع السلع الأساسية، كالأرز والخبز والسكر والزيت والطحين ومواد التدفئة، إضافة إلى تحجيم تدخلات كبار التجار واحتكارهم للسوق، ومحاربة الفساد.

لا تصل المساعدات التي تقدمها الجمعيات الخيرية أو المنظمات الدولية، إلى قسم كبير من الناس المحتاجين، وتصل إلى عائلات ميسورة وغنية، ويقوم الأشخاص الذين أوكلت إليهم مهمة توزيع المساعدات بالاتجار بها أو تخزينها، تتضمن السلة الغذائية للهلال الأحمر 10 كغ أرز، 5 كغ سكر، 3 كغ معكرونة، 4 كغ برغل، 6 ليتر زيت، 6 كغ فول، كيلوغرام ملح، 5 كغ عدس، 5 كغ حمّص. توزع كل شهرين، إضافة إلى توزيعها لفرشات اسفنج، توزع بعض الجمعيات إعانات مالية بين 30 و40 ألف ليرة للأسرة الواحدة، أو تعطي سللًا تحوي منظفات وصابون ومحارم وبطانيات، إضافة إلى الدورات التعليمية والتثقيفية لجميع الأعمار، وتقدّم بعض الجمعيات علاجات نفسية وتساعد في تغطية تكاليف العمليات الجراحية وترميم المنازل المهدمة.

تأسست عشرات الجمعيات الخيرية، وكانت محلية أو خارجية التمويل، حكومية خاصة مدنية أو دينية، ومن بين نحو 100 جمعية هناك أقل من 30 جمعية ناشطة فقط، وذات أهداف إنسانية وتقوم بعملها بشكل جيد أو مقبول، بينما باقي الجمعيات أصبحت مصدرًا للكسب غير المشروع أو طريقًا للشهرة أو نشطت فترة قصيرة ثم توقفت بسبب نقص التبرعات. تتوزع هذه الجمعيات في المناطق الأكثر أمنًا. أدت زيادة عدد الجمعيات إلى ضياع المواطن بين خدماتها ومواعيد تقديمها، إضافة إلى البعد الجغرافي بين مراكزها وفروعها، علاوة على التغيير في خططها أو التخفيف في عطاءاتها نتيجة نقص التمويل وغيرها من الأسباب، يؤدي هذا إلى اعتماد المواطن على أكثر من مورد أو تغييره للمورد وفقًا للمتغيرات. فضلًا عن التردي الأخلاقي في المجتمع بما في ذلك العلاقات الشخصية والعائلية، ازدادت مظاهر الانحلال الخُلقي، وارتفع مستوى العنوسة، وأخذت العلاقات العائلية والأسرية تتفكك وتضطرب، نتيجة تشتت العائلات وتفرقها داخل وخارج سورية، وبين المناطق بسبب ظروف الحرب، وحدوث حالات شقاق سياسي ضمن الأسرة الواحدة،

رابعًا: الأمن والأمان (الخطف والقتل والاعتقال والاغتصاب)

من الصعب جدًا رصد ومتابعة حوادث الخطف والقتل والاعتقال، وبشكل أكبر كثيرًا حوادث الاغتصاب لأن من يتعرض له لا يبوح به بسبب حساسية الموضوع وعلاقته بالكرامة والشرف. تكثر هذه الحوادث على الطرقات العامة أكثر مما تحدث داخل المدن والبلدات. معظم الحوادث والجرائم التي تُنسب إلى ما يُسمى “عصابات” تقوم بها مجموعات من الشبيحة، أو ما يُسمى بلجان الدفاع عن الوطن، وهي على صلة مباشرة وغير مباشرة بالأجهزة الأمنية، وتحت حمايتها. وتلك الجرائم المذكورة، وجرائم السرقة والنهب والاحتيال، لا تجد طريقًا إلى الشرطة والقضاء، طبعًا لا يخلو الأمر من حدوث بعض تلك الأعمال داخل المدن وفي وضح النهار. كما تقوم تلك “العصابات” بتجارة السلاح والتهريب وسرقة السيارات. أغلبية عمليات الخطف التي تتم يكون ضحيتها شبان وشابات ينتمون إلى عائلات معروفة بثرائها، وذلك بهدف طلب فدية من الأهل والتي يتم تقديرها بحسب الحالة المادية. ويشكو أهالي المناطق الموالية من تفشٍ ملحوظٍ لظواهر عديدة مثل تجارة وتعاطي المخدرات، وجرائم القتل والدعارة والسرقة إلخ.

معظم تلك الجرائم تتم في العالم السفلي والمعتم، المخفي عن أعين الناس المنغمسين في حياتهم الطبيعية، ومشكلاتهم المعيشية وهمومهم اليومية. أولئك الذين تكاد لا تصل مسامعهم سوى حوادث الاختطاف والقتل التي تقع في مناطقهم وبين معارفهم. ولأن تلك الحوادث تقع متفرقة ومبعثرة في المكان والزمان، سرعان ما ينسى الناس غضبهم وخوفهم الجزئي والمؤقت، ويغرقون في دوامة حياتهم الاعتيادية. وعندما يجلس أهالي معظم المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام أمام التلفزيون، يسمعون ويرون ما يحدث في المناطق الساخنة من قتل وتدمير وتشريد، عند ذلك لا يستطيع أحد أن يلومهم على شعورهم بالأمن والأمان النسبيين اللذين يعيشونهما. ينطبق ذلك على معظم المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، وليس جميعها. فبعض المناطق تٌعكّر مناخ الأمان النسبي فيها حوادث كثيرة ومتكررة تقع في مناطقهم في فترات زمنية متقاربة.

فما يجري في السويداء والسلمية، على سبيل المثال، من اختطاف وقتل لا يسمح للناس بالإحساس بالأمن والأمان. ويزداد القلق والخوف ليس من الحوادث فحسب، وإنما من أن مَنْ يقوم بها مكشوف ومعروف وما يزال يتبختر بسلاحه ويشفّط بسيارته في الشوارع، تحت أنظار الشرطة والقضاء لأنهم ليسوا هم السلطة الحقيقية في ما يُفترض أنه “دولة”! السلطة الحقيقية تحمي المجرمين، إن لم تكن تحاصصهم في مغانمهم. والناس من يحميها؟!

خامسًا: التجنيد الإجباري

حفرت السنوات الخمس الماضية عميقًا في وجدان الناس وقناعاتهم، وتغيرت مقولات ومفاهيم، كانت بمثابة المسلمات والبديهيات. مثل السكوت وعدم التفريق والتمييز بين “سلطة الأمر الواقع”، بغض عن شرعيتها وطريقة وصولها إلى الحكم، وبين “الدولة” و”الوطن”، وبالتالي ضرورة حماية السلطة بذريعة الدفاع عن الوطن. حدث ذلك السكوت بفعل الخوف العميق الذي أحدثه القمع القاسي والمعمم. لكن حوادث ربيع وصيف 2011 أسقطت جدار الخوف، كما قيل. فسقطت الكذبة المفضوحة والمسكوت عنها، كذبة مقولة “سورية الأسد”. وتأكدت صحة مقولة “جيش الأسد”، التي بدأت تتضح تدريجيًا منذ عام 1976 في لبنان، وعام 1982 في حماة وغيرها من المدن الأخرى. هذا الجيش لم يعد، منذ ابتلعت “السلطة” المُشخصَنة “الدولة” وخصخصتها عائليًا في بداية سبعينيات القرن الماضي. فما يسمى “جيش” لم يبقَ جيش الدولة ولا جيش الوطن، بل أصبح جيش الأسد.

قبل ذلك لم تشكل حوادث الفرار من الجيش، أو التهرب من الخدمة الإلزامية والخدمة الاحتياطية، سوى حوادث فردية يخجل بسببها أهالي مرتكبيها وكأنهم ارتكبوا جنحة تدعو للمحاسبة والعقاب. لكن ما جرى في سورية بعد 18 آذار/ مارس 2011، شكّل حدثًا “تاريخيًا” بامتياز. لم يعد مقبولًا أن تُخيّر بين أن تكون “قاتلًا” أو “مقتولاُ”، تَقتل مَنْ؟ وتُقتَل على يد مَنْ؟ رحلة القتال، وبالأحرى رحلة القتل، هذه ليست لتحرير فلسطين! ولا حتى للدفاع عمّا تبقى من الجولان! لقد تغير كل شيء وبعمق وبلا عودة، حتى تُبنى “دولة” فعلية على أرض “وطن” حقيقي وليس مزرعة، وتسود الدولة على “مواطنين” أحرار وليسوا عبيدًا، بجيش يكون جيش الوطن حقًا وفعلًا.

وُلدت ظاهرة عزوف الشباب عن الالتحاق بالخدمتين الإجبارية والاحتياطية، بمباركة وحماس وحماية الأهل والمحيط الاجتماعي، بمثابة رد فعل طبيعي وصحي على المقتلة الوحشية السورية، قاتلًا أو مقتولًا. وحدّت تلك الظاهرة من إمكانية تعويض النقص الشديد في الطاقات البشرية لدى جيش النظام، بسبب النزيف المستمر والمتراكم في صفوفه. نتيجة الانشقاقات في البدء، والفرار لاحقًا. ثم الأعداد الكبيرة بين قتيل وجريح، يُقدّر حاليًا عدد الجيش النظامي المنخرط فعليًا في القتال بأقل من 100 ألف عنصر، ويُقدِّره بعضهم بـ 75 ألفًا، بينما كان تعداد الجيش قبل الحرب نحو 320 ألف عنصر.

وتضخمت ظاهرة العزوف مع الزمن. ومع الزمن أيضًا لم تعد تلك الظاهرة مقتصرة على المجتمعات المُعارِضة، أو المحايدة، بل تعدتها إلى الموالين أنفسهم وفي قمة هرمهم السلطوي والاجتماعي. مع حفظ الفروقات النسبية الكبيرة في حجم الظاهرة داخل كل مجتمع بين معارض أم موالٍ.

تهريب المسؤولين والأغنياء العلويين أبناءهم من الخدمة، أثار حفيظة واستياء فقرائهم الذين فقدوا أكثر من ابن في العائلة الواحدة. تكررت حوادث كثيرة، مثل حادثة مشهورة، عندما تقدم مسؤول كبير من أم ثكلى متوجعة طالبًا منها أن تعتز وتفتخر وترفع رأسها بابنها “شهيد الوطن”! فأجابته بصوت عالٍ وبغضب متفجع: “ع قبال ما ترفع راسك باستشهاد ولادك”. طبعًا لم يقتصر الهروب والهجرة على أبناء الشرائح العليا في الطائفة، وإنما شمل أبناء الفئات الوسطى، وأيضًا مغامرين من فقرائهم. ويُحكى أن هناك مجموعات صغيرة من شبابهم يعيشون في الجبال المحيطة بقراهم ويحملون السلاح الخفيف لمواجهة أي دورية تأتي لأخذهم إلى الخدمة. ومنهم من لجأ إلى التطوع مع الميليشيات المحلية التي تقيم حواجز التفتيش، حماية من الالتحاق بالخدمة. وآخرون يلتحقون بالخدمة ثم يعودون إلى بيوتهم بعد دفع الرشاوى للضباط المسؤولين عنهم.

من الصعب تقدير حجم ظاهرة المتخلفين عن الخدمة، وتتفاوت الحجوم النسبية وغير الدقيقة من بيئة إلى أخرى بحسب موقفهم من السلطة وموقعهم من الصراع. فأعداد المتخلفين من أبناء المناطق التي خرجت من تحت سيطرة النظام كبيرة جدًا، ولا توجد تقديرات حولها. والتقديرات التي تُطلق، بين فترة وأخرى، حول أعدادهم في مناطق سيطرة النظام لا يمكن التأكد منها. وتذكر تقارير صحفية أن الظاهرة تقدر بعشرات الآلاف. منها نحو 60 ألفًا في مدن الساحل وأريافها، ونحو 30 ألفًا في السويداء ومنطقتها، وما بين 27 ـ 30 ألفًا في السلمية وريفها.

يلجأ الشباب إلى أساليب متنوعة لعدم الالتحاق بالجيش. الجامعيون يؤخرون تخرجهم أو يلجؤون للدراسات العليا. وأعداد كبيرة تهاجر بشكل نظامي، وغير نظامي. وآخرون يلزمون بيوتهم. تقوم الأجهزة الأمنية باعتقال المتخلفين عن الخدمة عن طريق الحواجز الثابتة والطيارة، والدوريات المتجولة، داخل المدن وعلى الطرقات العامة، ومداهمة البيوت. يُلاحظ انخفاض أعداد الشباب في الشوارع ووسائل النقل والأماكن العامة والجامعات. أصبح لافتًا للنظر النسبة الكاسحة للنساء والكهول أينما تجول المرء.

بعد معركة حلب، أوائل آب/ أغسطس 2016، كثّف النظام جهده مجددًا لاعتقال الشباب من عمر 18-42 عامًا، لسوقهم للقتال مع قواته. ازدحام على الحواجز، تدقيق بالبطاقات الشخصية، وجود باصات تمتلئ بالشباب. يمتنع الشباب عن التنقل في الشوارع، ومن يضطر إلى الانتقال يتسلل سيرًا على الأقدام. وأغلبيتهم لا تخرج من البيت، مضحية بأعمالها أو دراستها. كما لجأ النظام إلى تجنيد نزلاء السجون المحكومين، حيث يُخيّر أولئك المساجين بين استمرار اعتقالهم في ظل ظروف إنسانية صعبة، وبين المخاطرة بحياتهم، مقابل نيل الحرية في حال النجاة من المعارك.

طرق التجنيد هذه، تستدعي التوقف عند مسألة حيوية أثّرت في سير معارك الصراع ونتائجها. وهي “الإرادة القتالية” عند مجندي النظام، و”الخبرة العسكرية” عند ميليشياته. ظهر بوضوح، منذ البدايات الأولى للحرب ضعف، إن لم نقل انعدام، “إرادة القتال” لدى عناصر ما كان يُعرف بـ “جيش النظام”. فالحرب ليست حربهم وهم وقودها دفاعًا عن “كرسي حكم” في مواجهة أهاليهم، فكيف يقاتل من لم ينشق خوفًا على نفسه وأهله. وأول من تلمس هذه الحقيقة مبكرًا وأعلنها كان حليف النظام “حزب الله”. وطلب من النظام عدم خوض معارك برية مشتركة مع قواته. والاكتفاء بدعم عملياته بالغطاء الناري من المدفعية والصواريخ والطيران، وفصل جبهات قتاله عن جبهات قتال جيشه جغرافيًا وبشريًا. ولن يكون آخر من يصطدم بهذه الحقيقة القيادة العسكرية الروسية، فمنذ الأسابيع الأولى لتدخلها اكتشفت ضعف الإرادة القتالية لجيش النظام. وعبّر عن ذلك ضابط روسي كبير بقوله: عندما تقوم طائراتنا بقصف الإرهابين يتقدم جنود النظام وميليشياته ويحتلون مواقع انسحب منها المسلحون نتيجة الغارات. وعندما تتوقف الغارات يعود المسلحون ليستعيدوا السيطرة على المواقع التي خسروها بعد انسحاب جيش النظام. وطيراننا لا يستطيع البقاء في الجو 24 ساعة. فهل يحق لروسيا، بمخابراتها العظيمة، أن تتفاجأ بهذه الحقيقة؟ وهل تجنيد المساجين واعتقال الناس لتجنيدها سيعطي مقاتلين ذوي “إرادة قتالية”؟! بالتأكيد يعرف النظام هذه الحقائق، قبل غيره وأكثر من غيره، ولكن ماذا يفعل وما من خيار أمامه. ما دام يتملكه وهم الانتصار.

سادسًا: مستوى رضا السكان بين مناطق سيطرة النظام ومناطق سيطرة المعارضة

تختلف معاناة السكان ومشكلاتهم وهمومهم بحسب السلطة المسيطرة على مناطقهم. لكنهم يشتركون جميعهم بالإقصاء عن صنع القرار، والتهميش بما يتعلق بإدارة شؤون حياتهم. فجميع السلطات تحكم الناس بأوامر فوقية مفروضة بالقوة، ومن يخرج عمّا هو مرسوم له يتعرض للقمع. هذا الإقصاء متحقق تحت مختلف أشكال سلطات الأمر الواقع في جميع المناطق، مناطق سيطرة النظام، ومنطقة سيطرة داعش، والمناطق الخارجة عن هاتين السلطتين، والمناطق الخاضعة لازدواجية سلطة النظام وحزب PYD الكردي. ينعدم النشاط المدني والسياسي في مناطق “داعش”، ويكاد ينعدم في مناطق النظام، ويتواجد بشكل محدود في المناطق خارج سيطرة “الدولتين”! وفي المناطق الكردية.

1- مناطق سيطرة النظام

يحظى النظام برضا نسبي من سكان المناطق ذات الأغلبية العلوية. وبرضا متفاوت بين منطقة وأخرى من مناطق الأقليات يصل إلى حد التذمر والاحتجاج كما هي حال منطقة السويداء. وبسخط مكتوم في مناطق الأغلبية السنية.

يأخذ العلويون على النظام سوء إدارة مناطقهم وفساد الإدارة، وترك الحبل على الغارب للشبيحة. فمركز القوة والسلطة الحقيقية بيد الأجهزة الأمنية، وزعماء الميليشيات. على حساب الأجهزة الإدارية الرسمية والشرطة والقضاء. وجرت تظاهرات واحتجاجات ظلت تحت سقف رأس هرم النظام، وصبت غضبها على المحافظين وبعض المسؤولين الذين لا حول لهم ولا قوة. فقد شهدت مدينة اللاذقية اعتصام الأهالي للمطالبة بمحاسبة سليمان الأسد المتهم بقتل الضابط بالجيش النظامي حسان الشيخ. كما قامت في أحياء حمص تظاهرات واعتصامات عديدة عقب التفجيرات المتكررة، احتجاجًا على التقصير الأمني. والمطالبة بتغيير المحافظ ورؤساء الأجهزة الأمنية. واعتصام في طرطوس وحمص للمطالبة بفك الحصار عن الجنود في مطاري كويرس في حلب وأبو الظهور في إدلب، إضافة إلى الاعتصام على طريق مطار دمشق الدولي للمطالبة بعملية عسكرية لفك الحصار عن بلدتي كفريا والفوعة بريف إدلب بالتزامن مع محاولات للمعتصمين لقطع طريق المطار، حيث نجحوا في ذلك لمرّات عديدة.

تكررت الاعتصامات والتظاهرات واقتحام مبنى المحافظة في مدينة السويداء. وطالبت بإقالة المحافظ، ومحاسبة رؤساء الأجهزة الأمنية؛ احتجاجًا على سوء الأوضاع المعيشية في المحافظة، وغياب القانون وانتشار الجرائم، وفوضى السلاح وسوء استخدامه.

لم تحدث أي تظاهرة أو اعتصام أو احتجاج جماعي في الأحياء والمدن السنية الخاضعة لسيطرة النظام. ولا يُعتقَد أن رضاهم عن سلطات النظام لا تشوبه أي شائبة، وأنهم لا يعانون من مشكلات مثل التي يعاني منها العلويون والدروز. لكن أغلب الظن أنهم يفضلون الصمت والصبر وكتم غيظهم، لأنهم يُقدرون أن ردود فعل النظام عليهم لن تكون كما على غيرهم، حتى لو طالبوا بإقالة مختار الحارة وليس المحافظ. والتهمة جاهزة مفصلة تفصيلًا على مقاسهم، فهم أهل الإرهاب والتكفير وأدوات بيد المؤامرة الكونية.

2- مناطق سيطرة المعارضة

تَدَرّج رضا الناس تحت سلطة المعارضة، من الترحيب والقبول التام في بداية خروج مناطقهم من تحت سيطرة النظام، إلى القبول النسبي، ثم إلى السخط. لأسباب أمنية واجتماعية واقتصادية وسياسية. وأدى السخط إلى قيام التظاهرات المنددة بأشكال القمع والاستبداد الجديد الممارس عليهم. وهم الذين تظاهروا ضد استبداد وقمع النظام قبل أن يكون هناك فصائل مسلحة وأسلحة. خرجت التظاهرات في معظم مدن وبلدات الغوطة الشرقية مثل: دوما وحرستا وسقبا وعربين وحمورية وكفر بطنا ومسرابا. أبدت تلك التظاهرات غضبها من الممارسات” الأمنية” لجيش الإسلام وقيادته ونددت بمن تسميهم تجار الأنفاق في إشارة إلى لواء فجر الأمة التابع للاتحاد الإسلامي لأجناد الشام.

واجهت مدينة إدلب بعد تمكّن فصائل المعارضة المسلحة من طرد قوات النظام منها، مجموعة من التحديات، لعلّ أبرزها كان ولا يزال تحدي إدارة شؤون السكان داخل المدينة لناحية تقديم الخدمات من مياه وكهرباء وهاتف، ولناحية تشكيل وإدارة الهيئات التي تتولى شؤون التعليم والقضاء والشؤون الشرطية والخدمات العامة. كل هذه التحديات وسط انعدام الإمكانيات وعدم سماح الفصائل التي حررت المدينة، بتسليم الشؤون المدنية إلى خبرات مدنية قد لا تتوافق معها في التوجه الإيديولوجي، ورفضها السماح للجهات السياسية التمثيلية في المعارضة أن تشكل مجالس محلية وهيئات مدنية. وعمت التظاهرات عشرات البلدات في ريف إدلب، مثل معرة النعمان وكفر نبل، وحمل المتظاهرون علم الاستقلال وتلقوا قمع جبهة النصرة التي انتزعت منهم العلم ورفعت علمها الأسود. وتم اعتقال بعض الناشطين المدنيين. كما قامت تظاهرات متكررة في أحياء مدينة حلب الخارجة عن سيطرة النظام. تظاهر عشرات المواطنين من أهالي مدينة خان شيخون في ريف إدلب الجنوبي في تظاهرة شعبية مطالبين بخروج تنظيم جبهة النصرة من المدينة، كما نادوا بسقوط الجولاني قائد جبهة النصرة، كما خرجت في بلدة “سرمدا” الحدودية في ريف إدلب تظاهرة تقدر بالعشرات ضد “جبهة النصرة”، وجابت التظاهرة أمام دار القضاء، حيث طالب المتظاهرون بخروج جبهة النصرة من البلدة ويهتفون “سرمدا حرة.. حرة، والجبهة تطلع برا”.

سابعًا: الليرة السورية والسوق

بعد أن وصل سعر الدولار إلى 650 ليرة سورية، في أوائل أيار/ مايو 2016، أخذ تدخل المصرف المركزي يتخذ زخمًا أكبر وأساليب متعددة. قام المركزي بطرح مبالغ ضخمة من الدولارات للبيع المباشر للمواطنين بأسعار تنازلية، وبشكل شبه يومي. كما عمل على تقليص حجم الكتلة النقدية من الليرات السورية المتداولة في الأسواق. وأغلق بعض شركات الصرافة، بشكل مؤقت، لمخالفتها تنفيذ تعليماته. ولاحق تجار العملة الصغار. أدت تلك الإجراءات إلى هبوط سعر الدولار إلى 420 ليرة. لكن سرعان ما عاد وارتفع، وأخذ يُراوح بين 470 و500 ليرة منذ منتصف حزيران. ومع بداية آب تجاوز سقف الـ “500″. وصل سعر الدولار في مدينة دمشق إلى 528 ليرة شراء و532 مبيع.

كما أعلن البنك الدولي (نيسان 2016) انهيار احتياطي المصرف المركزي السوري من العملات الأجنبية، متراجعًا من 20 بليون دولار (17 بليون يورو) قبل النزاع إلى 700 مليون دولار (616 مليون يورو). وقال البنك الدولي في تقريره الذي حمل عنوان «مينا ايكونوميك مونيتور» إن «انهيار الصادرات والاحتياطي أدى إلى تراجع قيمة العملة الوطنية». وفي اليوم الثاني لهذا الإعلان رد مصرف سورية المركزي، معتبرًا أن تقرير البنك الدولي بخصوص موضوع احتياطيات المركزي “عار عن الصحة”، مؤكدًا أن ما ورد في التقرير يشير إلى “انخفاض” وليس “انهيار” الاحتياطيات الأجنبية. إلى جانب ما ذكره التقرير صراحة لجهة أن الأرقام الواردة في متنه هي أرقام تقديرية حيث لا “تتوافر لديه أي بيانات حقيقية تتعلق باحتياطيات القطع الأجنبي في سورية”.

لكن لا يمكن لسياسة ضخ الدولار في السوق أن تكون حلًا، قد تؤجل الانهيار التام لليرة لكنها لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية. كما أن العقوبات الاقتصادية وانخفاض أسعار النفط أثرت بشكل كبير على روسيا بالدرجة الأولى وإيران بالدرجة الثانية، ما أدى لخفض دعمهما للنظام، وسياسة تقليص الكتلة النقدية من الليرات السورية المتداولة في الأسواق لن تطول لأنها ستؤثر في السيولة وتؤذي الصناعة والتجارة والإيداعات. ويرى المركزي أن “اعتماد المستهلك على المنتج المحلي والعزوف عن المستورد والحد من عمليات التهريب تسهم بشكل إيجابي في تخفيف الطلب التجاري على القطع الأجنبي”. ولكن كيف يمكن تحقيق هذه الأمنية الصعبة؟

حاول حاكم المصرف المركزي السابق، تحميل أسواق لبنان مسؤولية «المضاربة على العملة السورية»، وأنه سيمد نطاق إجراءاته التدخلية في السوق اللبنانية، عبر سحب الكتلة النقدية بالليرات السورية المتداولة في لبنان. لكن العملة السورية المتداولة في لبنان، ليست كتلة ضخمة كي تضغط على سعر صرف الليرة السورية، مقابل حجم انتشار العملة في سورية، وهذا الإجراء يستحيل تنفيذه قانونيًا وعمليًا. بينما حمّل الحاكم الجديد مسؤولية تهاوي سعر الليرة لشركات الصرافة. وقرر مجلس النقد والتسليف السوري تفعيل دور المصارف العاملة في سورية في تمويل عمليات النقد الأجنبي للأغراض التجارية وغير التجارية. ونقل مهمة بيع النقد الأجنبي بسعر تدخلي من شركات الصرافة إلى المصارف الخاصة المرخص لها بالعمل في سورية. وقال الحاكم “سيضمن هذا القرار استقرار سعر الصرف خلال فترة قريبة مع التأكيد على استمرار شركات الصرافة في تأدية الدور المنوط بها في تنفيذ الحوالات والقيام بأعمال الصرافة من خلال مواردها الذاتية”.

ويعتقد بعض المهتمين وكثير من السوريين أن المركزي أصبح تحت سيطرة مافيا النظام الاقتصادية والمالية التي تتلاعب بالأسواق، لتكوين ثروات خيالية في حساباتهم، وأن هؤلاء هم المسؤولون عن تدني القيمة الشرائية لليرة وعن نهب المواطنين والدولة.

فهل تجاهل المسؤولون عن السياسات النقدية الوقائع الاقتصادية العنيدة، أم تناسوا عن قصد ومصلحة القوانين الاقتصادية؟ وهم يعرفون بالتأكيد أن توليد العملة الصعبة في الاقتصاد، أي اقتصاد، يحتاج إلى إنتاج السلع والخدمات وتصديرها. وهذا الأمر غير ممكن في ظل حربهم على الشعب. تلك الحرب التي أوقفت الإنتاج والاستيراد والتصدير، واستنزفت الموارد الطبيعية للبلاد، وهدرت الاحتياطيات بالعملة الأجنبية، وأدت إلى انعدام الثقة بالاقتصاد السوري، ومنعت قدوم السياح الذين يضخون العملة الصعبة. لكن مصلحة النظام تجبره على الاستمرار في طريقته للتعامل مع الأزمة، لذلك فإن العملة السورية والاقتصاد السوري سيصعب، إن لم نقل يستحيل، إنقاذهما من انهيار كارثي.

ثامنًا: الأساليب التي يلجأ إليها النظام للتمويل

انخفضت واردات الدولة من العملة الأجنبية بشكل متزايد، ابتداءً بتوقف إيرادات النفط والسياحة وانتهاءً بشح الصادرات السورية، إضافة إلى ما استنزف من عملة أجنبية عبر هروب رؤوس الأموال، فقد ازدادت تلك العملية بشكل واضح، إذ نجح المئات من رجال الأعمال والمصارف الخاصة في إخراج الأموال من سورية، فضلًا عن حاجة النظام إلى صرف مبالغ طائلة على صفقات أسلحة ووقود ورواتب لضمان استمرار عمليات جيشه والميليشيات التابعة له. فكيف يتم تعويض هذا النزيف؟ لا شك أن أي تعويض ممكن سيظل جزئيًا لا يفي بأدنى حد مطلوب. والأهم من ذلك أن أساليب التعويض المتاحة لا تُشكّل علاجًا. فهي أشبه بالمسكنات المُهدِئة في المدى القصير لكنها تفاقم المرض على المدى البعيد.

يدخل جزء من العملة الأجنبية الآتية من مساعدات الدول للمعارضة إلى السوق الواقع تحت سيطرة النظام، لينتهي إلى المصرف المركزي. لكن تأثير هذه العملية يبقى محدودًا. وهناك الدعم المالي الإيراني (العيني والمباشر)، فقد بادرت إيران الى فتح خط ائتماني بلغت قيمته 5,5 مليار دولار أميركي.

لجأ النظام إلى طبع عملة جديدة في روسيا، وطرح المصرف المركزي، صيف 2015، أوراقًا نقدية من فئة 1000 ليرة سورية. وكان المصرف قد طرح عام 2014، أوراقًا نقدية من فئة 500 ليرة سورية. وتسربت معلومات تفيد بأن وزن أوراق الليرة السورية المطبوعة في روسيا قد بلغ أكثر من 240 طنا، نُقلت على مراحل في فترة قصيرة إلى سورية. وكانت الدفعة الأولى تبلغ 75 مليار ليرة سورية. وستصل دفعات أخرى. ويدعي النظام أن طرح هذه النقود جاء بدلًا من سحب الأوراق النقدية المهترئة المتداولة، وليس لتمويل العجز. لكن معظم الناس تشك بصحة ذلك الادعاء. والواقع العملي يكذب بدوره ادعاءات الحكومة، فلا تزال هناك الكثير من الأوراق النقدية المهترئة متداولة في السوق، بما في ذلك الأوراق من فئتي 1000 ليرة و500 ليرة. كما لا يصعب ملاحظة أن الكتلة النقدية المتداولة بين أيدي الناس قد ازدادت فعلًا.

إن زيادة الكتلة النقدية في الوقت الذي لا يزيد فيه الإنتاج السلعي، بل على العكس من ذلك يشهد الاقتصاد تدهورًا كارثيًا في الإنتاج، يجعل من الكتلة النقدية الكبيرة جدًا في السوق، لا تتناسب مع الكتلة السلعية بل تتفوق عليها بأضعاف مضاعفة. ما يفاقم الخلل في المعادلة الاقتصادية بشكل خطير جدًا، لقد أدت طباعة العملة إلى حل بعض مشكلات الحكومة، خاصة في ما يتعلق بحاجتها الماسة للسيولة النقدية، لتجنب الوصول إلى مرحلة عدم دفع الرواتب. إن حل مشكلة السيولة أراح الحكومة بشكل مباشر على المدى القصير، لكنه تسبب في التضخم الذي يشهده الاقتصاد اليوم، ويساهم في تدهور قيمة صرف الليرة أمام العملات الصعبة وسقوط قيمتها الشرائية بشكل مريع. كما حدث أن بعض الصرافين في تركيا ولبنان يمتنعون عن تبديل الأوراق النقدية السورية الجديدة بالعملات الصعبة بينما يبدلون الأوراق القديمة.

وقام النظام بالاستدانة من المصارف العامة المودعة لدى المصرف المركزي، حتى أصبحت ديونه فوق الحد المسموح به. ويصعب معرفة أو تقدير قيمة تلك الاستدانة. وأحجمت المصارف الخاصة عن شراء السندات الحكومية، بسبب شكوكها بإمكانية سدادها من قبل النظام. ومخافة أن تمتنع الحكومات القادمة عن سداد الديون.

تعامل النظام بحذر شديد مع طريقين، ممكنين نظريًا، لتمويل حاجاته بسبب حساسيتهما الاجتماعية العالية. وهما رفع الدعم عن المواد الغذائية والمحروقات، وزيادة الرسوم والضرائب. استفاد النظام من تجربة السادات عام 1977، حين عالج موضوع الدعم بالصدمة التي أدت إلى انتفاضة شعبية واسعة. ومنذ ذلك الوقت اتبع أساليب تمرير الدعم بليونة. فمن رفع الأسعار تدريجيًا وعلى مراحل زمنية إلى إبقاء سعر عبوة المادة وإنقاص وزنها. ففي تموز عام 2014 رفع سعر كيلو الخبز من (9) ليرات للكيلو غرام إلى (15) ليرة، بنسبة أكثر من (65 في المئة). وفي مطلع عام 2015 خفّض وزن ربطة الخبز من (1750) غرام إلى (1450) غرام. وزاد سعر الربطة من (25) ليرة إلى (35) ليرة، بنسبة تزيد على (60 في المئة). أي تم رفع سعر الخبز أكثر من (120 في المئة) خلال ستة أشهر. وفي عام 2016 أصبحت ربطة الخبز بوزن كيلو غرام واحد بسعر (50) ليرة، أي أن ارتفاع سعر الخبز خلال ما يقارب السنتين بلغ (555 في المئة). ما حدث لسعر الخبز، العيش كما يُسمى في بعض البلدان، تكرر مع المواد الغذائية والمحروقات التي كانت مدعومة منذ ستينيات القرن الماضي. وارتفع سعر كيلو غرام السكر المدعوم من (175) ليرة إلى (275) ليرة، إلى (300) ليرة خلال بضعة أشهر، آخرها شهر آب 2016. في مؤسسات التدخل الإيجابي. بينما سعره في السوق (400) ليرة للكيلو غرام الواحد. وبعد رفع أسعار الكهرباء والماء. أصدرت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، ثلاثة قرارات تقضي برفع سعر ليتر البنزين 65 ليرة وليتر المازوت 45 ليرة واسطوانة الغاز المنزلي 700 ليرة. أي ارتفع سعر ليتر البنزين ليصبح 225 وليتر المازوت ليصبح 180 ليرة، وسعر اسطوانة الغاز المنزلي لتصبح 2500. وبهذا تكون أسعار المشتقات النفطية قد ارتفعت بشكل كبير منذ عام 2010 لتصل في مادتي المازوت والغاز إلى (10) أضعاف.

أما طريق زيادة الضرائب والرسوم لم يُتبع عمليًا. وما حصل لا يكاد يسد عجزًا. ففي عام 2013 صدر قانون يتضمن إضافة نسبة 5 في المئة على تحققات الضرائب والرسوم، تسمى المساهمة الوطنية لإعادة الإعمار. وصدر قرار في العام نفسه وضع بموجبه طابع خاص بالمجهود الحربي في التداول، بقيمة 50 ليرة سورية.

كما يُشاع أن النظام سيعلن عن بيع بعض المنشآت الحكومية بقطاع الصناعة، وفتح باب التشاركية بقطاعات الطاقة، أمام القطاع الخاص، من داخل سورية وخارجها. وبدء تنفيذ قانون التشاركية، والذي يعني خصخصة عدد مهم من الشركات الحكومية. والترويج لهذه الشركات لدى مستثمرين محليين وأجانب، ويشار إلى أن النظام يولي اهتمامًا للمستثمرين من إيران وروسيا، بينما لا يُبدي مستثمرون من خارج هاتين الدولتين اهتمامًا بالاستثمار في سورية. فهل هذه الخطوة محاولة من النظام لتمويل حاجاته، مثل تمويل الحرب وتأمين السيولة ودعم الليرة وغيرها، من خلال بيع ممتلكات الشعب؟ مع العلم أن القطاع الصناعي في سورية يحتل أهم وأغلى المناطق عقاريًا، وهل يغامر رأس المال، في ظروف الحرب المفتوحة، بالمجازفة على الرغم من تلك الإغراءات؟

تاسعًا: الدعم المالي الإيراني والروسي والاستدانة الداخلية لتمويل الإنفاق

انخفضت ديون سورية الخارجية بشكل كبير إلى حد أنها أصبحت نحو 30 في المئة من قيمة الناتج المحلي، بعد أن تم الاتفاق على تصفية ديون روسيا المتبقية من عهد الاتحاد السوفياتي وديون دول الكتلة الشرقية سابقًا. وبقي دينها الخارجي على هذه الحال حتى العام 2011. حين بدأ الخناق الاقتصادي يضيق على النظام بسبب العقوبات الاقتصادية. لكن تدهور الوضع المالي للنظام واشتداد الحاجة إلى موارد مالية يؤمّن من خلالها نفقات الحكومة والجيش، دفعه للاستدانة من حلفائه، إيران وروسيا.

لكن اقتصاد كل من الحليفين، الإيراني والروسي، ينوء تحت وطأة العقوبات الاقتصادية وانخفاض أسعار النفط. الأمر الذي حدَّ من إمكانيتهما على توفير كامل الدعم المطلوب واللازم. وبنتيجة الاهتمام الإيراني الفائق بالساحة السورية، جاء دعم إيران أكثر سخاءً من روسيا. فقد سارعت إيران إلى المبادرة منذ العام 2011 إلى فتح خط ائتماني تُقدّر قيمته حتى عام 2016 بمبلغ 5,5 مليار دولار أميركي، في حين رفضت روسيا في تشرين الثاني 2014 منح دمشق قرضًا بقيمة مليار دولار. لكن روسيا تقوم بدعم النظام بالأسلحة ولا يمكن معرفة حجم الدين المترتب على النظام نتيجة التسليح الروسي.

هناك مَنْ يرى أن إيران وروسيا بدأتا تتحكمان بمستقبل الاقتصاد السوري، على الرغم من انهياره اليوم، استعدادًا لاقتسام ريع “مشروع” الخراب الذي تساهمان به، “مشروع” ما يسمى إعادة إعمار سورية. و”الاستثمار” الكبير باستمرار وصايتهما على سورية إلى أمد بعيد. وفي هذا السياق يأتي تصريح رئيس الوزراء السابق، وائل الحلقي، حين أعلن: “وقعنا مع موسكو عقودًا بمليار دولار لإعمار سورية. فهل لسورية ربٌ يحميها من إعمار كهذا؟

من المعروف أن “البنك المركزي تجاوز الحد الأقصى للاقتراض من البنوك العامة، وأن البنوك الخاصة تمتنع عن شراء السندات الحكومية”. لكن من غير المعروف قيمة الاستدانة الداخلية هذه.

عاشرًا: تقدير الوضع الاقتصادي العام للنظام، ماذا بقي من الاقتصاد؟

في أحدث تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي، صيف 2016، حول تأثير الحرب على سورية المستمرة منذ خمس سنوات ونيف، أشار إلى أن الأرقام الخاصة بسورية تخضع لـ “درجة غير عادية من عدم اليقين”، ومع ذلك يُقدّر الصندوق أن الاقتصاد السوري عاد عقودًا إلى الوراء عن مستويات ما قبل الحرب، وإن إعادة بناء رأس المال الاجتماعي والبشري في سورية ستكون مهمة صعبة للجميع. فالناتج المحلي الإجمالي اليوم أقل من نصف ما كان عليه قبل اندلاع الحرب، وقد يستغرق الأمر 20 سنة أو أكثر لإعادته إلى مستوياته السابقة. وعلى الرغم من أن الاقتصاد قبل 2011، كان محدودًا بسبب ضعف بيئة الأعمال، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، إلا أنه كان يشهد حالة من الاستقرار. لقد تفاقم العجز المالي للبلاد بأكثر من الضعف مسجلًا 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. في وقت انهارت فيه إيرادات الدولة وارتفع الإنفاق مع توظيف المزيد من الأموال في صرف أجور القطاع العام والنفقات العسكرية واستيراد السلع الأساسية. وأوضح التقرير أن الدين العام لسورية ارتفع بشكل كبير، وقدّره بأكثر من 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي مع نهاية العام 2015، مقارنة بـ 31 في المئة في نهاية العام 2009. كما ازداد الدين الخارجي أيضًا من 9 في المئة إلى 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة نفسها. وأكد أن إصلاح البنية التحتية المدمرة في البلاد مهمة بالغة الصعوبة، مع ارتفاع تكاليف إعادة الإعمار التي تُراوح بحسب التقديرات بين 100 و200 مليار دولار، أي ثلاثة أضعاف الناتج المحلي لسورية في العام 2010. إلا أن التقرير أشار إلى أنه في حال تصاعد وتيرة الحرب بشكل أكبر، كما حدث في النصف الثاني من العام 2015، فإن تكلفة إعادة الإعمار ستصبح أعلى من ذلك كثيرًا، بينما ستكون مهمة إعادة بناء رأس المال البشري والاجتماعي تحديًا أعظم سيتطلب فترة أكبر قد تحتاج إلى عقود عديدة.

ولم يقتصر صندوق النقد الدولي على الجوانب الاقتصادية في تقريره. لذا يمكن اعتباره محاولة للإجابة عن سؤال: ماذا بقي من سورية؟ زادت الحرب من أعداد الفقراء في البلاد الى مستويات كبيرة تجاوزت الـ 80 في المئة من عدد السكان، فضلًا عن الدمار الذي لحق بالخدمات الصحية والتعليمية، ما دفع بملايين السوريين للنزوح الداخلي أو للهجرة إلى الخارج. وتؤكد إحصائيات أن عدد سكان سورية تقلص ما بين ضحايا الحرب والهجرة للخارج إلى نحو 25 في المئة من عدد سكان البلاد، فيما نزح 50 في المئة من الشعب السوري داخل البلاد، كما هاجر عدد كبير من القوى العاملة وذوي المهارات العالية ورجال الأعمال الى خارج سورية. كذلك أثرت الحرب في الأطفال السوريين بشكل كبير، وتقدر منظمة اليونيسف أن سورية فقدت 10.5 مليار دولار من رأس مالها البشري، نتيجة خسارتها لكفاءات ومهارات قوة العمل إضافة إلى تدني مستوى التعليم وتراجع التدريب والتأهيل المهني.

إضافة إلى تقرير صندوق النقد الدولي، يمكن القول إن الحرب خلفت نحو نصف مليون ضحية وأكثر من مليوني جريح نصفهم أصبحوا عاجزين، فضلًا عن أن مئات الآلاف أصبحوا يعانون من أمراض نفسية واضطرابات عصبية نتيجة الحرب.

من جانبه قدّر البنك الدولي أن إجمالي الناتج الداخلي في سورية تراجع بنسبة 19 في المئة في العام 2015، ويفترض أن يشهد تراجعًا جديدًا بنسبة 8 في المئة في 2016. في المقابل، ارتفع العجز في الموازنة في شكل كبير من 12 في المئة من إجمالي الناتج الداخلي خلال الفترة بين 2011 و2014 إلى 20 في المئة في 2015، ويفترض أن يصل إلى 18 في المئة في 2016. وتعاني سورية خصوصًا تراجعًا للعائدات النفطية من 4.7 بليون دولار في العام 2011 إلى 0.14 بليون دولار سنة 2015.

أقرت الحكومة موازنة 2015، والبالغة 1554 بليون ليرة بزيادة 164 بليون ليرة عن موازنة 2014، ووُصفت بأنها “أعلى موازنة” في تاريخ سورية، وهو رقم صحيح بالليرة السورية، لكنه ضئيل جدًا مع احتساب تدهور سعر الصرف، نتيجة الخسائر الكبيرة التي تكبدها الاقتصاد في مختلف قطاعاته بسبب الدمار والخراب وتراجع الصناعة والسياحة ودخل النفط. وبالعودة إلى موازنة 2010، وهو العام الذي سبق اندلاع الثورة، بلغت الأرقام نحو 750 بليون ليرة، وبما يعادل 16.55 بليون دولار على أساس سعر صرف الدولار 45.5 ليرة، وبلغ العجز المالي بين الإيرادات والنفقات نحو 3.9 بليون دولار، وهو أفضل من العجز الذي كان مقدرًا في موازنة 2009 والبالغ نحو خمسة بلايين دولار، وحتى موازنة 2011 التي أعدت في العام السابق للثورة، اعتمدت أيضًا السعر ذاته، وبلغت قيمتها 17.8 بليون دولار، أي بزيادة نحو 8 في المئة. واعتمادًا على هذه النسبة وعلى أساس نمو تدريجي للزيادة في السنوات التالية، كان يجب أن يصل حجم موازنة 2015 إلى نحو 25 بليون دولار، ولكن مع تدهور سعر صرف الليرة يكون حجمها فقط 7.4 بليون دولار، وهو الأدنى خلال السنوات العشر الأخيرة، وتعادل أقل من نصف موازنة 2010، وثلث الموازنة العادية مع الارتفاع التدريجي الذي كان متوقعًا للاقتصاد.

وعجز الموازنة هذا هو عجز نظري محسوب على أساس الأرقام التقديرية لإيرادات ونفقات الموازنة، أما العجز الفعلي للموازنة المُنفّذة فمن المُرجّح أن يكون أعلى كثيرًا من العجز النظري. فمن جهة أولى، يُتوقع انخفاض الإيرادات المتحصلة فعلًا عن التقديرات نتيجة انخفاض مصادر التمويل الداخلية والخارجية، بسبب تقلص المصادر الضريبية وتراجع الإيرادات الأخرى للخزينة العامة، وأهمها الإيرادات النفطية والسياحية. ومن جهة ثانية سيزيد الإنفاق الفعلي عن نظيره التقديري، نتيجة توقع زيادة حجم الإنفاق العام مع ارتفاع تكاليف تمويل الحرب، وحاجات الاقتصاد لتخفيف تسارعه نحو الكارثة. وتتم تغطيته بالتمويل بالعجز من المصرف المركزي من دون إعلان، وبالاستدانة من إيران وروسيا من دون إعلان أيضًا.

انخفضت مصادر التمويل الداخلية والخارجية، بسبب تقلص المصادر الضريبية وتراجع الإيرادات الأخرى للخزينة العامة، وأهمها الإيرادات النفطية والسياحية. قدّر وزير النفط خسائر قطاع النفط والثروة المعدنية، المباشرة وغير المباشرة، منذ بدء الأوضاع حتى بداية 2016، بما يقارب 60 مليار دولار.

كما تعاني المصارف الحكومية من مشكلة ضخامة الديون المتعثرة والتي تشمل عددًا كبيرًا من رجال المال والأعمال، ومعظمهم ترك البلد ونقل أمواله واستثماراته إلى خارج سورية. وهناك تقديرات يصعب التأكد من دقتها وإن كانت تتقاطع مع التحليل والكثير من المعطيات، إذ يقدر بعض رجال الأعمال وآخرين ممن هم معنيون بالشؤون المصرفية خروج أكثر من 92 في المئة من أرصدة مصارف خاصة تعمل في سورية وإيداعاتها ولم يبق فيها سوى ثمانية في المئة.

كما غيرت الحرب من الشركاء التجاريين التقليديين، إذ لم يعد الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول لسورية بعد العقوبات الاقتصادية التي فرضها منذ 2012، وكذلك التجارة العربية التي شلتها العقوبات منتصف عام 2011، لتتصدر إيران قائمة الشركاء التجاريين. إذ أصبحت سورية تصدر إلى إيران ما قيمته أقل من 6 مليارات ليرة سنويًا، أي بنسبة 1 في المئة من مجمل الصادرات السورية السنوية. بينما تستورد سورية من إيران ما قيمته 16 مليار ليرة، أي بنسبة 20 في المئة من مجمل مستورداتها الخارجية سنويًا. وفق تقرير لغرفة تجارة دمشق نشرته على موقعها الإلكتروني في حزيران/ يونيو 2016، واستشهدت به العديد من المواقع الإلكترونية الإخبارية، والصحف السورية مثل جريدة الوطن وجريدة الوحدة.

تتقاطع العديد من التقديرات حول الخسائر الكبيرة التي تكبدها القطاع الصناعي. ومن تلك التقديرات المتقاطعة ما تقدم به الاستشاري “فؤاد اللحام” «معاون وزير الصناعة سابقًا»، خلال ندوة “لجمعية العلوم الاقتصادية” عقدت 12 تموز/ يوليو 2016 تحت عنوان «رؤية لإعادة تأهيل الصناعة السورية». فقد قدّر عدد المنشآت الصناعية المتضررة الخاصة التي تم إحصاؤها حتى الآن بـ 1548 منشأة تقدر خسائرها بنحو 503 مليارات ليرة سورية، منذ بداية الأزمة، إضافة إلى 60 منشأة عامة قدرت خسائرها المباشرة وغير المباشرة بنحو 500 مليار ليرة سورية، أي مجموع خسائر الصناعة السورية يزيد على ألف مليار ليرة، على حين تتجاوز القيمة الاستبدالية للشركات العامة المدمرة مبلغ 2600 مليار ليرة حتى تاريخه.

وهذه الأرقام، قابلة للزيادة وفق المؤشرات الجديدة لأسعار الصرف وقيمة الآلات وخطوط الإنتاج وتأمين المستلزمات الأساسية.  كذلك ارتفعت تكاليف الإنتاج وتراجعت حصة الصناعة المحلية في سوق الاستهلاك الداخلي بسبب زيادة الاستيراد وعمليات التهريب.

وتراجع إنتاج وتسويق المحاصيل الزراعية التي تشكل مدخلات للقطاع الصناعي كالشمندر السكري والقمح والزيتون والقطن الذي تراجعت حصة المؤسسة العامة لحلج وتسويق الاقطان من 628 ألف طن قطن في عام 2010 إلى 11 ألف طن فقط العام الماضي. كما يشار إلى أن إنتاج القمح في سورية سجل انخفاضًا بمعدل 10 أضعاف عما كان عليه قبل الحوادث، وفقا لأرقام رسمية، حيث بلغت كمية القمح المسوقة حوالي 412 ألف طن الموسم الماضي، انخفاضًا عن 3.5 مليون طن قبل 5 أعوام.

وبالنسبة إلى مؤشر الفساد، احتلت سورية المرتبة 154 بين 168 دولة، بحسب تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2015، عن الفساد في دول العالم، بعد أن كانت تحتل المرتبة 127 عام 2012.

خاتمة

يُخيّم على مناطق سيطرة النظام شبح “أرض اليباب”! فبالعين المجردة تُرى “هاوية الانهيار الاقتصادي” و”حافة المجاعة” و”الكارثة الاجتماعية”. انخفض الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من النصف. تفاقم العجز المالي بانهيار إيرادات الدولة وارتفاع إنفاقها. ارتفع الدين العام، كما زاد الدين الخارجي. البنية التحتية شبه مدمرة. هاجرت أعداد كبيرة من القوى العاملة من ذوي المهارات العالية، ورجال الأعمال حاملين ثرواتهم ورؤوس أموالهم. أصبحت أسعار المواد الغذائية لا تطاق، وتغيرت موائد الناس كمًا ونوعًا. وكذلك أسعار السلع والخدمات الأخرى، من مسكن وملبس وأجور نقل واتصالات وتدفئة وماء وكهرباء، وطبابة ودواء. تراجعت فرص العمل، وارتفعت معدلات الفقر والبطالة وعمالة الأطفال. هبط مستوى خدمات الكهرباء والماء والتعليم والصحة والنقل بشكل كبير.

يعيش الشباب وأهاليهم “كابوس” الالتحاق بالخدمتين الإلزامية والاحتياطية أو الهرب منهما. فلم يعد مقبولًا بالنسبة إليهم أن تُخيّر بين أن تكون “قاتلًا” أو “مقتولًا”. تَقتل مَنْ؟ وتُقتَل على يد مَنْ؟ رحلة القتال، وبالأحرى هذه المقتلة لم تعد مُقنعة لهم لا بدوافعها ولا بأهدافها. يخاف الناس من حوادث الخطف والقتل والاعتقال والاغتصاب. كما يخافون من “عصابات” جرائم السرقة والنهب والاحتيال، التي لا يجد ضحاياها أبواب الشرطة والقضاء مفتوحة أمامهم. فضلًا عن “عصابات” تجارة السلاح والتهريب وسرقة السيارات. كما تتفشى ظواهر تجارة وتعاطي المخدرات والدعارة.

فهل يُمكن وقف التدهور، أو على الأقل تخفيف سرعة وتسارع الانحدار نحو الانهيار الاقتصادي والكارثة الاجتماعية؟ يتوقف الأمر على عوامل ومتغيرات عديدة، وبشكل خاص عامل الزمن وطبيعة “الحل السياسي” المنتظر. فكلما تأخر الحل ازدادت المشكلات صعوبة والأوضاع خطورة. وهل سيتم التوصل إلى حل “عادل” يؤدي إلى السلم والاستقرار أم سيكون الحل ظالمًا يُؤسس لعنفٍ لا ينتهي.

وفي جميع الأحوال وحتى ذلك الحين ليس من المتوقع، في الأفق المنظور، أي حراكٍ سياسي نتيجة الأوضاع المعيشية، كما لا يُتوقع حدوث احتجاجات عفوية على ظروف الحياة الأخرى الصعبة جدًا، ما لم يحدث ما ليس في الحسبان. فقد أُعيد بناء جدار الخوف في مناطق سيطرة النظام خلال سنوات الخراب الخمس الماضية. بعد أن تهدم ذلك الجدار، جزئيًا أو كليًا بحسب كل منطقة، في العام 2011.

لكنّ السكون والركود الظاهريين فوق السطح الاجتماعي، المفروضين بقوة رهاب القمع الاستبدادي، يُخفيان حراكًا نشطًا في قاع العمق الاجتماعي. حراك صراعي بين متناقضات تحمل الأمل والألم معًا، وتدعو للتفاؤل والتشاؤم في آن.

فمن جهة أولى: تتراجع “الهوية الوطنية السورية”، الضعيفة أصلًا، لصالح الهويات الفرعية ما تحت “الوطنية”. هويات دينية وطائفية ومذهبية وعرقية. هويات إقصائية تتغذى على العصبيات والأصولية وترفض الآخر المختلف، هويات تنطوي على استعداد دائم للعنف ونشر مناخ الخوف.

ومن جهة ثانية: فإن ما يحدث في سورية، بغض النظر عن تسمياته المتنوعة والمختلفة، هو “عملية تاريخية” أصيلة وعميقة. ومهما تكن نتائجها المباشرة فهي تؤسِس لمستقبل حالِم وطموح. الشابات والشباب، النساء والرجال الذين انتفضوا لم تقتصر انتفاضتهم على البعد السياسي بوجه الاستبداد بل تمردوا على منظومة متكاملة من “القيم والمفاهيم” و”العلاقات والتقاليد”. هذا التمرد ستحمله أجيال فتية لا تستطيع العودة إلى الوراء. رأينا بالملموس أولئك الذين/اللواتي عبّروا/عبّرن عن “شخصيتهم الفردية” بوجه “القيم البطريركية” و”المنظومة الذكورية” في الشوارع والساحات. غناء للحرية والكرامة. هتاف لحقوق الإنسان والمواطَنة. نداء للديمقراطية والعدالة. نشيد للمساواة بين جميع الأعراق والمذاهب. كل ذلك لن يكون صرخة في وادٍ ولا ريشة في مهب الريح مهما يبعد المنال. ليس هذا تفاؤلًا مُضلِلًا ولا أضغاث أحلام. على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين اشتكت النخب الثقافية والسياسية السورية من أنها ما تزال قشرة رقيقة وبقعة صغيرة في المجتمع. وأن أحاديثهم عن الحرية والديمقراطية والعدالة في الغرف المغلقة لم يخترق جدرانها ليصل إلى آذان الناس. الناس تجاوزوا نخبهم وعبروا الشوارع والساحات وصدحت أصواتهم في فضاء مفتوح. ذلك لن يذهب هباءً منثورًا. وسيكون له مستقبل تحمله أجيال متوالدة.

  • Social Links:

Leave a Reply