يوم مختلف 3

يوم مختلف 3

زكي الدروبي

كنت اعلم منذ أول أيام الثورة أن نظام كنظام الأسد لا يمكن القضاء عليه بالضربة القاضية، إنما ينبغي المناورة معه، وقد  كنت مع إصلاحات سياسية تؤدي في النهاية لإسقاط النظام، وتضايقت من الاستعجال برفع شعار إسقاط النظام في بداية الثورة، دون أن نكون نمتلك الأدوات القادرة على تنفيذه، فقد اعتدنا على الأقوال ولم نتعود على الأفعال، اعتدنا على رفع الشعارات ولم نتعود على تطبيقها، من تحرير فلسطين والرمي باليهود في البحر مرورا بالوحدة العربية أو الوحدة الإسلامية وإعادة دولة الخلافة، كلها شعارات ضخمة كاذبة لا يمكن تحقيقها في ظل هذه الظروف، لهذا كان رأيي بوجوب التدرج بالمراحل، والفوز بالنقاط وليس بالضربة القاضية، وهانحن اليوم بعد كل هذه السنوات، وبعد موت وتهجير الملايين من الشعب السوري، وتدمير البلد، رضينا بتقاسم السلطة مع النظام ونفاوض على خروج آمن لرأس النظام فقط. هذا ما أيدني فيه الدكتور الطيب التيزيني أطال الله في عمره حين التقيته بعد أن خرج من سجنه في بداية الثورة، وأضاف : لو استطعنا أن نجبر النظام على إطلاق حرية العمل السياسي وإلغاء قانون الطوارئ فقط، يمكننا خلال سنة أن نسقط النظام.

الواقع كان شيئا آخر، كانت هنالك مؤتمرات للمعارضة الخارجية خارج سورية ومؤتمرات للمعارضة الداخلية داخل سورية وكان هناك النبيحة على شاشات التلفزيون وكلاً يزاود على الشعب المسكين ويدفعه للموت المجاني.

بعد أسبوعين تقريبا من اختفائي، بدأت الخروج والتنقل ليلاً، وزرت بعض الأصدقاء من السياسيين المعارضين، واطمأننت منهم على سير العمل الثوري، ثم جائني التكليف من موقع سيديف لتغطية مؤتمر علمي عالمي حول صدأ القمح سيقام في الإيكاردا، حاولت الذهاب وكانت قوات النظام في حينها قد اقتحمت تلبيسة وتم قطع طريق حمص حماه، وبعد عدة محاولات فاشلة للحجز في شركات النقل اتصلت بعدد من الأصدقاء المؤتمن جانبهم لنقلي بسياراتهم، وكان الشهيد فواز الحراكي أحد أقرب أصدقائي الذين اتصلت بهم، فبادرني ضاحكاً (أهلين بالمتخبي)، مؤكداً استحالة السفر عبر طريق حمص حماه، واتفقت معه أن نلتقي يوم السبت القادم، والتقينا لكن للأسف كان شهيداً جميلا في ديار الحق، وأنا لازلت في ديار الباطل، كنت انظر له في نعشه وأحدثه باكياً حاسداً إياه: (اييه يا أبو عبدو الله بحبك أكثر مني لهذا اختارك، ماذا فعلت ليحبك الله أكثر مني؟ …)، بعد أن اعتذر فواز رحمه الله  أعدت الاتصال للمرة الثانية مع شاب من قبضايات الثورة، وقلت له بلهجة حاسمة هذه المرة – بعد أن أكد لي بالاتصال الذي سبقه باستحالة السير على طريق حمص حماه – أريد الذهاب للإيكاردا عن طريق سلمية، عن طريق مصياف، طيران في السماء …الخ لا علاقة لي. أريد الذهاب ، فجاء جوابه مشجعاً : (معك عالموت أخي أبو ناظم) ، في الطريق اتفقنا أن نجرب طريق حمص حماه فإن كان سالكاً أكملنا، وإن لم يكن نعود لنجرب طريق آخر.

كان اليوم السابق لذهابي قاسياً في حمص القديمة، فقد حصلت مجزرة المريجة وحصل أن ضجت حمص بما حدث وكانت سيارات تاكسي تمر وتطلق النار عشوائياً على الناس، فيما بعد تم إلقاء القبض من قبل أهل الحارة على أحدهم، واعترف بأنه عنصر مخابرات مهمته إطلاق الرصاص على الجيش وعلى المدنيين من سيارة تاكسي يقودها هو، وحين سلم لقائد الشرطة بادره للسؤال، لماذا ذهبت لحي باب الدريب، فأجابه بأنه كان يريد شراء علبة دخان، فصفعه قائد الشرطة – حسب الروايات التي نقلت لي – غاضباً: (يا حيوان ما لقيت تشتري باكيت دخان غير من باب الدريب)، كان محتماً علي الانتقال سريعاً في الليل من مكان اختفائي في الحي لمكان آخر قريب من الكراجات، لاستطيع السفر في اليوم الثاني لايكاردا، فقد توقعت أن تقتحم قوات النظام الحي بكميات كبيرة، وكوني مطلوباً لهم فهذا يحتم علي الحرص الشديد في التخفي والابتعاد عنهم، كان الجو العام مملوء بالتوتر، وكان الناس وأنا معهم قد قطعنا طرقات الحي بحاويات القمامة، وأشعلنا إطارات السيارات حفاظاً على أرواح الناس من السيارات التي تطلق الرصاص عشوائياً عليهم، يومها كان حديث الصديق (العلوي) محمود عيسى السجين السياسي السابق على شاشة التلفزيون – كشاهد عيان – مملوءاً بالألم: ( أوصال حمص مقطعة، الدماء في الطرقات، أصوات الرصاص لا تهدأ ..) محملاً النظام مسؤولية ما يجري.

كنا قد رأينا على شاشة الجزيرة تحطيم أهالي الرستن لتمثال حافظ الأسد الموجود على مدخل المدينة، وفي الطريق شاهدت آثار جنازير الدبابات على الأوتستراد الدولي، وعلى طرقات المدينة الترابية، وشاهدت بقايا الدواليب المحترقة التي استخدمها الأهالي لمقاومة قوات النظام المقتحمة للمدينة، وشاهدت بقايا الحرائق الناجمة عن العملية العسكرية، فخرجت الدمعة من عيناي غصباً عني وغضباً من هول المشهد الذي رأيته، طبعاً كان ذلك المشهد عادياً قياساً مع المشاهد التي سنراها في الأيام التالية، وبعد فترة كانت الابتسامة تملئ وجهي حين شاهدت تمثال حافظ الأسد محطماً ومرمياً على الأرض.

في الإيكاردا استفدت من وجود العلماء العرب والأجانب ونقلت لهم صورة ما يحدث ونقلت لزملائي الصحفيين العرب حقيقة ما يجري، وأنجزت مهمتي الصحفية على أكمل وجه.

في اليوم التالي استيقظت صباحاً في فندقي استمع إلى أخبار الجزيرة ،لأصدم بتصريح وزيرة الخارجية الأمريكية كلينتون عن مجزرة حصلت في ساحة الساعة الجديدة بحمص.

  • Social Links:

Leave a Reply