في رحيل الأديب فاضل السباعي.. عن الزيف والأصالة والحياة

في رحيل الأديب فاضل السباعي.. عن الزيف والأصالة والحياة

عربي بوست – محمد علاء الدين

(يا الله.. لقد أتعبتني أوجاع الجسد وصروف الحياة.. فخذني إليك يا الله).

كانت تلك الجملة أعلاه من أواخر العبارات التي أطل بها الراحل، قبل أكثر من شهر، عبر صفحته على موقع فيسبوك الذي اتخذ منه لسنوات وسيلة ومنبراً للتعبير عن أحواله ومواقفه. لكنه حفل في العامين الأخيرين بمعاناته الصحية المتكررة والمتساوقة مع اشتداد علوِّ صوته في إدانته لنظام الإجرام، دون مواربة. على الرغم من وجوده تحت سطوته، في بيته القريب من قصر المهاجرين، إثر عودته قبل خمس سنوات من فلوريدا في الولايات المتحدة إلى دمشق، غير مبال بكل المخاطر المحيقة به، ومختاراً أن تكون مثواه الأخير، إلى أن رحل يوم الأربعاء الماضي طاوياً رحلة واحدٍ وتسعين عاماً من الحياة، أمضى أكثر من ثلثيها في ميدان الكلمة، مصدراً عشرات الكتب في فنون الرواية والقصة والدراسة والمقالة. وتاركاً ما لا يقل عنها من مخطوطات تزدحم به أدراج مكتبه ورفوفه، بعد مناداة طالت لمن يسعفه على إبصارها النور في زمن ساد فيه الظلام سوريا وعاصمتها، التي أحبَّ واختارها مثوىً ومقاماً أبدياً، دمشق.

العائلة والمولد والنشأة

تعود جذور عائلته، السباعي إلى المغرب العربي، كما يؤكد الراحل في أكثر من مقال وحديث، استوطن أحد فروعها مدينة حمص، ومنها جاء جده إلى حلب ليختارها موطناً في القرن التاسع عشر، حيث اشترى بيتاً في زقاق الزهراوي الكائن في الحي المعروف خلف الجامع الأموي. وهو المنزل الذي ولد فيه الراحل وثمانية عشر من الأخوة والأخوات، أشقاء وغير أشقاء، من زواجين لوالده أبوالسعود السباعي. يروي الراحل أن والده تأخر في تسجيل مولده حتى موعد دخوله المدرسة، فسجله مع ثلاثة من إخوته بوقت واحد واختار ميلادهم من الذاكرة مقارباً أعمارهم، فكان تاريخ ولادة فاضل السباعي كما دُوِّن في 31/10/1929. أمضى الراحل طفولته ومرحلة الدراسة الابتدائية في ذلك الحي القديم الذي سيتبدى في غير قليل من كتاباته، ثم انتقل مع الأسرة إلى حي الجميلية حتى حيازته الشهادة الثانوية 1950 ليسافر بعدها إلى مصر ويدرس الحقوق في جامعة الملك فؤاد (القاهرة) ليتخرج عام 1954 ويعود إلى حلب مباشراً العمل في سلك المحاماة سنوات قلائل.

قبل مغادرته إلى مصر تزوج فاضل السباعي من (زليخة كيالي) وهي الشقيقة الكبرى للفنان التشكيلي الشهير (لؤي كيالي)، ولعل ذلك ما أثر على توجهات ابنتيه (سهير وخلود) في دراسة الفن واحترافه، على غير ما كان من توجه الكبرى (سوزان) وشقيقها الأصغر (فراس) واختيارهما اختصاصاً مغايراً مع حبهما وتذوقهما للأدب والفن.

مسيرة الإبداع والتأليف

عمل السباعي بعد عودته من مصر لأربع سنوات في سلكي المحاماة والتدريس، قبل أن يدخل السلك الوظيفي لوزارة الشؤون الاجتماعية بادئاً في مدينة مولده حلب قبل مغادرتها في الستينات إلى دمشق حيث تولى رئاسة قسم الإحصاء، لينتقل بعدها إلى وظيفة إدارية في التعليم العالي إلى أن كانت استقالته وتقاعده المبكر. استقالة جاءت بطلب منه عام 1982، بعدما وجد فيها من القيود ما يعيق حريته الشخصية والإبداعية، ليتفرغ لأعماله الأدبية مطلقاً دار نشره الخاصة (إشبيلية) عام 1987.

موهبته الأدبية برزت خلال مرحلة دراسته الثانوية ومازج خلالها بين الشعر والقصة والمقالة. لكن دخوله الحقيقي ميدان الكتابة والنشر كان مع عمله في المحاماة واستلهامه موضوعات من معاناة الناس ومظالمهم، وقد حكم بالسجن 10 أيام بعد بث تمثيلية من تأليفه في إذاعة حلب 1957 لتكون بداية لعلاقة غير ودية مع جميع السلطات في البلاد. وليبدأ مشوار أعماله المطبوعة من قصص وروايات، فله في الرواية مطبوعاً: ثم أزهر الحزن (1963)، ثريا  (1963)، رياح كانون (1968)، التب (1992). ومن المجموعات القصصية: الشوق واللقاء (1958)، ضيف من الشرق (1959) وأعيد نشرها بعنوان: الظمأ والينبوع (1964)، مواطن أمام القضاء (1959)، الليلة الأخيرة (1961)، نجوم لا تحصى (1962)، حياة جديدة (1964)، حزن حتى الموت (1975)، رحلة حنان (1975)، الابتسام في الأيّام الصعبة (1983)، الألم على نار هادئة (1982)، اعترافات ناس طيّبين (1990).

أما في مجال الدراسة والسيرة فأصدر أكثر من 10 كتب تناولت سيرة عدد من أبطال التاريخ العربي بماضيه ومعاصره وكتاب عن رحلة إلى المغرب. وبعد تأسيسه لدار النشر أصدر سلسلة (شهرزاد 21) وهي خاصة بالقصة للصغار واليافعين، وسلسلة (الكتاب الأندلسي) مبدياً اهتماماً بالتاريخ الأندلسي وإشراقاته من منظور الدارسين من إسبان.

ترجمت بعض أعماله وقصصه إلى عديد من اللغات كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية والروسية والبولونية والسويدية والفارسية والتركية. وقدمت عن أدبه عدة أطروحات جامعية (ماجستير ودكتوراه) بأكثر من لغة أجنبية وعربية، فيما بقيت أطروحة وحيدة في وطنه سورية متعثرة بسبب علاقته غير الودية مع السلطة.

تضادّ مع السلطة

لم يكن الاديب الراحل فاضل السباعي من المشتغلين يوماً بالسياسة أو العابئين بتحزبات، تشهد له بذلك مراحل حياته المديدة التي اشتملت واعية على عهدي الاستعمار والاستقلال، والتنافسات الحزبية التقليدية والمستجدة، وتبدلات الحكم بين ديمقراطيات ناهضة وديكتاتوريات عسكرية فطائفية. كان موقفه منذ بدء تشكل الوعي ميالاً للدفاع عن مثل عليا في الحياة وجمالياتها الجوهرية بعيداً عن الاصطفاف خلف شعارات زائفة ترفعها الأحزاب والأنظمة. وهو ما جعله في موقف تضاد معها، وعلاقة غير ودية، كانت تتزايد بمرور الأيام وترسيخ تلك الأنظمة سطوتها لتتبدى أكثر في المرحلة الأسدية من حكم سوريا عبر 50 عاماً.

لم يكن الراحل، وكما أسلفنا، مناضلاً سياسياً،  ولم يرفع شعارات مضادة بقدر ما كان يكشف من خلال الكلمة الأدبية زيفاً ومظالم تحت شعاراتها الساترة لممارسات مستبدة، وإن اضطر لترميز وتورية. لكن ذلك لم يمنع سلطات الأسد الأب من اعتقاله فور انتهاء لقاء له مع طلاب كلية الآداب بجامعة حلب 1980 للحديث عن أدبه والذي ألقى فيه قصته (الأشباح) ليتم اقتياده مخفوراً إلى دمشق ويمضي أياماً في زنزانة باردة في عز الشتاء، تزايدت بعدها مضايقات وظيفية وعائلية (سنعود لها)، لعلها كانت السبب في تعجله تقاعداً مبكراً من وظيفته تجنباً لمزيد من الاحتكاك والمكائد.

لعل أكثر ما يتبدى من تلك العلاقة مع السلطة محاولاتها وزبانيتها تجاهله،  على الرغم من كونه عضواً مؤسساً لاتحاد الكتاب العرب ومقرراً لستَّ دورات في لجنة القصة والرواية، نراه في خلو معظم مطبوعاتها ودورياتها ودراساتها وأنشطتها من اسمه الذي كان يشهد باضطراد انتشاراً عربياً وترجمات للغات متعددة، ومحاولات التهميش المقصودة، بل والتغييب والتي وصلت أقصاها الآن بتجاهل ذكر وفاته في صحفه، وحتى في أخبار الموقع الرسمي لاتحاد الكتاب الذي كان من مؤسسيه، فيما ذهب الرئيس السابق لذلك الاتحاد لنشر الخبر على صفحته الشخصية، معلناً أن قطيعة تامة وقعت بينهما نتيجة تباين المواقف تجاه ما حدث في الوطن!

كل ذلك التجاهل الرسمي من المنظومة الحاكمة ووسائلها، لم يمنع أن يكون خبر رحيل فاضل السباعي، ونعيه والترحم عليه والإشادة بمناقبه، خبراً أول حفلت به مواقع التواصل بين السوريين بمن فيهم القابعين تحت سطوة النظام، بل وكان صنوه الشاعر (شوقي بغدادي) الذي يزيده عمراً بسنة، وعانى أكثر منه من اعتقالات ومضايقات، أول الراثين له بهذه القصيدة:

السباق الطويل: إلى روح فاضل السباعي

وداعاً

لماذا سبقت الرفاق وأنت الفضيلْ

سآتي لبيتك أسأل عنك

فإن فتحوا سأقول لهم إنه لم يمتْ

إنه ساكنٌ في فؤادي وفي ذكرياتي

فكيف استطاع الرحيلْ؟!

وكأن اتفاقاً عقدناه أن نلتقي

ثم نمضي معاً في السباق الطويلْ

لا تخف لاحقٌ بك بعد قليل

مخطوطات

كان الراحل في سنواته الخمس الأخيرة التي عاد بها وحيداً إلى دمشق، وعلى الرغم من بعض سلواه أحياناً في تلك الوحدة بأحبة ومعجبين ومعجبات من أجيال مختلفة حفلت صفحته بصور زياراتهم وحفاوته بمآنساتهم الرحيمة والودودة، دائم التخوف من ضياع مخطوطات وأعمال ما زالت بحاجة لمراجعات قبل الطبع الذي عجز عنه في سنواته الأخيرة مع تزايد أمراض الشيخوخة. راسلته قبل أشهر وكتبت معلقاً على أحد منشوراته، مبدياً كل استعداد للعمل تطوعاً على حفظها وتقديم ما يرغب من جهد في سبيل نشرها مستقبلاً وبما يحفظ كل حقوقه، لكنه أخبرني بأنها تحتاج لجهود كبيرة من مراجعات وتنضيد وسواه وأنها كثيرة موزعة بما يقرب من 200 إضبارة. وهو ما يلقي بكثير من العبء على ابنته (خلود) المتبقية في دمشق وعلى بقية العائلة والمخلصين. فيما علمت وعبر تواصل خاص بعد وفاته مع الزميل الصحفي (سعد فنصة) المقيم في الولايات المتحدة أن مخطوط رواية ناجزة وجاهزة للراحل بعنوان (قمر لا يغيب) بحوزته، وأن الراحل أوكله رسمياً بطباعتها ونشرها لكن ظروف انتشار مرض (كورونا) وتداعياته حالت دون ذلك.

بعض من خصوصية

قابلت الراحل شخصياً أول مرة مطلع التسعينات، مع بدء عملي مذيعاً، في غرفة المذيعين في مبنى الإذاعة والتلفزيون بدمشق. يومها لم يكن ضيفي لكنه، وفي انشغال مضيفته بتحضير لقائها، كانت فرصة لتجاذب الحديث ثم خصوصية همس حين أشرت إلى ما مُنع من نشره محلياً وما يمارس ضده بعد حادثة اعتقاله بجامعة حلب، فأسرَّ لي بما يلجأ النظام إليه من أساليب ضغط يتفنن بها كمنع ابنه من التقدم لامتحانات مصيرية بدعوى الاستدعاء لتحقيق وسوى ذلك من ضغوط ومضايقات له ولأسرته. نمت بيننا ثقة منذ ذلك اللقاء وما توانى بعدها عن دعوة لاستضافة في برنامج لي، كان آخرها في حلب 2003 وعبر الفضائية السورية لمناقشة مسلسل “البيوت أسرار” المأخوذ عن روايته الأولى “ثم أزهر الحزن”.

وعلى الرغم من تحفظاته على عمل الكاتبة ذات التجربة الدرامية الأولى وعدم معرفتها بالبيئة واستجابة المخرج لضغوط إنتاجية حولت غير قليل من المشاهد إلى إعلانات مباشرة لأماكن وبضائع في غير مكانها ما أساء لعمله، فإنه خلال اللقاء وبما عرف عنه من دماثة خلق،  اكتفى بإشارة عابرة، مثنياً على جهود المخلصين، معتبراً أن رؤية المخرج والكاتب الدرامي للعمل الروائي تبقى مسؤولية خاصة بهما. أرسل لي بعدها من دمشق نسخاً من جميع ما عنده من مطبوع أعماله بإهداء غير متكرر العبارات و لم ينقطع بعدها التواصل بيننا  على الرغم من عدم لقائنا الشخصي مجدداً، فكان التواصل الهاتفي ثم عبر وسائل التواصل المستحدثة خاصة بعد انطلاق الثورة السورية، وما زال بريدي حافلاً بمحادثات معه شاهدة على موقفه الحر والمبدئي من نظام الإجرام برأسه ومنظومته، الموقف الذي لم يكن مستتراً وهو تحت سطوتهم بعد عودته من أمريكا وهو ما كنت وسواي حذروا منه لكنه مضى فيما عزم عليه غير آبه، وهو ما يدعوني لأشهد له به عن معرفة، وليس بسبب موقف رثاء وذكر محاسن، بأنه وعلى ما عرف عنه من رقة في المظهر والتصرف، وابتعاد عن كل مظاهر الحدة والعنف لفظاً وسلوكا، فإنه بالمقابل كان شديد العناد والتمترس دفاعاً عن ثوابته وقيمه ويجابه كل الضغوط بصبر وصلابة ونبل. وما زال ذاك الحوار الذي دار بيننا ذات صفاء أكثر حضوراً و تأثيراً في الوجدان، سألته في آخر لقاء حيّ بيننا في حلب بعد انتهاء تلك الندوة ونحن نرشف قهوتنا منفردين وقد أخذه المكان إلى ذكريات الطفولة وعذوبتها على رغم معاناته وأسرته في تلك المرحلة المبكرة:

– كيف تفسر ادعاء هؤلاء المتسلطين ومن يواليهم بأنك من منابت البرجوازية ومصالحها، فيما أنت من منابت معاناة وأصالة.

أجابني بتلقائية بليغة:

– ذاك هو السبب يا صديقي.. هؤلاء الطارئون زائفون كاذبون بشعاراتهم، وهم لا يحاربون لزيفهم غير الأصالة.

هو ذاك أيها الفاضل، الراحل جسداً، والباقي قيمةً ومعنىً وإثراءَ وجدان.. هم طارئون بزيفهم وإن امتد لهم زمن، ويبقى راسخاً، في الأرض والأجيال، جوهر الأصالة.

  • Social Links:

Leave a Reply