الأغباني إبداع سوري مهدد بالفناء

الأغباني إبداع سوري مهدد بالفناء

بثينة الخليل – الرافد

نسيج سوري توشيه زخارف بخيوط من حرير أو قصب، وبحس مرهف وخبرة متوارثة عبر الأجيال من قبل الدومانيات (نساء مدينة دوما الملاصقة لمدينة دمشق، والراقعة في غوطة دمشق الشرقية).

هذا النسيج الذي يسمى”الأغباني” يعد من مفاخر دمشق، السوق التاريخي للمنتجات، ودوما وغوطة دمشق، مركز أمهر الحرفيين والعاملين في صناعة النسيج، فهاتان المدينتان كما ورد في العديد من المصادر، مركزين رئيسين لصناعة وتسويق هذا النسيج الذي يصنف من التراث غير المادي السوري.

تاريخ الأغباني:

تقول بعض المصادر إن “الأغباني” كلمة تركية الأصل وتعني باللغة العربية الزخرفة على القماش “زركشة”. ولا يوجد دراسات مفصلة ودقيقة عن تاريخ ومكان نشوء هذه الصناعة، غير أنه تم توثيق وجودها في المجتمع السوري ومدينة دمشق تحديداً. حيث كان الأغباني يدخل في تفاصيلها اليومية مثل الأزياء والمنزلة الاجتماعية والتنظيم الحرفي، فعلى سبيل المثال يوثق كتاب “the Art and Crafts of Syria” استعمال الأغباني ضمن أزياء الرجال في الإمبراطورية العثمانية، إضافة إلى فستان العروس، ويعرض صور لأزياء من سورية مؤرخة بين عامي 1870 و 1880، ولم توثق صور الأزياء التي طُرزت بالأغباني بأي تاريخ.

كما ذُكرالأغباني في كتاب “حديث دمشقي”، وهو كتاب مذكرات بقلم المحامي الشهير “نجاة قصاب حسن” (1920 – 1997)، في الفترة الواقعة بين 1884-  1983، ففي حديثه عن التنظيم الحرفي القديم يقول: “الصانع لا يستقل إلا متى أذن له شيخ الكار بذلك، بعد فحص يرى فيه مدى براعته وقدرته على الاستقلال، وعندها يلبسه عمامة الأغباني، دليل على اكتمال قدرته، أي إنه يحمل شهادة مرئية على رأسه تُقدم له في احتفال”.

ويتابع الكاتب سرد رواية والده الذي اضطر إلى تحمل مسؤولية عائلته بعد وفاة والده، وقد تلا حادثة الوفاة بمدة قصيرة، ما يعرف بالسفر برلك، أي الحرب العالمية الأولى 1914 – 1918 وفي هذا دليل آخر على وجود نظام حرفي في سورية في الفترة العثمانية، تتناقل فيه الحرف ضمن تراتبية : الأجير – الصانع – المعلم – شيخ الكار. ويعود هذا النظام إلى مجموعة القوانين التي سنها السلطان سليمان القانوني 1520-1566 لتنظيم المهن، فيكون من المؤكد أن هذه الصناعة وجدت بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، وعلى الأرجح ظهرت في القرن الثامن عشر.

ماهي مراحل تحضير الأغباني؟

يمر الأغباني بعدة مراحل قبل أن يصل إلى الشكل النهائي حيث تبدأ مراحل صناعته كما يقول التاجر الدمشقي “أبو بسام”، بتحضير الخيوط قبل نسجها ثم صبغها بالألوان المطلوبة من قبل “المزايكي” ثم ّ تصميغها بالنشاء، ثم إرسالها إلى “الملقي” الذي يهيئ الخيوط للحائك ليباشر الحائك النسيج على النول.

ويتابع “أبو بسام” بأن هذه المرحلة تليها عملية طبع الزخارف على القماش، وتكون الرسومات عبارةً عن أشكال رسوم نباتية وزخارف عربية محفورة على قوالب خشبية خاصة تسمى بالرش والطلس والضامة وأبو الحجب ووقف القاع وغيرها من الرسومات، حيث يطبع الطباع الرسومات عدة مرات على قطعة النسيج ثم يرسل القماش إلى “الشغالات” ليقمن بعملية التطريز بأسلوب “الغل”، إذ يشد القماش على طارة خشبية دائرية، ثم يُشرعن في تنفيذ الرسم باستعمال خيطان من حرير وإبر خاصة، مشيراً أنه مع تطور عملية الإنتاج استبدلت ماكينة تشبه ماكينة الخياطة المنزلية بالطارة الخشبية.

ويعدد “أبو بسام” المراحل التي يمر بها الأغباني خلال صناعته وهي، الطباعة والتطريز والتنظيف من علامات القوالب، إضافة إلى الكي ومن ثم البيع في أسواق مدينة دمشق القديمة.

وعن تواجد ماكينات الأغباني في كل منزل يقول الشاب الدوماني “أكرم أبو الفوز”، أنه من المستحيل أن تدخل إلى منزل في مدينة دوما إلا وماكينة الأغباني هي من مقتنيات صاحب المنزل، مشيراً إلى أنه لابد من سماع صوت الماكينات تعلو في كل منزل دوماني قبل صلاة الفجر.

وعن سبب شهرة نساء دوما بهذه الحرفة يقول “أبو الفوز” أن السبب هو أن المرأة في المجتمع الدوماني تفضل العمل في مملكتها، أي في المنزل على العمل خارجه، إضافة إلى ما تحتاجه هذه الصنعة من حس مرهف، ورقيق. ويضيف : لايوجد رجل يعمل في  هذه الحرفة، عمل الرجال مجرد مكمل لصناعة الأغباني من طباعة وصيانة لماكينات التطريز”.

وتؤكد سيدة دومانية أن الصناعة كانت جزءً من العادات والتقاليد وخصوصا عند العوائل الكادحة. حيث كان من عادات الزواج أن يجهز أهل العروس بناتهم عند الزواج بجهاز يتضمن بعض الأثاث المنزلي وأدوات المطبخ وثياب العروس ما يتطلب مبلغا غير قليل من المال، فكانت الأمهات تبدأن بتعليم بناتهن صنعة الأغباني منذ صغرهن، في عمر ثمان سنوات تقريباً، لادخار المال من أجل شراء جهاز البنت عندما يحين موعد تزويجها، فأدى ذلك إلى أن تصبح صناعة الأغباني جزءً من النمط التراثي والثقافي للمنطقة، حيث من النادر أن تجد منزلا لا يحوي ماكينة أغباني وجميع نساء دوما تقريبا يتقن هذا النمط من التطريز.

تأثير الثورة على هذه الحرفة

تُعد مدينة دوما من أوائل المدن التي شاركت في الثورة عام 2011 ، ومن المدن التي خرجت مبكراً عن سيطرة النظام السوري وأصبحت تحت سيطرة قوى الثورة والمعارضة.

وشاركت النساء الدومانيات بالمظاهرات والنشاطات المدنية، ودفعن ثمناً غالياً نتيجة القصف الوحشي من قبل قوات نظام الأسد والمليشيات الإيرانية والغزاة الروس.

عدد كبير من أهالي دوما نزحوا إلى مدينة دمشق، وعندها قامت مجموعة من العاملات اللواتي نزحن إلى دمشق في حمل رؤوس ماكيناتهم، وخرجن بها تحت القصف، بينما لم تستطع أخريات من حملها معها، فكان البديل هو الاعتماد على الماكينات الفرنسية المستعملة الموجودة في مدينة دمشق التي تُمد بقطع الغيارعند الحاجة، ما أضاف صعوبات جمة على بعض العاملات تتمثل في التضييق الأمني في الحصول على موافقة أمنية لاستئجار شقق في دمشق، وفي شكوى الجيران من صوت الآلات وهو ماكان أحيانا يؤدي إلى طرد العائلة بالكامل.

أما عن النساء اللواتي لم يخرجن من دوما تقول إحدى النساء الدومانيات، أنه وبسبب المظاهرات التي خرجت بدوما والرد الشنيع الذي قام به النظام السوري عليها، خسرت الكثير منهن معيلهن بسبب الموت أو الاعتقال أو الانضمام إلى الثوار فهذه الأسباب كانت ملحة لتبحث النساء عن عمل فماكان عليهن سوى العمل في صناعة الأغباني مرة أخرى فحاولوا تأمين المواد اللازمة بصعوبة من قماش وخيوط ليكون دورهن التطريز.

وتضيف إحدى النساء الدومانيات “استهجنت النساء فكرة العودة للعمل في تطريز الأغباني، إلا أني أصررت عليهن أن يُعدن تأهيل ماكينات التطريز بنقعها بالكاز ليحلّ الصدأ، على أن أجلب لهن المواد اللازمة”.

أما عن صناع القوالب فقد باتوا قلة قليلة في دمشق وجرى التوصل إلى معلومات عن القوالب التي قال بعضهم إنها تبقى صالحة للاستعمال لسنتين أو ثلاث بينما قال آخرون إنها تبقى لعشر سنوات ثم تباع قطعا عادية للسياح الأجانب إن وجد سياح أصلا.

  • Social Links:

Leave a Reply