يناير في ذكراها العاشرة

يناير في ذكراها العاشرة

 عمرو حمزاوي _ القدس العربي

حلت أمس الذكرى العاشرة لثورة يناير 2011، وما زالت دوائر الحكم تردد مقولة عدم جاهزية مصر للديمقراطية وتدبج الحجج الزائفة لتمرير غياب الحرية عن الفضاء العام.

يقولون، على سبيل المثال، إن بناء الديمقراطية يستلزم تحقق مجموعة من الشروط المجتمعية والسياسية المسبقة أهمها سيادة القانون واستقرار مؤسسات الدولة الوطنية وحياديتها التي بدونها تتحول آليات وظواهر كالانتخابات الدورية وتداول السلطة والتعددية الحزبية وتنوع كيانات المجتمع المدني إلى واجهات خالية من المضمون. يكررون أن بناء الديمقراطية يستلزم توفر درجة متقدمة من النمو الاقتصادي وتحقق تماسك الطبقة الوسطى، ويدفعون أن نظم الحكم غير الديمقراطية أقدر من غيرها على ضمان النمو الاقتصادي السريع وتطوير المرافق الرئيسية كالتعليم والصحة والخدمات المدنية التي تحتاجها الطبقة الوسطى للازدهار.

لم تعرف مصر منذ خمسينيات القرن العشرين غير حكم الفرد وأعيد دوما التأسيس له وتثبيت دعائمه في أعقاب حدوث هبات وانتفاضات شعبية وكذلك كان الحال بعد يناير. لم تعرف مصر غير تحالف النخب الاقتصادية والمالية والفكرية والإعلامية مع الحاكم الفرد والاعتماد على رضائه لحماية عوائدها نظير التبرير المستمر لسياساته وقراراته. لم تعرف مصر سوى التعامل التأجيلي مع بناء الديمقراطية وإنهاء القمع والعقاب والتنكيل وإقرار حقوق الإنسان والحريات، تارة بأن يفرض الحاكم الفرد على مواطنيه المقايضة الزائفة «الخبز والأمن نظير الحرية» وتارة ثانية بالترويج لمقولات عدم جاهزية البلاد للديمقراطية وتارة ثالثة بمقولات التخويف «إما أنا أو الفوضى»!

لم تعرف مصر منذ خمسينيات القرن العشرين إلا اقتناع الحاكم الفرد بقدرته على الإنجاز دون مؤسسات منتخبة، لم تعرف مصر غير سعي حكم الفرد وأهل ثقته والنخب المتحالفة معه إلى تهجير المواطنين من الفضاء العام واستدعائهم فقط لتأييد الحاكم ومساندة سياساته وقراراته، وها هي جموع المواطنين التي انتفضت مطالبة بالحرية في يناير 2011 تبتعد مجددا إما عن اقتناع بكون حكم الفرد هو السبيل الوحيد لضمان الخبز والأمن أو عازفة في إحباط مما آلت إليه الأمور أو خائفة من ظلام القمع والعقاب والتنكيل. لم تعرف مصر منذ خمسينيات القرن العشرين غير طغيان النهج الأمني وتسفيه السياسة كمعولين رئيسيين يستخدمهما حكم الفرد للسيطرة على الدولة وضبط المجتمع وإخضاع المواطن، ورتب ذلك التوسع المطرد في العصف بسيادة القانون وفي توظيف الأدوات القمعية وفي تشويه الوعي الجمعي.

على المجموعات المدافعة عن الحقوق والحريات في مصر أن تدرك أن انهيار الأوضاع الأمنية وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والصراعات العبثية بين القوى السياسية في أعقاب يناير 2011 رتبت مجتمعة فقدان ثقة قطاعات شعبية واسعة في تجربة الابتعاد عن السلطوية وزينت لها النظر إلى حكم الفرد كملاذ وحيد لإنقاذ البلاد

يورط طغيان النهج الأمني وتسفيه السياسة الحكم في رفض التداول الحر للحقائق والمعلومات لكيلا يمتلك الناس من المعرفة ما قد يساعدهم على مقاومة تشويه الوعي، ويورطان المؤسسات والأجهزة النافذة في تصوير المعارضين السلميين زيفا كأعداء ومتآمرين وفى إلصاق اتهامات متنوعة بهم من نشر الفوضى إلى ضرب الاستقرار مثلما يورطانها في تعقب منظمات المجتمع المدني المستقلة التي تدافع عن الحقوق والحريات وفي تعريضها لحصار التشويه والإلغاء. لم تعرف مصر غير التوظيف الممنهج لطغيان النهج الأمني وتسفيه السياسة لاصطناع المواطن الخائف المبتعد عن الشأن العام والممتنع عن طلب المعلومة والمتنازل عن حقه المشروع في مراقبة ومساءلة ومحاسبة شاغلي المنصب العام. يصطنع حكم الفرد ذلك المواطن الخائف ويجبره بالأدوات القمعية على تجاهل المظالم والانتهاكات ويثنيه عن التطلع إلى الحرية ويسوغ له قبول مقايضة الأمن والخبر نظير الحق والحرية.

في الذكرى العاشرة لثورة يناير 2011، لم تتغير حقائق الحكم في بلادنا وما زلنا نراوح في ذات خانات السلطوية وطغيان النهج الأمني وتسفيه السياسة. لم تتغير حقائق الحكم، ولن تتغير ما لم يتغير المطالبون بتغييرها. على الأصوات والمجموعات المدافعة عن الحقوق والحريات في مصر أن تدرك أن انهيار الأوضاع الأمنية وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والصراعات العبثية بين القوى السياسية في أعقاب يناير 2011 رتبت مجتمعة فقدان ثقة قطاعات شعبية واسعة في تجربة الابتعاد عن السلطوية وزينت لها النظر إلى حكم الفرد كملاذ وحيد لإنقاذ البلاد من عدم الاستقرار. بين 2011 و2013، ارتكبت القوى السياسية، إسلاموية وعلمانية، خطايا كبرى وتلاعبت بآمال المصريات والمصريين في الإدارة الناجحة للتحول الديمقراطي وفي الربط بين صون الحقوق والحريات وبين تحسن الظروف الاقتصادية والاجتماعية والمستويات المعيشية. وفي السنوات الماضية، ترك الناس للمقايضة السلطوية «الخبز والأمن نظير الحق والحرية» ولم يكن في استطاعتهم مقاومة غوايتها ولا مقاومة المخاوف الحقيقية من أن يؤدي عدم الاستقرار إلى أن تلحق ببر مصر المصائر الإقليمية البائسة التي تهدم بها معاول الإرهاب والحروب الأهلية والعنف كيان الدول الوطنية وتفرض على مواطنيها الموت والدمار والنزوح واللجوء كحقائق وحيدة لوجودهم. ترك الناس لغواية المقايضة السلطوية، وراوحت مواقف أغلبيتهم بين القبول والعزوف والابتعاد خوفا من القمع والتعقب وبين المعارضة في لحظات ومساحات محدودة. كان فشل التحول الديمقراطي بعد يناير 2011، من بين عوامل أخرى، نتيجة مباشرة لإخفاقات القوى السياسية التي تصدرت الواجهة وعجزت بسبب صراعاتها العبثية عن الحفاظ على ثقة الناس ودفعت قطاعات واسعة منهم إلى طلب حكم الفرد كملاذ إنقاذي أخير وإلى قبول تقديم الخبز والأمن على الحرية.

  • Social Links:

Leave a Reply