من ذاكرة المدينة – الطيب تيزيني_فيلسوف التنوير – المعتصم الخالدي

من ذاكرة المدينة – الطيب تيزيني_فيلسوف التنوير – المعتصم الخالدي

الطيب تيزيني_فيلسوف التنوير
(1934-2019)
-فجر الثامن عشر من مايو/ايار من عام ٢٠١٩م أعلن عن وفاة المفكر والمعارض السوري الطيب تيزيني عن عمر يناهز 85 عاما، بعد صراع مع المرض ودفن في مسقط رأسه مدينة حمص
-ولد الطيب تيزيني يوم العاشر من اغسطس/آب من عام ١٩٣٤ م واكمل دراسته الثانوية في مدينة حمص لينتقل بعدها لدراسة الفلسفة بجامعة دمشق ومنها إلى تركيا وبريطانيا وألمانيا التي حصل فيها على دكتوراه الفلسفة عام 1967 في أطروحة “تمهيد في الفلسفة العربية الوسيطة” ليعود مرة أخرى إلى جامعة دمشق أستاذا في الفلسفة.

وتحولت أطروحته للدكتوراه إلى كتابه الأول بعنوان “مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط” وصدرت له كتب “الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى عام 1982، من يهوه إلى الله عام 1985، مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر عام 1994”.

ثم طور أطروحته لمشروع فكري مكون من 12 جزءا أنجز منها ستة قبل أن يتحول للتركيز على قضية النهضة ومعالجة عوائقها العربية سواء الذاتية أو الغربية، وفي هذه المرحلة أنجز كتابات جديدة أهمها “من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي عام 1996، النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة عام 1997، من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني عام 2001″.

وغلب على مشروع تيزيني الفكري -رغم احتفاظه بالفكر القومي الماركسي واعتماده على المنهج المادي الجدلي- تخليه عن مبدأ صراع الطبقات الماركسي، وانفتاحه على فهم التجربة الدينية والإيمانية من الداخل لإدراك تأثيرها في إنجاز التحول المجتمعي

ويركز هذا المشروع على الفكر العربي، ويشمل ذلك ما قبل ظهور الإسلام باعتباره جزءا من تطور تاريخ الفكر الإنساني، ويرى تيزيني أنه ازدهر في ظل الحضارة الإسلامية، بل يرفض المركزية الأوروبية التي تنزع عن الفكر العربي أصالته الخاصة.

تم اختياره عام 1998 واحداً من أهم مئة فيلسوف في العالم من قبل مؤسسة الفلسفة الألمانية- الفرنسية”.

دعا الطيب في آخر سنوات حياته إلى إعادة قراءة العالم في مواجهة ظاهرة الإرهاب الدولي، وكان على وشك تحويل بيته الكائن في حي دمشق الجديدة في دمّر، إلى مركز أبحاث اجتماعية، قبل أن يعيش عزلته ومنفاه الاختياري في ظل الحرب القائمة في بلاده منذ مارس (آذار) 2011، لا سيما بعد اعتقاله على خلفية مشاركته في اعتصام وزارة الداخلية في بداية الأحداث الدامية في سورية.

الملامسات الأولى التي أطلقت أجنحته في عالم الفكر السياسي كانت من حمص، ليغدو عبر عشرات الدراسات والكتب والأبحاث من أبرز المشتغلين على تأصيل فكر عربي صار جزءاً من تطور الفكر الإنساني، ناسفاً باتكائه على الجدلية الماركسية مركزية النموذج الغربي في وراثته الفلسفة اليونانية. ومعروف أنّ عائلته مثّلت جميع السوريين في تعدّد مشارب أفرادها وعلى اختلاف تطلعاتهم، فوالده كان يعمل قاضياً شرعياً، محافظاً ومتنوراً في آن، وأخوته كانوا منقسمين بين التنوير والتصوّف؛ وكان لهم كل الأثر في بناء شخصيته التي تغذّت من مكتبة الأب.

في حيّ “باب الدريب” الحمصي، وتحت المئذنتين وقريباً من منطقة الشيخ عمر وحيّ “الصليبة” شهدت هذه الأماكن تفتّح مدارك “الدكتور”، فالطفل الذي كان في حبواته الأولى نحو المعرفة، ظل مواظباً على قراءة الكتب في ظل حضور أُمِّه سنية الجندلي، المرأة المتحدرة من أعرق عائلات حمص المترفة، والتي أحبها الطيب وتعلّق بها فقال عنها: “أمي كانت في تفكيرها امرأة مؤمنة لكن إيمانها كان محبّباً، تركت آثاراً طيبة في نفسي من الرغبة في المعرفة، إذ لاحظت باكراً أنها لم تكن تقرأ ولا تكتب في ما أتعلم فيه، فلفت نظري هذا الأمر واكتشفت أنها لا تقرأ إلا القرآن ومن النسخة التي تملكها، والتي ما زلتُ أحتفظ بها في مكتبتي الشخصية حتى الآن منذ وفاتها عام 1967”.

قراءة الطيب المبكرة الأدباء الروس مثل تولستوي وغوركي، ومطالعاته أفلاطون وأحمد أمين لا سيما كتابه “في الإسلام والفكر الإسلامي” لأحمد أمين، بالإضافة الى كتاب “تحرير المرأة” لـقاسم أمين، دلت صاحب كتاب “من التراث إلى الثورة” إلى جذر المشكلة الاجتماعية العربية، فكان نتيجة قراءاته أن اقترب من الفكر المتنور كثيراً، مدافعاً عن النساء اللواتي كنّ يعشنَ ظلماً في محيطه الاجتماعي؛ خصوصاً أن مناقشة هذا الأمر بدأت معه في “القيناق” (كلمة عثمانية تعني المنزول)، وهو التجمع الثقافي والسياسي الذي كان يديره والده، إذ دارت فيه وقتذاك سجالات مهمة، لاحظ بعدها صاحب “روجيه غارودي بعد الصمت” أن قضية المرأة صارت قضية من القضايا الرئيسة لديه، مثل الاقتصاد والسياسة. كانت قراءات الطيب الباكرة غزيرة في الفلسفة والأدب، وأثر فيه كثيراً كتاب “العقد الاجتماعي” لروسو، واطّلع من ثمّ على معظم ما كتبه هذا الفيلسوف الفرنسي، مما قرّبه أكثر من أفكار الثورة الفرنسية لاسيما آراءها حول المجتمع المدني.

لحظات تاريخية حاسمة

استطاع الطيب، وعبر قرابة نيف وسبعة عقود من الزمن، الإطلالة على لحظات حاسمة من سيرة بلاده المعاصرة، فكان شاهداً على فترة التحولات الكبرى في الأربعينيات من القرن الماضي، التي أنتجت الاستقلال عن المستعمر الفرنسي، لتتشكل بعدها قوى ثقافية واجتماعية وسياسية حملت على عاتقها تحرير المجتمع والإنسان، إذ مثلت تلك القوى حالة فريدة بتجمعها، وبالاعتبار الوظيفي تمّم كلّ بعضه، الشيوعي والقومي والليبرالي والإسلامي، فشهد صاحب كتاب “من التراث إلى الثورة” حرب الاستقلال في جزء ولو بسيطٍ منها.

عاش الطيب تيزيني وقتذاك قريباً من رجلين كبيرين كانا من المجاهدين ضد الاحتلال هما خيرو الشهلي ونظير النشيواتي، فالجو العام كان قائماً وقتذاك على قيم الجهاد والمجاهدين والتواصل. وكان الجو العام في سورية الأربعينيات منفتحاً بدرجات مختلفة- كما وصفه الطيب أكثر من مرة في مؤلفاته، ما عدا التيار الصوفي البسيط الذي لم يصل إلى مرحلة التعبير العصري عن أفكاره ومقولاته. فكان للمفكر الحمصي أصدقاء كثر منهم البعثي والشيوعي والإسلامي المتنور، وهناك من يقترب من التنويري بدرجة كبيرة، وهو الشاعر نصوح فاخوري الذي عايشه الرجل وتشرّب أفكاره، وكان “فاخوري يلقي خطباً في أماكن ثقافية، إضافة إلى مثقفين آخرين كانوا ينادون بالحرية؛ سعى الطيب معهم إلى تأسيس مجموعات سياسية متقدمة، حلم أن تصنع ما صُنع في فرنسا.

وقف الطيّب موقفاً حاسماً من حركة “داعش” معتبراً إياها سليل مرجعيتين اثنتين، أولاً الدواخل التي ترفض فكرة القراءات ولديها شيء ثابت، ومن يخالف ذلك يعتبر آبقاً، أما الثانية فقد تشكلت برأيه مع بزوغ النظام الرأسمالي العالمي ونشأة السوق، وفي ضوء هذه السوق نشأ النظام العولميّ، مدعّماً هذه الرؤية بما قاله ماركس “كلما ارتفعت قيمة الأشياء هبطت قيمة الإنسان”.
كان فكر الطيب تيزيني فكرا فذا وتنويريا بجدارة وسيبقى فيلسوفا جدد الكثير من الأفكار ووقف امام معظم الإيدولوجيات بتجرد محاولا إصلاح العديد من المفاهيم الخاطئة إن كانت ماركسية كما أحب او غيرها من المعتقدات الأخرى وسيظل فكره ملهما للكثيرين كما كانت كتبه بصمة في عقول من عاصره ومن قرأ له ومن تتلمذ على يديه.
فالسلام لروح فيلسوف التنوير الذي لن يتكرر.

  • Social Links:

Leave a Reply