كيف أصبحت العلمانية سيّئة السمعة عربيًا؟!

كيف أصبحت العلمانية سيّئة السمعة عربيًا؟!

أحمد الرمح _ مركز حرمون

بالرغم من القهر والحاجة ومأساة التشرد واللجوء التي يعانيها السوريون، لفشل الطرفين: المعارضة والنظام، في إيصال المجتمع إلى برّ الأمان وإنهاء هذه المأساة المستمرة التي أهلكت الحرث والنسل؛ نجد أن هناك صراعًا داخل أجنحة المعارضة السورية نفسها، بين تياريَن: الأول يريد سورية بعد الانتقال السياسي دولة إسلاموية، متغافلًا عن وجود بقية المكونات السورية غير الإسلامية، رافعًا شعاره المفخّخ: “الإسلام هو الحل”، الدال على رغبته في الاستحواذ على السلطة بأي ثمن؛ والثاني يريدها دولة علمانية، مغازلًا الغرب، ولكنه فشل في أن يقدم مشروعه الوطني، باستثناء مناكفة هنا وهناك، مكتفيًا بشعار سيئ السمعة عربيًا: “العلمانية هي الحل”.

لماذا العلمانية سيئة السمعة عربيًا؟

بُعَيد سقوط الخلافة الإسلامية، مطلع القرن العشرين، أسهم فريقان في تلويث سمعة العلمانية: الفريق الأول: “اليسارويون” العرب الذين أرادوا في موجة انتشار الشيوعية أن يجعلوا من العلمانية حصان طروادة، ليدخلوا به مجتمعاتنا وينشروا الإلحاد السوفيتي؛ فقدموها كدين بديل ضدّ الإسلام؛ والفريق الثاني هم دعاة الإسلام السياسي الذين يعملون للعودة إلى السلطة، من خلال أسلمة المجتمع، فأخذ دعاته وكتَّابه يشوهون المراد من العلمانية ويشيطنون الغرب، وقد قال الدكتور محمد عمارة (أحد رموز الإسلام السياسي) غير مرة، في لقاءات متلفزة وفي كتاباته: “إن العلمانية تعني قطع علاقة السماء بالأرض”! ولما كانت بروباغندا الصحوة الإسلامية في ذروتها، صبّت جام غضبها على العلمانية، واتهموا كل من يدعو إليها بالكفر، لمحاربته دين الله! حتى باتت العلمانية سيئة ال

ونتيجة غلوّ الفريقين؛ ظُلمت العلمانية، وتم تشويهها! وتم استغلال سوء التعريف بها من جهة، وسوء تطبيقها من جهة أخرى؛ فالفريق الأول اختبأ خلفها لنشر أيديولوجيا الإلحاد المرفوض في مجتمعاتنا؛ والفريق الثاني أيقن أن انتشار ثقافة العلمانية سيمنعه من الوصول إلى السلطة.ولذلك لا بدّ من التوقف مع المصطلح ونشأته ومراده؛ لكي يعرف أبعادَه وغاياته مَن يعارض العلمانية ولا يعرفها إلا من أفواه علمانويين نوكى أساؤوا إليها، أو إسلامويين متعصبون يروّجون بأنها كفرٌ وإلحاد!

ما العلمانية وكيف نشأت؟

مما يسيء إلى العلمانية ويشوّه سمعتها، عدم الاتفاق على تعريف محدد لها، ولذلك نقول: إنها نظامٌ وثقافة تُرسِّم الحدود بوضوح بين وظيفة الدين والدولة، وتنظّم شؤون المجتمع الدنيوية، ولا تتدخل في شؤون الإنسان الدينية. وبالضرورة، هذا يؤدي إلى استقلال السياسة والاقتصاد والبحث العلمي والفن وسنّ القوانين، دون تدخل رجال الدين في تلك المجالات، ويُعدُّ فصل السلطات الثلاثة شرطًا لتحقيقها، كما تُفصل السلطات الثلاث عن السلطة الدينية، ولا يسمح للأخيرة بالتدخل في عملها. ولا تتبنى العلمانية دينًا رسميًا للدولة، لأنها بذلك تفقد حياديتها، وتسمح للمتدين بممارسة شعائره وتحميها.

ويرفض المفكر العلماني فؤاد زكريا الجدلَ حول لفظ العلمانية، بكسر العين أو فتحها، فيقول: إن العلم بمعناه الحديث لم يظهر إلا منذ بدء التحوّل نحو انتزاع أمور الحياة من المؤسسات التي تمثل السلطة الروحية وتركيزها في يد السلطة الزمنية، والعلم بطبيعته زماني، لا يزعم لنفسه الخلود، بل إن الحقيقة الكبرى فيه هي قابليته للتصحيح ولتجاوز ذاته على الدوام، وهو أيضًا مرتبط بهذا العالم، لا يدعي معرفة أسرار غيبية أو عوالم روحانية خافية، ومن ثم فهو يفترض أن معرفتنا الدقيقة لا تنصبّ إلا على العالم الذي نعيش فيه، ونترك ما وراء هذا العالم لأنواع أخرى من المعرفة دينية، فالنظرة العلمية عالمانية بطبيعتها

لم تُعرف العلمانية، كمذهب فكري لإدارة الدولة، إلا في القرن السابع عشر، عندما تحدث عنها الفيلسوف سبينوزا الذي كان هدفه إنقاذ فهم الكتاب المقدس، من احتكار رجال الدين، وجعله مباحًا للعامة، وبذلك يتخلص المتدينون من سلطة الكنيسة ورجالها. ولكن المنهج التفكيكي لفهم الدين ودوره الذي استخدمه سبينوزا، لم يؤطر بشكل كامل. ويُعّد الكاتب البريطاني جورج هوليوك أولَ من صاغ مصطلح العلمانية (Secularism) في العام1851 في مقال له نشره في مجلة (ذي ريزونور)، إذ بيّن أنها نظام اجتماعي منفصل عن الدين، ولا يقف ضده

لكن تطبيقات العلمانية كانت سابقة لتعريف هوليوك؛ فقد طُبقت بعد نجاح الثورة الفرنسية سنة 1789، ثم أضحت العلمانية نظام الدولة الحديثة، في عهد الجمهورية الفرنسية الثالثة 1905، عندما صدر قانون يفصل الكنيسة عن الدولة. وتبنى الحكم الجمهوري في إسبانيا النظامَ العلماني للدولة، في فترة حكمه بين عامي 1868 – 1876، وهكذا بدأت العلمانية تُسبغ نظامها على الدول، وتحولت من فكرة إلى نظام دولة، يفصل السلطة السياسية عن السلطة الدينية، وكانت هذه العملية أشبه بعملية فصل (التوأم السيامي) لوعورة الطريق الذي انتهى إلى عملية طلاق بين السلطتين السياسية والدينية المتحالفتين ضد الشعب.

ثم انتقلت علمنة الدولة من الغرب إلى الشرق؛ فكانت تركيا أول دولة إسلامية تعلن تطبيق النظام العلماني، بواسطة كمال أتاتورك، لكن علمانية أتاتورك كانت علمانية خبيثة، أعلنت عداوتها للدين، ولم تفصله عن السياسة والسلطة فحسب، إنما حاربت مظاهره في الحياة كلها، فكانت التجربة الأتاتوركية بحدِّيتها سببًا في سوء سمعة العلمانية.

والدعوة إلى علمنة الدولة في مصر كانت سابقة للمشروع الأتاتوركي التركي؛ إذ شهدت ولادةَ أول حزب علماني في العام 1913، تحت مسمى الحزب العلماني المصري! الذي سرعان ما بدّل اسمه إلى اسم “حزب الوفد”، إلا أن علمنة الدولة المصرية لم تكن شبه واضحة إلا بعد ثورة يوليو 1953، لكنها علمانية خجولة نوعًا ما. وبقي الصراع العلماني الإسلامي يخبو ويلمع، باقتراب نظام الحكم المصري من التيار الإسلامي أو الابتعاد عنه.

أما في سورية، فقد أخذت الدعوة للنظام العلماني تظهر ويعلو صوتها إبان الاستعمار الفرنسي؛ ومع استيلاء حزب البعث على السلطة سنة 1963 أعلن علمانية الدولة، من دون أن تكون هناك ممارسة علمانية حقيقية، وكلما طال أمد البعث بالسلطة، مارس العلمانية المزيفة، فكانت سياسته وممارساته مسيئة إلى العلمانية ومشوهة لسمعتها.

وكذلك الحال في العراق، فعلى الرغم من أن الدولة بعد استقلالها سنة 1932أعلنت تبني العلمانية، فإنها لم تمارس إلا علمانية متوافقة مع مصلحة السلطة، ثم وصل حزب البعث في العراق إلى السلطة، وأعلن تبنيه العلمانية، لكنه كان نظامًا أحاديًا منع التعددية السياسية التي هي أهم مظاهر النظام العلماني، واستحوذ على السلطة، ومارس علمانية مزيفة، أسهمت في تشويه سمعتها، وكان لصراع البعث مع الإسلام السياسي الشيعي المتمثل بحزب الدعوة، والسنّي المتمثل بالإخوان، وفصوله “التراجيدية”، الأثر الأكبر في تشويه سمعة العلمانية من قبل الأطراف كلها، حتى سقط العراق في براثن الإسلام السياسي الشيعي الذي وصل إلى السلطة، بعد الاحتلال الأميركي 2003، وأعلن أن الإسلام دين الدولة سنة 2005

وتُعدّ تجربة حكم البعث في العراق وسورية من أهم أسباب سوء سمعة العلمانية عربيًا، لكونها تجربة تميزت بالاستبداد، إذ فرضت أيديولوجيا أحادية على المجتمع ومنعت الحياة السياسية، وقد جعل الإسلامُ السياسي مآلَ الحكم البعثي في البلدين ذريعةً لرفض العلمانية.

وتبقى التجربة البورقيبية في العلمانية هي التجربة الأفضل عربيًا، على الرغم من فرضها بالقوة على المجتمع؛ إذ أعلن الحبيب بورقيبة (الذي قاد استقلال تونس عن الاستعمار الفرنسي) أن تونس دولة علمانية، ولم يأبه بالمعارضة الإسلاموية لقرار العلمنة، واستطاع بشكل ما تقديم نموذج علماني هو أفضل نماذج العلمانية في الشرق، وتبقى عملية الإكراه على العلمانية أهمّ المآخذ على التجربة البورقيبية. لقد كانت التجربة العلمانية العربية تجربة فاشلة، إذ إنها قدمت علمانية مزيفة رسَّخَت الاستبداد وألّهت الحاكم! وأفقد ذلك العلمانيةَ طهرانية غايتها؟ وأساء إلى سمعتها عربيًا.

الصراع العلماني الإسلامي:

شهد شرقُنا البائس صراعًا إسلامويًا – علمانويًا، راوحت مراحله ما بين الحوار والمناظرة إلى الاحتراب والاغتيال، ووصل في بعض دولنا إلى حرب أهلية؟ ذهب ضحيتها آلاف الأبرياء، كما في سورية إبان صراع الإخوان المسلمين مع نظام الأسد نهاية السبعينيات، وكذلك في العراق بين البعث والإسلام السياسي.  وسبقهما الصراع في مصر على السلطة، تحت شعار صراع العلمانية والإسلام، بين نظام عبد الناصر والإخوان وتنظيم 65 الذي قاده سيد قطب، ثم الصراع مع جماعة “التكفير والهجرة” التي أسسها شكري مصطفى، حتى الجماعة الإسلامية التي أسسها ناجح إبراهيم، وقادها -فكريًا وروحيًا- عمر عبد الرحمن، وموجة اغتيالات التسعينيات! ولا يمكن أن ننسى “العشرية السوداء” في الجزائر، مطلع العام 1990 والدماء الكثيرة التي سُفكت فيها، وكذلك صراع القذافي مع الإخوان عام 1996، حيث أسهمت هذه الصراعات بين الأنظمة الحاكمة والإسلام السياسي في تشويه سمعة العلمانية عربيًا. هذه الصراعات كانت تدَّعي أنها بين العلمانية والإسلام! والحقيقة أن العلمانية والإسلام بريئان من هذا الصراع على السلطة.

هذا عن الصراع مع الدولة، ولكن في الجانب الآخر، كان هناك صراع فكري وإعلامي على شكل مناظرات بين رموز الفريقين، بعضه سابق لصراع الأنظمة مع الإسلام السياسي، ويمكن أن نقول إن الصراع لم ينقطع منذ بدأت الدعوة لتطبيق نظام علماني للدولة حتى يومنا هذا. ولعل أشهر الصراعات الفكرية في هذا الجانب كان مطلع القرن العشرين، في مناظرة على صفحات الجرائد المصرية، بين الإمام محمد عبده والمفكر أنطون فرح، وانتهى من دون نتيجة. لكن تبقى المناظرتان التي شهدتها مصر عام 1992 هما الأشهر: الأولى على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب سنة 1992، وجمعت بين فرج فودة ومحمد خلف الله عن الجانب العلماني؛ والشيخ محمد الغزالي ومرشد الإخوان مأمون الهضيبي، والدكتور محمد عمارة عن الجانب الإسلامي. أما المناظرة الثانية، فكانت في نادي نقابة المهندسين بالإسكندرية، بعد أسبوعين من الأولى، وشارك مع فودة الدكتور فؤاد زكريا، يقابلهما الدكتور محمد عمارة والدكتور محمد سليم العوا. ومن تداعيات هذه المناظرة، اغتيال الراحل فرج فودة

وشهدت سورية في هذا الجانب مناظرةً مهمةً بين الشيخ البوطي والمفكر الطيب تيزيني ([5]). كما شهد الشارع العربي، بعد ظهور الفضائيات، المناظرة الأكثر مشاهدة على قناة الجزيرة في برنامجها الشهير “الاتجاه المعاكس”، بين الشيخ يوسف القرضاوي والمفكر صادق جلال العظم. ولا يمكن أن ننسى دور السلفية المعاصرة ومشايخها، وآلتهم الإعلامية الضخمة في الإساءة إلى العلمانية وتشويه سمعتها، وتكفير الدعاة إليها، هذا التكفير الذي استغلته التنظيمات الإرهابية المتولدة من رحم السلفية المعاصرة، بتكفير وقتل واغتيال من يدعو للعلمانية، ولا سيما في سورية والعراق ([6]). وأدت كل هذه الإرهاصات إلى ولادة شعارين متنافسين، ما يزال دعاتهما مختلفين إلى حد الخصومة الدموية، وهما “الإسلام هو الحل” و”العلمانية هي الحل”؛ فما قصة هذين الشعارين؟

حرب الشعارات الإسلاموية/ العلمانوية!

من المفارقات العجيبة في ولادة العلمانية عربيًا أن أشهر الدعاة إليها كانوا من علماء وخريجي الأزهر، ولعل أبرزهم الشيخ علي عبد الرازق، من خلال كتابه الشهير “الإسلام وأصول الحكم” الصادر عام 1925، بعد أن أخذت الدعوات تتعالى مطالبة بعودة الخلافة ولو عربيًا؟ ويُعدُّ الكتاب أولَ دراسة شرعية تؤسِّس للفكرة العَلمانية داخل الوسط الإسلامي، وتقوم فكرته الرئيسة على تفسير الإسلام بما يتفق مع التطور المعاصر لشكل الدولة، وقال فيه: “رسالة النبيّ ما هي إلا رسالة روحية، ليس فيها إلا البلاغ، فرسالته ليس لإنشاء سلطة حكم… إنما دعوة دينية خالصة، والقرآن دليل على ذلك، وأما الحكومة التي أقامها الصحابة من بعده فهي حكومة دنيوية ليست من أحكام الإسلام”

وأما ثاني دعاة العلمانية، فهو الدكتور طه حسين خريج الأزهر، وظهرت دعوته في كتابه “في الشعر الجاهلي” الصادر سنة 1926، حيث دعا فيه إلى إنهاء هيمنة رجال الدين على البحث العلمي والإبداع الأدبي، ليكون ذلك مدخلًا لعلمانية الدولة. واتّهم التيارُ الإسلامي طه حسين بأن كتابه ليس إلا حاشية على متن المستشرق مرجليوث الذي نشر بحثًا بعنوان (نشأة الشعر الجاهلي)، قبيل صدور كتاب طه حسين، أي أن الكتاب ترجمة لأفكار مرجليوث، ثم تبيّن بعد 92 سنة براءة طه حسين من هذا الاتهام، بتقرير نشرته وكالة (رويتر) على موقعها الرسمي عام 2010.

وأما ثالث دعاة العلمانية من الأزهريين، فكان الشيخ خالد محمد خالد، من خلال كتابه “من هنا نبدأ” الصادر عام 1950، ودعا فيه إلى فصل الدين عن الدولة، فتسبب بطلاق بينه وبين الإخوان المسلمين، ومنع الأزهر تداول الكتاب، ثم كتابه الثاني “الديمقراطية أبدًا” الصادر سنة 1953 الذي تحدث فيه بأسلوبه الأخاذ عن التجربة الديمقراطية بين عامي 1924 – 1952، وأعلن فيهما انقلابه على المفاهيم الدينية الحاكمة للدولة، ودعا إلى علمانية الدولة وإقامة تشريعاتها على أساس علماني خادم لمصلحة المجتمع، لا على مرجعية دينية.

لكن العلماء الثلاثة قامت ضدهم حملة إعلامية دينية، قيل إنها دفعت الشيخ علي عبد الرازق إلى تعديل أفكاره، بعد طرده من الأزهر وسحب شهادة “العالِمية الأزهرية” منه! ولا توجد وثيقة تدل على هذا التراجع. أما طه حسين، فقد كان تراجعه عن بعض أفكاره واضحًا نتيجة ضغط الأزهر والحملة الشعواء ضده فغيّر بعض فقراته، ولمراضاة الشارع الإسلامي، كتب كتابه الشهير على “هامش السيرة”. وأما خالد محمد خالد، فكان الهجوم عليه من رفاق دربه أمثال الشيخ محمد الغزالي الذي كتب كتابًا يعارض كتاب خالد “من هنا نعلم”، ومن رَحِم هذه المعارك العلمانوية – الإسلاموية؛ وُلِد شعارا الصراع “الإسلام هو الحل”، و”العلمانية هي الحل”، وما يزالان حاضرين، حتى يبعث الله الرشدَ فينا!

شعار “الإسلام هو الحل”:

ظهر هذا الشعار في ثمانينيات القرن المنصرم، حينما كتب الباحث الإسلامي خالد الزعفراني كتابًا بعنوان “الإسلام هو الحل”، وعندما سمح الرئيس الأسبق حسني مبارك للإخوان المسلمين بالمشاركة في الانتخابات البرلمانية، أنشؤوا تحالفًا مع حزب العمل وحزب الأحرار، أُطلق عليه “التحالف الإسلامي”، واختار التحالف شعارهم الانتخابي “الإسلام هو الحل”، لكن الإخوان اعترضوا على الشعار، لكونه ليس من شعاراتهم التقليدية، ثم وافقوا عليه، عندما وجدوا استحسانًا له عند الناس، على حد قول مبتدعه خالد الزعفراني. ثم كتب بعد ذلك المفكر الإخواني مصطفى مشهور الذي أصبح فيما بعد مرشدًا للجماعة بين عامي 1996 – 2002 كتابًا بهذا العنوان.

كان هدف التحالف الانتخابي وشعاره أسلمة المجتمع المصري، وتطبيق الشريعة الإسلامية كما جاء في بيانه الانتخابي؛ فاعترضت أحزاب مصرية على الشعار ولجأت إلى القضاء، لكن محكمة القضاء الإداري المصرية أصدرت حكمًا قضائيًا أكدت فيه أن شعار “الإسلام هو الحل” متوافق مع المادة الثانية من الدستور آنذاك، فضلًا عن أنه يعبّر عن هوية الدولة والأمة، ولا يتعارض مع مبدأ المواطنة! وهو شعار انتخابي يراد منه الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وهذا أحد مقاصد الدستور المصرية آنذاك!

نستطيع القول: إن المد الإسلاموي الناتج عن الصحوة الإسلامية، التي كانت آنذاك في أوجها، أسهم في “بروباغندا” هذا الشعار ومحاصرة دعاة العلمانية شعبويًا! ومما يؤخذ على هذا الشعار أنه شعار تعبوي ذو توجه شعبوي، يخاطب غرائز المتدينين الجدد من أبناء الصحوة، ليتحمسوا لدعاته، حتى يعود الإسلام السياسي إلى السلطة! ومن خلال هذه التعبوية الشعبوية، يحصد الإسلام السياسي أصوات الأكثرية الهشة، ويتصارع مع الأقلية الصلبة في الإعلام والاقتصاد والسياسة.

ولإثبات مشروعية هذا الشعار، جاءت فكرة أسلمة الاقتصاد؛ فكانت موجة الاقتصاد الإسلامي مقابل الاقتصاد الربوي، من خلال فقهاء إسلامويين تحدثوا بأسلمة الاقتصاد من خلال البنك اللاربوي الذي انتهى بفشل ذريع، نتيجة عمليات نصب، قضت على أحلام الفقراء الصغيرة ولا سيما في مصر، أمثال شركة “الريان” وأشباهها. ولدعم صدقية هذا الشعار الإسلاموي، كانت ظاهرة الإعجاز العلمي في القرآن والسنّة، من خلال أعلامها، كعبدالمجيد الزنداني وزغلول نجار وآخرين كثر، وقد ثبت بطلان جلِّ نظرياتها، وخبا بريقها بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وانتهى أمر الصحوة الإسلامية، بعد أحداث أيلول/ سبتمبر 2001 وتبين أن تلك الصحوة كانت أكبر عملية نصب ديني في التاريخ، لم يستفد منها إلا الأنظمة الاستبدادية والإسلام السياسي، بشقيه السني والشيعي. وقد دفع هذا الطرح الإسلاموي، شعاراتيًا، الخصم العلماني إلى إعادة ترتيب صفوفه، ورفع شعار “العلمانية هي الحل”، وساعده في ذلك الفشل الذريع للإسلام السياسي في الربيع العربي.

شعار “العلمانية هي الحل”:

انتشر هذا الشعار مع مطلع هذا القرن، وأخذ يُعلن نفسه فيما بعد بلا خوف، في مقالات صحفية، بعد فشل الإسلام السياسي في الربيع العربي، والمآل المحزن له بسبب الأسلمة، فكان أشبه بشعار تحد لشعار “الإسلام هو الحل”، بعد انفضاض كثير من الناس عن الإسلام السياسي نتيجة أسلمة وعسكرة الربيع العربي.

وأشهر ما كُتب في هذا الشعار كتابُ “العلمانية هي الحل”، للدكتور فاروق القاضي الصادر عام 2010 وقد أحدث ضجة كبيرة ما بين مؤيد له ومعارض، وفيه يبين وهْم الإسلام السياسي، حيث يؤكد الكاتب أن الإسلام عقيدة تنظم علاقة الإنسان بربه، دون تحديد نظام سلطة معين، وليس اعتقادًا ينظم المجتمع سياسيًا، وبالتالي لا صحة للفكرة الإخوانية القائلة بأن الإسلام دين ودولة، ويؤكد الكاتب أنه ليس ضد الدين، إنما للمواطن الحق في مواطنة كاملة، بغض النظر عن اعتقاده الديني، وأن اختلاف الدين بين المواطنين لا يمنعهم هذا الحق، ومن مجموع المواطنين المختلفين اعتقاديًا تتشكل الدولة وقانونها، فيتساوى الجميع أمام القانون في الحقوق والواجبات. وعن موضوع فصل الدين عن الدولة، قال: لا دولة في الدين، ولا دين في الدولة. ولكنهما يتعايشان  ونستطيع القول إن الكتاب ليس إلا نسخة مزيدة ومنقحة من كتاب الشيخ علي عبد الرازق “الإسلام وأصول الحكم”، بأسلوب أكثر معاصرة.

الخلاصة

أعتقد أن أكثر من أساء إلى العلمانية هم صنفان: الحكّام العرب، والنخب العلمانية؛ فالحكام قدّموا أنفسهم إلى العالم على أنهم علمانيون، ولم يطبّقوا أبسط مبادئ العلمانية المتمثلة بالحياد! فكانوا مستبدين حقيقيين، وكان العطاء في أنظمتهم على الولاء، لا على الكفاءة. وأما النخب العلمانية، فقد استغلّوا العلمانية، قبل الربيع العربي، أيام موجة اليسار، وقدّموها دينًا ضدّ دين مجتمعاتهم. وكلاهما أساء إلى جوهر العلمانية، ولذلك لا بدّ من التفريق بين علمانيتين: واحدة حميدة والأخرى خبيثة!

العلمانية الخبيثة هي علمانية مؤدلجة، تفرض نمطًا محددًا على المجتمع، لتجعله مجتمعًا أُحاديَّ الأيديولوجية، ومثّلها تاريخيًا الاتحاد السوفيتي والصين وكوريا الشمالية اليوم. وغالبية النخب العلمانية قبل الربيع العربي قدّمت العلمانية الخبيثة! لكونها ذات أصول يسارية ترفض فكرة الإيمان أساسًا، فاستغلّت العلمانية، لتقدّمها كدين ضد الدين الذي يؤمن به ويمارس شعائره أبناءُ مجتمعاتهم، وهذا خطأ استراتيجي وقعوا فيه، خصوصًا أننا مجتمعات متدينة بالفطرة، وقد التقط هذه الخطيئة دعاةُ الإسلام السياسي، ليُظهروا قبح العلمانية؛ فنَفَّروا المتدينين منها ومن دعاتها.

أما العلمانية الحميدة، فهي التي تحترم الدين والتديّن، وتضمن لأتباع كل دين ممارسة شعائرهم بكل طمأنينة، وتقف موقفًا محايدًا من الجميع، فلا تتبنى دينًا على حساب آخر. وأما شبهة أنها تدعو إلى الإلحاد، فالعلمانية لا تعني الإلحاد، إنما تعني الحياد، قد يكون هناك علماني ملحد، ولكن ليس كلُّ العلمانيين ملحدين، بل إن من العلمانيين مَنْ يمارس التدين وشعائره، لكنه يرى في ترسيم الحدود بوضوح، بين الدين والدولة، سبيلًا لنهضة مجتمع متعدد المكونات. ولا يضيره ذلك، ما دام يؤمن بحرية الرأي والتعبير، ويحترم عقائد الآخرين؛ فالحرية مبدأ إنساني دعا إليه القرآن الكريم، والله سبحانه وتعالى دعا إلى احترام حق الإنسان بالحرية والاختيار، وإن كان كافرًا بالخالق، لذلك أعطى الإنسانَ حرية الاختيار، وكلّ سلوك يقوم على إكراه الآخر هو ضدّ حرية الإنسان، وقد ضرب القرآن في الحرية مثالًا في القمة، لتعلم أن ما دونه ضد حريتك، إذ اختار الاعتقاد مثالًا: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}.

ولا ننسى أن العلمانية الغربية تسمح للمسلم في دولها، حتى حين يكون لاجئًا، بأن يبني مسجده ليتعبد به، أما الدول الإسلامية فكلّها تمنع بناء الكنائس والمعابد غير الإسلامية! وفي الدولة العلمانية، تعلن إسلامك ومذهبك وطائفتك، من دون خوف من أحد، وفي بعض الدول الإسلامية (كإيران والسعودية وأفغانستان) ممنوع عليك هذا.

  • Social Links:

Leave a Reply