الصراع على مديح الأسد

الصراع على مديح الأسد

علي سفر – المدن:

كان د.رياض سليمان عواد، معروفاً للعديد من مدراء المؤسسات العامة في سوريا، زمن الأسد الأب. فهذا الطبيب الذي ولد لشاعر من مدينة سلمية في محافظة حماه، شق طريق شهرته بعيداً من تخصصه في الطب النفسي، حيث أدمن كتابة المؤلفات عن حافظ الأسد!

وإذا قيض للمرء أن يبحث عن هذه الإصدارات، سيجد بعضاً منها في مواقع بيع الكتب في الإنترنت، ومنها على سبيل المثال لا الحصر “حركة التاريخ في فكر حافظ الأسد” و”القائد المفكر حافظ الأسد والمشروع التنموي” و”حافظ الأسد والسلام في الشرق الأوسط” و”قراءة جديدة في فكر القائد الأسد” وغيرها.

لقد تكفل الرجل بتسويق كتبه بنفسه، فكان يجول على الإدارات طالباً من مدرائها شراء نسخ منها لمكتباتهم الشخصية، وبالتأكيد كان يرحب بمبادرة أي منهم لفرض شرائها على الموظفين!

صنع رياض سليمان عواد، شهرته الفتاكة، بنفسه، بين السوريين، حتى باتوا يتجنبون لقاءه، لكن امتداداته لن تتوقف عند حدود الأسد، بل سنعثر بين مؤلفاته على كتاب مخصص لمديح القائد الكوري كيم جونغ إيل، يحمل عنوان “مجد كوريا”، قبل أن نصل إلى كتاب وحيد عن اختصاصه المهني بعنوان “الانحرافات الجنسية والاضطرابات النفسية”، ةلا بأس أن نمرّ بكتاب يحمل عنواناً حيادياً هو “الديموقراطية والسلام”!

لم نعد نسمع عن مؤلفات جديدة لرياض، منذ موت الأسد الأب. وتضاءلت أخبار المؤلف بعدما ترك البلاد منذ زمن، ومع الوقت تلاشت شهرته، أو بالأحرى شهرة مؤلفاته، رغم الجهود الكبيرة التي بذلها في سبيل تأبيد حضورها، على غرار موضوعها وشعاره “إلى الأبد يا حافظ الأسد”! وسيبقى فضاء تأريخ حياة “المؤبّد” محصوراً في كاتبين غربيين، هما الفرنسي لوسيان بيترلان، الذي كتب “حافظ الأسد سيرة مناضل”، والبريطاني باتريك سيل الذي اشتهر عالمياً من خلال تأريخه لسوريا في كتابه الشهير “الصراع على سوريا” وأيضاً كتابه “الأسد، الصراع على الشرق الأوسط”!

مأساة رياض سليمان عواد، قد تنبع من سطوة المثل الشعبي القائل “كل فرنجي برنجي”، حيث لا بد أن يأتي الغرباء ليستحوذوا على الحصة الأكبر من الشهرة، لكنها قد تأتي من زاوية أخرى. فالرجل كان صادقاً في صناعة مؤلفات المديح بالقادة والزعماء. ففي كتبه ثمة جملة عارمة النقاء في تسجيل الإنجازات والأفكار، رغم أنه لم يلتق بمن مدحهم أبداً! بينما سيلعب المؤلفان الغربيان اللذان التقيا الأسد، ساعات وساعات، قفزاتهما البهلوانية في نسج الصفات الحميدة، وإسباغ الهالات القدسية على هامش سير معارك سياسية، ومؤامرات، وخدع، وقع فيها الزعيم القائد، لكنها ستكسبه الحكمة والثقل، وسيتم دمج بطء حركته بسبب التقدم في العمر والمرض مع السياق، ليصبح اضطراره الصبر على قضاء الحاجة جزءاً من القوة، والقدرة على التأثير في خصومه خلال المفاوضات!

وهكذا سيرى كثيرون من عامة الشعب والمثقفين الممالئين للنظام أن مدائحهما موضوعية، وأن في كلامهما كثيراً من الصدق الذي يعبّر عن شمائل القائد الذي صار “خالداً” في الآلة الإعلامية السورية التابعة للنظام.

مراجعة ما احتواه كتاب بيترلان، رغم لغته المنمقة المناسبة لتسويق الأسد غربياً من بوابة البلاغة في السيرة الذاتية، لن تبعده كثيراً عن أي كتاب آخر جرى صنعه من أجل “حفنة من الدولارات”. وفي المقابل، سيبرز كتاب باتريك سيل الأخير، بوصفه الأهم في مجاله. ورغم ذلك، لن يعجز العقل النقدي عن كشف ما يعتوره من مشاكل على المستوى التأليفي، فنقرأ للكاتب الراحل جوزيف سماحة نقداً دقيقاً لمحتويات السيرة التي يقترحها سيل لواحد من أشرس ديكتاتوريي العالم، فيقول: “إنّ التدقيق في القراءة يقود إلى استنتاجٍ من نوع آخر. جُمل المديح ترصّع الكتاب لكنّها لا تجد تعبيراً عن نفسها في سياقه. لا بل إنّ السياق يقود، غالب الأحيان، إلى استنتاجات معاكسة”!

وبعد مطالعة لكثير من التفاصيل، يصل بنا سماحة إلى خلل كبير وقع فيه سيل فيقول: “ليس طبيعياً أن نقرأ كتاباً من 900 صفحة عن رئيس وبلد، من دون أن نعرف فعلاً، ماذا صنع الرئيس في بلده. لم يتعامل سيل مع سورية بصفتها وطناً مثل سائر الأوطان، ومع السوريين بصفتهم شعباً مثل سائر الشعوب. وإذا استثنينا صفحات قليلة تطرّق فيها الكاتب إلى أحوال سورية في مجالات الصناعة والزراعة والخدمات والسياحة والإنتاج والتوزيع والضمانات الاجتماعية والتعليم (وهو تطرّق إليها في معرض الإشارة غالباً إلى الفساد)، نكون أمام كتاب لا يتحدّث في الواقع، عن سورية”!

لكن، علينا كقراء أن نسأل بدورنا سماحة ذاته؛ وما حاجة باتريك سيل لأن يحكي عن سوريا والسوريين؟ ألم تقل إن الكتاب يقع في حقل المديح، وليس في حقل الدراسات الموضوعية؟ وطالما أن صاحبه قد أسبغ كل الصفات على ممدوحه من مثل أنه “وطنيّ، وقوميّ، وديموقراطيّ، ومقاتل، واستراتيجي، من الطراز الأوّل، ومثقّف كبير، ووحدويّ، واشتراكيّ، ومحبّ لبلاده وشعبه، وحريص على الفلسطينيين واللبنانيين”، ألا تجد أن المؤلف لم يُرد أن يحتكر صنعة المديح كلها، بل أخذ منها ما يناسبه وترك لبعض السوريين المتبارين في صناعة المعلقات التبجيلية، والمتنافسين على التزلف للقائد، أن يقوموا بالحديث عن سوريا، ولكن من خلال رمزهم المُفدى؟!

لقد كتب هؤلاء في الأسد، ما لم يُقَل في أي زعيم سابق، كما أنهم تمحصوا في خطبه وأفكاره التي كانت تطبع مرة كل سنة، وتوزع على كل المدارس والجامعات ومقرات الشرطة والجيش وفروع الأمن والنقابات العمالية واتحادات الفلاحين والحرفيين وغيرها، فوجدوا أن فكره لم يترك شاردة أو واردة من دون أن ينظر فيها. ففي تلك المجلدات، يعثر المربّي على القيم التربوية، والإداري على القيم الإدارية، وصولاً إلى أحاديث ذات شأن عن الأطفال والمرأة وغير ذلك! وهكذا، لن تكون سوريا غائبة، ولن يحتاج باتريك سيل لأن يترجل عن القمم العالية، ليرى ما يجري في الأودية، وكيف يستنقع الماء في الحفر.

وتقاسمُ حصص المدائح في الأسد الأب، لم يكن حكراً على الغربيين، والمترزقين من السوريين، بل إننا نعثر على نسق آخر هو المؤلفات التي يكتبها رجالاته ومسؤولوه، فلا نستغرب حين نطالع عناوين مؤلفات لوزير الدفاع الأسبق، مصطفى طلاس، أو وزيرة الثقافة السابقة ونائب الأسد الابن حالياً، نجاح العطار، أو صفوان قدسي، أمين عام حزب الاتحاد الاشتراكي العربي المنافس نظرياً، الشريك في الجبهة الوطنية التقدمية نظرياً أيضاً، الملتحق به والتابع له ذيلياً على أرض الواقع! كما أنه من الطبيعي أن نتعثر بمؤلفات لكتّاب عرب، مازالوا حتى اليوم يصدرون كتباً عن الأسد الأب. فإما أنهم لا يعرفون أنه قد مات، وإما أن يكونوا من القلة النابهة التي تعرف أن “سوريا ما زالت تُحكم من قبره”، فيكتبون عنه، لا عن ابنه!

لقد دُبجت كتبٌ كثيرة عن سيرة العائلة. فمن “رثائيات الأم الكبيرة: كلمات وقصائد في رثاء السيدة ناعسة”، إلى “باسل حافظ الأسد: منارة الأجيال”، مروراً بعشرات المؤلفات لكتّاب مغمورين وآخرين أشهر من سابقيهم.

ورغم أن الأسد الابن لم يكن مهتماً، ولفترة طويلة، بالفخفخة الإعلامية، إلا أن الحظ أصابه قليلاً، فكُتبت عنه بعض المؤلفات هنا وهناك، لكن اندلاع الثورة السورية، وكذلك الاندفاع الكاسح للمؤلفات التي تناولت كل المسكوت عنه في تاريخ سوريا خلال فترة حكم العائلة، أفسحا المجال لكتب مدائحية من نوع آخر، تحاول أن تسند خياره في الحل الأمني والعسكري، وتتخفى وراء التأريخ للحدث الذي بات اسمه فيها “الحرب على سوريا”، كما في كتاب نبيل صالح “يوميات الحرب على سورية”، أو محاولة إكساب الأسد موقعاً كيانياً، بين الدولة والنظام، حيث لم يعد هناك مسافة بينه وبينهما. وهل ثمة مديح أفضل من هذا في كتاب سامي كليب الرديء “الأسد بين الرحيل والتدمير الممنهج: الحرب السورية بالوثائق”؟!

  • Social Links:

Leave a Reply