قصائد مختارة للشاعر الفرنسي جــاك بريفير – يونادم يونادم

قصائد مختارة للشاعر الفرنسي جــاك بريفير – يونادم يونادم

Yonadam Yonadam
قصائد مختارة للشاعر الفرنسي جــاك بريفير
jacques_prevert

ترعرع وسط الثورات الكبرى المضخمة، والممتدة، والمترسخة ، ثورة الشيوعيين، كانت لما تزل منقشعة امام العيون، شهية كثمار طازجة، عالية كجدران بلا حدود، وترعرع كذلك بين هوس الثورات الاخرى، الطليعية. كالمستقبلية في روسيا وايطاليا والمانيا مطلع القرن، والتي فجرت الدادائية، ثم السوريالية بمراحلها وتحولاتها، وحيطانها المتجددة على يد قائدها بروتون، وشهد كذلك نمو الفلسفات الكبيرة، والاحزاب الايديولوجية والبنى السياسية المتينة، الصلبة، والحالات والنزعات اللغوية المركبة، وواكب ظهور القصائد المركبة ذات الخلفيات والدلالات، والمغازي، والبواطن، مواكبته الروايات ذات النسائج الداخلية الملتبسة، وذات التراكيب المعقدة، والشخصيات المكثفة والصفيقة في آن واحد، كدهاليز وأقبية، مر بها من الدادائية الى السوريالية الى الشيوعية والوجودية، (بفروعها ومشتقاتها) والفرويدية والعبثية واللاشينية والشيئية.. واللغوية واللغوانية، مر بها جميعا، هذه الحيطان الشاهقة من الكلام، وهذه الأسيجة ذات الاوتاد والارسان والعلامات، وهذه القبائل ذات الدمغ، والوشم، والصفات، والسمات، والقسمات المحفرة، والبوابات المحروسة، مر بها كمن يمر بحلم في ليلة صيف، وهرب منها كتلميذ يقفز من فوق جدار المدرسة الى حقل او الى رصيف او الى مقهى.

هذا هو جاك بريفير، المتفلّت الدائم والتبرم، والضجر، والذي تخف به الحركات العاشق الحرية، حتى الفوضوية، الكاره المؤسسات حتى الفوضوية، الساخر من البنى الباركة حتى الفوضوية ايضا.

كأنه كان يرسم الأشياء ، البيوت، الكلمات ، السقوف ، الطيور، الشجر، الاقفاص، بيديه، أو بعينيه، او بالهواء وبدخان سيجارته، فتمحى للحظات او تنطوي كذكرى، عالم هش، شفيف ، عابر، عالمه، عالم بلا زمن، ولا فضاءات، ولا صروح، ولا بروتوكولات، ولا شعائر ، ولا طقوس ولا حتى معالم فلنقل انه عالم يشبه المسرح، عمر ما يعرض وينتهي يقوم وينهدم، ويلمع ويختفي في هشاشاته، وفي توليه: ولنقل ايضا انه عالم من مخيلة الاطفال، أشكال تخلق أشكالا وترميها، أشكال من ماء ، او من رمل أو من لا شيء، او فلنقل ايضا انه عالم بلا قدر، بلا تراجيديا، بلا آلهة، أي من تلك الصور التي تصنعها وتفت بين الاصابع.. او تسيل وراءها.

ذلك ان عالم بريفير من فصول حميمية، قريبة، ومن تفاصيل التفاصيل، تنتبه اليها ولا تراها، وتراها، اذا ما اراك اياها الشاعر، تدهشك، او تخلبك، أو تفتح لك فجاة رصيدها السحري، لكن من دون أثقال او معدن او حجارة، هكذا فجأة في الغرفة، او على الرصيف، او المقهى، أو ازاء وجه، او شجرة، او عصفور، أي ازاء ما يحيط بك وتظنه من غياب عاداتك، ومألوفاتك، ثم وبخيط مخفي، او بايماء، او باشارة، ينقلب المالوف الى عناصر مخيلة الى مواد شعر خام، لكن بخفة بخفة، وبشفافية بشفافية، خوف تحطمها او انكسارها، او عبورها، هنا تتذكر بليز ساندرارز وارصفة باريس، والازقة، وهنا تتذكر فرلين لكن من دون فجائعه وتوباته، وهنا تتذكر ليون بول فارغ المار بشغفه بالاشياء.

وهنا تتذكر اراغون في فلاح باريس، حيث للمألوف دهشة الانكساف، وهنا تتذكر ريتسوس شاعر التفاصيل المفتوحة على الفتنة، والاسى، والمغادرة، لكن من دون عبره، حتى ليلتبس الأمر عليك أحيانا حول من منهما اخذ من الآخر: ريتسوس من بريفير، او بريفير من ريتسوس، وتغلب اثر الاول في الثاني ولاسيما عندما ينسى ريتسوس مناخ تراجيدياته، الاغريقية، او هواجسه «السياسية».

على ان طفولة بريفير تبقيه في الحيز المختلف، وفوضوية ترسم له عالما بلا هالات، ولا كاتدرائيات، ولا تماثيل، عالم من الحكايات، واللحظات.. والمشاهد.. يرويها كحكواتي شبع من «اساطير» المدينة الصغيرة، حكواتي يوقظ الاطفال على خرافاته، وينيمهم على احلامهم، ومن هذه «الحدوته» يتمتم يتمتم، كلمات نسمعها، وتنطرب لها، شعر شفوي، مرويات مهموسة، وان بلغت احيانا حدود الهجاء المر، او السخرية العابثة، لكنها تبقى مرويات، ذلك ان بريفير لم يبحث عن كتابة معقدة، ولا سعى الى قصيدة مركبة، فهو لا يحب التوغل كثيرا في دهاليز اللغة والحالات والدواخل كميشو مثلا، ولا رفع امامه حيطان اللغة لينطحها وتنطحه كما فعل مالارميه، ولا ضرب الضربة الكثيفة المغلفة بالفلسفة والغموض، كما فعل رينيه شار، ولا واظب مواظبة منهجية في علاقته الصفيقة بالاشياء كما فعل فرانسيس بونج، ولا حلق بلا جذور فوق القارات والتواريخ والعناصر كما فعل سان جون برس، ولا كسر او حطم او فجر كما فعل السورياليون عموما، وقبلهم اسلافهم القريبون الدادائيونن لا مع انه انخرط في لعبتهم وتحت ادارة بروتون مدة لكنه قفز من النافذة.. وهرب، ثم هجا صاحب «البيانات» بقصيدة لاذعة هي «الجثة…» تذكرك بهجاء السورياليين اناطول فرانس وبالعنوان ذاته..

فبريفير لم يصغ كما قلنا القصيدة المتوغلة، او المركبة، قال الشعر المروي، الفطري، الحي، القريب، قاله ببساطة الحكواتي، وببساطة ان تتننفس، او ترى، او تمشي، او تفتح نافذة، لكنها بساطة مليئة بفخاخ الفتنة، مليئة بفخاخ الاسرار، فهي ليست من تلك البساطات المعممة المتناسخة، وانما خاصة وطازجة، يقودها بريفير بمكر، يسوق عناصرها بشفافية، مما يمنحها رشاقة وصفاء وسهولة وجسدا حيا، وهو، في استخداماته اللغوية، سواء لعب ككينو او كابولينير، او افلت السجية (المفخخة)، بلا مقابل، يبدو أحيانا كثيرة كيميائيا مقنعا بالبساطة، يعرف كيف يجمع الطباقات في صور متباعدة مفاجئة، وكيف يؤلف الجرمى من جناسات، وكيف يعابث الايقاعات بسخرية، لكن من دون افتعال، او ادعاء مغامرة، ولهذا بقيت صناعاته غير مفضوحة، وقطبه مخفية، منسابة في حركتها المرتاحة، وفي قرب، وفي الفة، وفي عمومية، او ليس هذا ما يفسر انه الشاعر الفرنسي الاكثر رواجا، وشعبية في فرنسا القرن العشرين، وهو الوحيد في ظل ازمة كساد الشعر وكتبه، الذي تجاوز مبيع دواوينه المليون نسخة، انه ظاهرة خاصة في الشعر الفرنسي.. ظاهرة على حدة، ولا نقول هنا ان التخلف يغذي هذه الظاهرة، ظاهرة الرواج، كما هو الحال عندنا مع بعض شعراء القضايا او شعراء المقالات الصحفية المنظومة الذي لم يسلم شعره من ايديهم، وانما كون بريفير، يعبر، الى ما اشرنا اليه عن روح مدينة، وروح مرحلة، وعن حرية تلقائية حتى الفوضوية في تعامله مع موضوعاته واشيائه وناسه.

على ان بريفير شاعر «كلمات» و«منظر»، و«حكايات» «تعدد في اهتماماته ومهنه، شأنه في ذلك شأن بوريس فيان وجاك كوكتو، فهو اشتغل في السينما مع ابرز المخرجين الفرنسيين، كاوتان لارا، وغريميون، وبيار بريفير (شقيقه) ورنوار، وكتب سيناريوات افلام مهمة كـ«رصيف الضباب (1983)، و«النهار يشرق (١٩٣٩)، و«زوار المساء) (1942)، و«ابناء الجنة» رائعته مع مارسيل كارين التي حولت مسرحية تقدم حاليا في باريس. والى جانب السينما كتب للمسرح، وألف اغاني لفناني البارات والكباريه، وكذلك لكبار المطربين الفرنسيين كاديث بياف وايف مونتان.

بريفير بعد ثلاثين عاما من رحيله، ما زلت تحبه، وترتاح اليه وتحن الى «مناظره» و«كلماته» و«حكاياته» لا حنينك الى عالم انتهى وانطوى، بقدر ما نحن الى عالم طفولي، يومي، تأنس كثيرا الى ما يوقظه فيك، بل وتطمئن الى كونه ما زال في الداخل.. وما زال هناك من يوقظه.

وجه السعادة

يقول لا برأسه

لكنه يقول نعم بقلبه

يقول نعم لما يحب

يقول لا للأستاذ

انه واقف

تنهال عليه الأسئلة

وتطرح كل المسائل

فجأة تنتابه الضحكة المجنونة

فيمحو كل شيء

الأرقام والكلمات

التواريخ والاسماء

الكلمات والفخاخ

ورغم تهديدات المعلم

لو كان عندي اخت

لاحببتك أكثر من أختي

لو كان عندي ذهب العالم

لطرحته عند قدميك

لو كان عندي حريم

لكن محظيتي

٭ ٭ ٭

أحب شفتيك

أكثر من كتبي

نحن كل الحياة

في أي يوم نحن

نحن في كل الأيام

يا صديقتي

نحن كل الحياة

يا حبيبتي

نحب بعضنا ونعيش

نعيش ونحب بعضنا

ونحن لا نعرف ما هي الحياة

ونحن لا نعرف ما هو النهار

ونحن لا نعرف ما هو الحب

ذات صباح في ضوء الشتاء

آلاف وآلاف السنوات

لا تكفي

لتقول

أبدية تلك الثانية الصغيرة

التي قبلتني فيها

التي قبلتني فيها

ذات صباح في ضوء الشتاء

في حديقة مانتسوري في باريس

في باريس

على الأرض

على الأرض التي تحولت الى كوكب

الخريف

حصان ينهدم وسط ممر

تتساقط الاوراق عليه

حبنا يرتجف

وكذلك الشمس

سأطلق سراح من احب

أين تمضي ايها السجان

بهذه المفاتيح المخضبة بالدم

أمضي لأطلق سراح من احب

قبل ان يفوت الأوان

حبيبتي التي سجنتها

بحنان وقسوة

في أعماق رغبتي

في أعماق عذابي

في خداع المستقبل

في تفاهات العهود

أريد أن أطلق سراحها

أريدها أن تكون حرة

حتى ولو نسيتني

حتى ولو رحلت

حتى ولو رجعت

حتى ولو أحبتني

حتى ولو أحبت شخصا آخر

ان أعجبها

واذا بقيت وحدي

وهي رحلت

سأحفظ فقط

سأحفظ دوما

في يدي الفارغتين

والى الأبد.

عذوبة صدرها الذي أخذ شكل الحب.

العشاق المغدورون

أنا، كان عندي المصباح

وأنت الضوء

من باع الفتيل

٭ ٭ ٭

في حلبات الكذب

حصان ابتسامتك الأحمر

يدور

وأنا واقف هنا مسمر

أحمل سوط الحقيقة الحزين

وليس عندي ما أقوله

ابتسامتك حقيقية

كحقائقي الأربع

٭ ٭ ٭

أنا سعيدة

فقد قال لي البارحة

انه يحبني

أنا سعيدة وفخورة

وحرة كالنهار

لم يضف

انه يحبني الى الأبد

الزمان والمكان

الزمان والمكان

المكان والزمان

يتركان الوقت يمر

الحياة هي في الموت

الموت يُعين الحياة.

٭ ٭ ٭

كل مساء

يدعوني الموت الى العشاء

والحياة ساقية

والموت ينزعج.

يموت جيداً من يضحك أخيراً

اعبروا

اعبروا!

اعبروا اذا أشار عليكم القلب بذلك أو ابقوا هنا مزروعين على

أخمص أقدامكم

المرآة المتحركة تهتز اذا سكت القلب

اعبروا ساحل الرمل والقصدير

اعبروا ميقات البحر

اعبروا الألم اعبروا الحزن

اعبروا الشاشة

اعبروا المستندي أو يمّ الجليد

لا تنتظروا جرس الاستراحة

أو بالأحرى انظروا الى انفسكم في جبل جليدي أو في الاسكيمو

المصبرَّ

ليس هناك ما يتمرأى

اعبروا خزانة ذاكرتكم

الثلاجة السوداء

اعبروا الموت

اعبروا اعبروا

وعندما تصلون

لن تسمعوا أبداً

صرخات صانع المرايا الثلاث عشرة

في شوارع السعادة المكسورة.

تصور

يدخل المجنون

يخرج موفد

تدخل ثلاث ساحرات

يدخل الكورس

يدخل الملقن

تدخل امرأة عجوز

يدخل الشبح

يدخل فلاحون برفوش ومعاول

تدخل مرضعة تحمل ولداً ميتاً في ذراعيها

يدخل سيد ذو سكين مضرج بالدم

يدخل بيرام الجدار ضوء القمر والأسد

كلهم يخرجون

شكسبير

النور

لون النور

ولون الظلمة

توأمان من نفس الضوء

الضباب من دون ألق

الذكرى المشمسة

مجرد أعمى مزور

مع كلب باخلاص مزور

جدار

رسم على هذا الجدار

يضيء البيت

ببساطته المتميزة

بواقعيته الظاهرة

النهر

في الكادر في المصب

يحتفظ بنداوته الأولى

وكما في أسفل الجدار

نستطيع أن نرى البناء

نستطيع أن نرى في اللوحة

الفنان على الجدار

بيار شاربونيير الذي ينظر

الى النهر

بحنان وأسى وصداقة

بيقظة ملتهبة.

أغنية

البؤس كان قد ارتدى

ثياب الكذب

كانت ذات أحمر جميل

لون دم القلب

لكن قلبه، هو، كان رمادياً.

منحنياً على البئر

كان يغني لي الحب

كان صوته يصر كالبكرة

وأنا

في بدلة الحقيقة

كنت أصمت وأضحك

وكنت أرقص

في قعر البئر

وعلى الماء الذي كان يضحك أيضاً.

القمر كان يلمع على صفحة البؤس

القمر كان يسخر منه.

نهيم في الليل

أيها الأطفال المحزونون الضائعون

نحن نهيم في الليل،

أين أزهار النهار،

لذاذات الحب

أنوار الحياة؟

أيها الأطفال المحزونون الضائعون

نحن نهيم في الليل.

القمر الأبيض العاري

في السماء يتبعنا

ابتسامته متجمدة

وقلوبنا متجمدة أيضاً.

أيها الأطفال المحزونون الضائعون

نحن نهيم في الليل،

الشيطان يحملنا

بمكر معه.

الشيطان يحملنا

بعيداً عن صديقاتنا الجميلات.

شبابنا مات

وكذلك حبنا…

القمر والليل

تلك الليلة كنت أنظر الى القمر

نعم كنت في نافذتي

وكنت أنظر اليه

ثم تركت نافذتي

نزعت ملابسي

نمت

بعدها صارت الغرفة مضيئة

كان القمر قد دخل

من حيث تركت النافذة مفتوحة

كان هنا، تلك الليلة في غرفتي

وكان يلمع

كان في مقدوري أن أكلمه

كان في مقدوري أن ألمسه

لكنني لم أفعل شيئاً

اكتفيت بالنظر اليه

كان يبدو هادئاً وسعيداً

كنت أرغب في دغدغته

لكنني لم أعرف كيف أتصرف

وبقيت هناك… بلا حراك

كان ينظر إليَّ

كان يبتسم

عندها نمت

وعندما أفقت

كان ذلك في صباح اليوم التالي

… ولم يكن هناك غير الشمس

فوق المنازل.

انه حبي الضائع

لست أنا من يغني

بل الأزهار التي رأيتها

لست أنا من يضحك

بل الخمر التي شربتها

لست أنا من يبكي

انه حبي الضائع

  • Social Links:

Leave a Reply