أمل في وقائع يوم الجلاء السوري وصناعه
محمود الوهب
في السابع عشر من نيسان في كل عام تمر ذكرى عيد الجلاء في سورية، وإذا كانت أية ذكرى تستدعي التأمل والاعتبار، فلا شك في أنَّ يوم السابع عشر من نيسان يتطلب من المواطن السوري أكثر من غيره نظرة أشمل وأعمق، فهو العيد الأكثر إشراقاً في تاريخ سورية الحديث، وهو العيد الذي أتى تتويجاً لكل أشكال النضال الوطني الذي خاضه الشعب السوري ضد الوجود العسكري الفرنسي على الأراضي السورية بموجب اتفاقية سايكس/بيكو البريطانية/الفرنسية الشهيرة. التي أرجو ألا نترحم عليها في قادم الأيام، وبفعل غباء قادة السياسة عندنا، إن لم أقل خيانتها، (كانت سورية ولبنان من أوائل الدول العربية التي حظيت بالاستقلال في العصر الحديث) إنَّه عيد الأعياد في سورية، فعبره فقط تحسس الشعب السوري نسائم الحرية التي قدَّم على مذبحها آلاف الشهداء، ومن خلاله أيضاً، مارس الحكم الديمقراطي، في وقت لم يكن به الشعب السوري على مستوى جيد من العلم والثقافة والوعي، (وهو ما أعطى حجة للمستعمر لأن يمرِّر احتلاله الذي أسماه انتداباً قبل ذلك التاريخ) إذ كان التعليم طفلاً في تشكيله القطيعة مع مدرسة الملا والخوجة ورجال الدين عموماً في العهود السابقة. أقول ذلك لئلا يخطر ببال أحد وضع شروط ما على الديمقراطية.
أعود إلى يوم الجلاء لأقول إنه العيد الوطني المشرف الذي غُيِّبَ عن الشعب السوري، وغُيِّبت رموزه وقيمه ومعانيه التي عمِّدت بالدم خلف انقلابات عسكرية تتالت في مطلع ستينيات القرن الماضي، وسميت ثورات أو تصحيح عليها، ظلماً وبهتاناً.
نعم فقد كان لأحزاب تلك الانقلابات شعارات تبرق، فتجذب أجيال الشباب بحماستهم وعنفوانهم إلى صفِّها، تتقدَّمهم أحلامهم وطموحاتهم. فتنفي، في الوقت نفسه، وتحت ضجيج تلك الشعارات، أشكال الحكم السابقة ورجالاته، وتتجاهل بالرغبات والمصالح الملحة نضالهم الوطني الشاق والطويل، متهمة إياهم بالرجعية حيناً، وبممالأة الاستعمار أحياناً أخرى. إنه الشباب الذي نزل من الأرياف الفقيرة والمهملة (كان الفلاحون يشكلون 65% من مجموع السكان الذين لا يتجاوزون ثلاثة الملايين ونصف المليون) وتلقى بدايات تعليمه، وانخرط من فقر وطموح في صفوف الجيش المشكَّل حديثاً، وقد وجد في أفكار بعض السياسيين ومثقفيهم ضالته، وما هي إلا سنوات فقط، حتى أخذ يتطلع إلى السلطة متجاوباً مع حركة شعوب العالم كله نحو الحرية وبناء الحياة الجديدة، ولا شك أنَّ أولئك الشباب قد تأثروا بالثورة الروسية، وبالفكر الاشتراكي الذي أخذ يغزو العالم، ويبهره، منذ بدايات القرن التاسع عشر رداً على همجية الرأسمالية الأولى وتوحشها في استغلال البشر وأطماعها في استعمار بلدان العالم الفقيرة وممارساتها العدوانية ضد الشعوب المغلوبة على أمرها. وتحت هذا الضغط إضافة إلى الظلم الذي عانته أسر أولئك الشباب وتحت ضغط شهوة الحكم، والتفرُّد به، جرى تجاهل كلي لما قامت به البرجوازية الوطنية لا من نضال وطني فحسب بل من تأسيس لاقتصاد نام ومتطور، أساسه تنمية قطاعاتها الرئيسة الصناعية والزراعية والتجارية، ولطالما استشهد الباحثون والمهتمون بعبارة قالها آنذاك الرئيس السابق لماليزيا “مهاتير محمد” عن الاقتصاد السوري في تلك المرحلة وهو الذي قدًّم رسالته لنيل شهادة الدكتوراه في عن ذلك الاقتصاد:
“إنه إذا قدر له في قادم الأيام، سيجعل من اقتصاد بلاده اقتصاداً يحذو حذو الاقتصاد السوري، ويسير على منواله في نموّه وانتمائه الوطني” كذلك أشار إلى ذلك الأمر وبالأرقام الباحث “محمد جمال باروت” في كتابه تشكل الجزيرة السورية، إذ بلغ إنتاج الحبوب في ذلك الزمن رغم وسائل الزراعة التي تعد بدائية أو هي قيد التحديث، ملايين الأطنان وفاقت أضعاف حاجة السكان. “ما منح اسم الجزيرة السورية اسم «كاليفورنيا سورية» وصيرورتها جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الحنطة في هذا البلد.” (جريدة الحياة)
وإذا كانت الشعارات التي جاء العسكر تحت ظلالها مثيرة لعواطف الشباب ومحركة لإراداتهم، فإنها، على الصعيد العملي، لم تكن كذلك. بل كانت في اتجاه آخر تماماً، إذ سحقتها أحذيتهم، بابتعاد عقليتهم العسكرية، عن كل ما يمت إلى الحياة المدنية، وأولها الديمقراطية التي هي ألف باء الحريات السياسية التي تدار من خلالها الدول المعاصرة. وعلى ذلك لم تكن الوحدة العربية في الممارسة غير التفرقة والتشتيت، بل وتقسيم العرب إلى رجعيين وتقدميين، ومن ثَمَّ إلى خونة ووطنيين، وفي النتيجة معاداتهم أجمعين، وذلك ما شجع الدول الإقليمية والكبرى على التدخل المباشر حيناً، والمغلف بالصداقة في أحيان كثيرة، وغيَّب كذلك قضاياهم الكبرى والمفصلية كالقضية الفلسطينية. أما الحرية، ويا لهف نفسي على الحرية، فلم تكن بالنسبة للمواطن إلا أن يختار، إذا ما خطر له أن يتفوه بكلمة لا تروق للحاكم وأعوانه، بين فروع للتعذيب حتى الموت،. وأما الاشتراكية فهي الركض خلف الرغيف الذي شبهه محمد الماغوط بوجه ياسين بقوش (رحم الله الاثنين..) أما فلسطين وإسكندرون وعربستان (الأحواز في إيران) فقد أضيفت إليها أراض جديدة. من أغنى الأراضي السورية بالمياه والأشجار المثمرة.. وتطرب إسرائيل لما يحصل الآن في سورية!
ومهما يكن من أمر، ففي هذا اليوم لا يزال السوريون يحلمون بسورية الحرة، الموحدة، الخالية من ألوان التوحش والتخلف والاستبداد.. سورية التي تتسع للسوريين كلهم دونما أي تمييز.. فالسوريون اليوم يتطلعون إلى نبل القيم التي حملها إبراهيم هنانو ورفاقه ممن قادوا ثورات الفلاحين الوطنية عبر انتفاضات الفلاحين في أرياف إدلب وحلب وحماة وحوران وجبل العرب وغوطة دمشق وغير ذلك ولا بد أنهم واصلون إلى غاياتهم الوطنية هذه بفعل النجاحات التي يحققها الثوار اليوم على الأرض.
وللتذكير، ولمن يتهم الثورة السورية اليوم وخصوصاً بعض أثرياء المدن وغيرهم الذين شاركوا المستبد تقاسم ثروات الوطن، ولقمة أبناء الشعب، يتهمونها بأنها ثورة قرى، فإن الثورات السورية التي قامت ضد الاستعمار الفرنسي هي ثورات ريفية محضة وقد دعمها السياسيون في المدن الكبرى، وساروا على نهجها إلى أن جاؤوا بالاستقلال في السابع عشر من نيسان عيد أعياد البلاد الذي آن للشعب السوري أن يستعيده ومعه البلاد التي اغتصبها الاستبداد والطغاة، وما تدميرهم لها اليوم، إلا لأنهم مدركون تماماً من أنهم سيغادرونها عاجلاً وأنفوهم راغمة.
Social Links: