من الكواكبي الى العظمة الى المالكي الى الآتاسي ـ نضال متصل وقضية واحدة (1-2) ..

من الكواكبي الى العظمة الى المالكي الى الآتاسي ـ نضال متصل وقضية واحدة (1-2) ..

د. حبيب حداد

في كل عام وفي مثل هذا الوقت بالذات ، وعلى امتداد أربعة عقود ونصف عجاف مرت من عمر وطننا ، يطالعنا نظام الاستبداد والقهر والتخلف الحاكم في دمشق بتكرار تذكيرنا نحن السوريين بما يسميه بالحركة التصحيحية . والواقع ان هذا الحدث الذي يمثل في حقيقته ونتائجه ابشع صور مكر التاريخ بالنسبة لمسار عملية التحرر الوطني والاجتماعي للشعب السوري ، قد غدا مع الأيام أشبه مايكون بنوع من الملهاة المأساة التي يرمي تكرار التذكير المبتذل بها محاولة غسل أدمغة مواطنينا و إفهام شعبنا ان لا خيار أمامه سوى القبول والرضى بحياة الاذعان والاستكانة والخنوع لنظام عمل على تدمير كل عناصر ومقومات الوطنية السورية وعطل دور سورية الريادي تجاه القضايا المركزية لامتها وتجاه إسهامها في مجرى التطور الحضاري الإنساني الكوني الشامل .

وبعيدا عن أية نظرة ذاتية أو حزبية او فئوية في تقييم طبيعة هذه الحركة وما جرته على المجتمع السوري وعلى قضايا الأمة عامة من اسواء وكوارث ، فان اصدق حكم موضوعي على ذلك هو ما تشهد به معطيات الواقع الراهن ، فهذه الحركة لم توفر منذ يومها الأول أية مناسبة الا وكانت تعمد فيها لاجترار شعاراتها الخلبية المضللة التي ادعت انها جاءت من أجل تحقيقها بينما كانت ممارساتها على ارض الواقع مناقضة لذلك تماما . من بين تلك الشعارات : تأمين وصيانة حرية المواطن وكرامته وحقوقه ، والقضاء على الفساد والاستغلال والرشوة ، واحترام حرية الرأي والضمير ، وضمانة نزاهة وعدالة واستقلالية القضاء …ومن جانب آخر دعم المقاومة الفلسطينية وتحرير الأرض المحتلة ، وتعزير التضامن والعمل العربي المشترك والسير قدما في طريق الوحدة العربية و..و… الى اخر تلك المعزوفة التي اعتاد عليها اعلام النظام حتى وقت قريب دون آي وازع أو تهيب آخلاقي أو مهني !!! .

وليس قصدنا هنا ، ولا المجال يسمح بذلك ، ان نقوم باستعراض عام لحصاد ونتائج سياسات وممارسات هذا النظام الكارثية على كل الأصعدة منذ اول يوم لقيامه وحتى الان ، لكننا نكتفي بالتذكير بحقيقتين مرتين وقاسيتين عندما نضع هذه الحركة ، والنظام الشمولي الاستبدادي المافيوي الذي جاءت به ، في سياق المسار العام للكفاح الوطني التحرري للشعب السوري منذ مطلع القرن الماضي وحتى يومنا هذا ، باتجاه تحقيق أهدافه في الخلاص من الاحتلال وبناد دولة المساواة والعدالة الديمقراطية التي تؤهله لمواكبة قطار التقدم العالمي .

أما الحقيقة الأولي ، فهي ان هذه الحركة ،، التصحيحية ،، التي كان يطلق عليها الشهيد كمال جنبلاط منذ قيامها الحركة التخريبية ، لأنها حسب رايه وما تبين بعد ذلك جاءت لالغاء وتعطيل دور سوريا الريادي التحرري والعروبي التقدمي ، هذه الحركة تعتبر بلا جدال انقطاعا في مسار تحرر ونهضة وتطور المجتمع السوري علي امتداد القرن الماضي ، وتعتبر في الوقت نفسه تعطيلا واستنزافا لطاقاته وقدراته البشرية والاقتصادية والروحية والعلمية والحضارية التي تشكل رصيد قوته ومناعته وقاعدة تقدمه المتواصل لبناء المستقبل المنشود . فهل يشك احد ان واقع مجتمعاتنا العربية عامة ، وواقع مجتمعنا السوري خاصة في نهاية السبعينات ، كانت أفضل نوعيا وبما لإيقاس منها بعد انقضاء حوالي نصف قرن وفي كافة المجالات . وبرغم ما كان ومازال يطرحه نظام حركة الارتداد هذا من شعارات وطنية وحدوية وتحررية وثورية فان الواقع الذي تعيشه سورية الْيَوْمَ ، واقع الماساة التي تهدد وجودها وواقع استمرار الحرب الأهلية العبثية المدمرة التي تنذر بتقطيع أوصالها ، هو النتيجة المتوقعة التي قادت اليها سياسات هذا النظام على كافة الأصعدة ، وقد كان سمير أمين قد ارجع المصير الذي انتهى اليه كل من النظامين الوطنيين التقدميين في كل من مصر وسوريا نهاية السبعينات الى ارتداد الأجنحة اليمينية داخلهما والانقلاب علي كل سياساتهما وذلك كما رأى بسب اخفاق وتلكؤ هذين النظامين في التحول الى نموذج الأنظمة الديمقراطية الحقيقية وتجاوز تلك الصيغة التي اعتمداها مثل العديد من أنظمة العالم الثالث في تلك الحقبة وهي الصيغة المسماة بالديمقراطية الشعبية . وإذا كان البعض يتفق مع وجهة نظر أمين في أسباب اخفاق مشروع تلك التجربتين الثوريتين في مصر وسورية ، ،فقد كان البعض الآخر يجد لذلك تبريرا في ان تلك المرحلة من القرن الماضي كانت مرحلة الكفاح التحرري لمجموع شعوب العالم الثالث وكانت في الوقت نفسه مرحلة الصراع الايديولوجي الذي يسم ويوجه سياسات كل أطراف المجتمع الدولي ونعني بذلك المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي وحركات التحرر الوطني في العالم الثالث . وكما هو معروف في علم الاجتماع السياسي وكما حصل في كل من سورية ومصر ، فان ما تقوم به كل حركة انقلابية ارتدادية حتى تستكمل بناء مقوماتها واشهار هويتها هو ان ترتد على الكيان الذي كانت جزءا منه ، عاملة على تدمير وتشويه هذا الكيان في محاولة منها لتضليل الرأي العام بأنها جاءت لتصحيح وتقويم هذا الوضع او صنع بديل أحسن . وهذا ما قامت به طغمة  تشرين  الانقلابية  حيث كانت اولى المعارك التي خاضتها هي معركة تدمير الذات و كان لهذه المعركة  ثلاث جبهات : جبهة تدمير حزب البعث العربي الاشتراكي فكرا وخطا سياسيا وقيادات وكوادر واستبداله ،مع الاحتفاظ باسمه ، بجهاز من المنتفعين ، جهاز ليس له من مقومات او صلاحيات اَي حزب ما ، وجبهة تخريب وظيفة و بنية الجيش السوري وتحويله الى اداة في خدمة استمرار النظام ، هذا الجيش الذي عرف طوال تاريخه بروحه الوطنية الصادقة والذي تميز دومابكفاءته المهنية العالية . وجبهة تسميم وطعن الوحدة الوطنية بدل التاكيد على أسس المواطنة المتساوية بين السوريين في الحقوق والواجبات دون اَي تمييز أو إقصاء .

وأما الحقيقة الثانية فهي ان كفاح الشعب السوري من اجل الاستقلال من كل انواع الاحتلال والسيطرة والتبعية ومن اجل تجاوز وضعية التخلف والتجزئة كان كفاحا متصلا وفي منحى متصاعد وكان إنجاز مهمات واهداف كل مرحلة يفتح الطريق ويوفر الامكانات الذاتية لإنجاز المهمات والاهداف اللاحقة وبإيجاز فقد كان الوعي السياسي لمختلف أطراف الحركة الوطنية السورية والوعي الشعبي في صورة عامة يشهد حالة نمو وتطور نحو امتلاك مقومات الوعي المطلوب والمتمثلة أساسا بعناصر الهوية الوطنية الحضارية اَي قيم العقلانية والديمقراطية والعلمانية .

كان شيخ التنويريين العرب في مطلع القرن العشرين عبد الرحمن الكواكبي الرمز الابرز لأولئك الرواد الذين حملوا راية العروبة الانسانية المنفتحة على العصر ، والذين قادوا بفكرهم وكفاحهم مرحلة التحرر من الاحتلال العثماني . وكان من الطبيعي ان تكون المهمة الأولى أمامهم مهمة الاحياء القومي لتعريف اجيال الأمة الصاعدة بتاريخها والدور الذي اضطلعت به في المساهمة في الحضارة الانسانية ، وقد رأي الكواكبي ان استعادة هذا الدور لن يكون الا بالتحرر من كل أشكال أنظمة الاستبداد وان قدرة اَي شعب على تحقيق هذه الغاية لا تتوفر الا اذا امتلك اولا السلاح الأمضى في السعي لنيل مطالبه ألا وهو الوحدة الوطنية ، في هذا الصدد قال الكواكبي مخاطبا بني قومه : هذه امّم أوربا وأمريكا قد هداها العلم لطرائق شتى واصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني ، والوفاق الجنسي دون المذهبي ، والارتباط السياسي دون الاداري . فما بالنا نحن لا نفتكر في أن نتبع احدي تلك الطرائق أو شبهها، فيقول عقلاؤنا لمثيري الشحناء من الأعجام والأجانب ، دعونا يا هؤلاء نحن ندبر شأننا ، نتفاهم بالفصحاء ونتراحم بالإخاء ،ونتواسى في الضراء ونتساوى في السراء . دعونا ندبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط . دعونا نجتمع على كلمات سواء ألا وهي : فلتحيا الأمة ، فليحيا الوطن ، فلنحيا أحرارا أعزاء (طبائع الاستبداد – طباعة المؤسسة الوطنية – الجزاير ص ١٥٠)

في الرابع والعشرين من تموز من عام ١٩٢٠ ، ولَم يكن قد مضى على استقلال سورية من الاحتلال العثماني سوى سنتين ، ابى وزير الحربية يوسف العظمة الا ان يقود بنفسه الجيش السوري الوليد المكون من حوالي ثلاثة آلاف متطوع ليدافع عن تراب وطنه واستقلاله في مواجهة جيش المستعمر الفرنسي الجديد الزاحف من لبنان الذي كان يقوده الجنرال غورو والذي تجاوز تعداده العشرة آلاف جندي والمزود باحدث انواع الأسلحة والعتاد حيث التقى الجيشان فوق بطاح ميسلون . حسمت المعركة كما هو متوقع بنهاية يومها الأول واستشهد يوسف العظمة مع أعداد كبيرة من جنود جيشه الشجعان الذين أبلوا أحسن بلاء في مواجهة المستعمر الغازي ، لكن تلك المعركة بدوافعها ونتائجها ورمزيتها كانت وستظل تمثل صورة ناصعة في تاريخنا الحديث وفي ذاكرة ووعي اجيالنا لانها تجسد اعظم قيم التضحية والفداء دفاعا عن حرمة التراب الوطني . وقد صدق شوقي في تصويره لما يرمز اليه في كل وقت ضريح هذا البطل الشهيد بالنسبة لآجيال الحاضر والمستقبل بقوله :

فكفن بالصوارم والعوالي وغيب حيث جال وحيث صالا

اذا مرت به الأجيال تترى. سمعت لها زئيرا وابتهالا

تعلق في ضمائرهم صليبا. وحلق في سراءرهم هلالا

أما بعد نيل سورية استقلالها من الاستعمار الفرنسي ومباشرتها استكمال مقومات هذا الاستقلال بالسير في طريق التنمية والبناء وتعميق تجربتها الديمقراطية ، فان اكبر تحديين واجهتهما في تلك المرحلة الصعبة هما مواجهة تبعات المشروع الصهيوني والاعداد المطلوب لتحرير فلسطين من جهة ومواجهة الآحلاف الأجنبية التي هدفت لربط دول المنطقة بمخططات الدول الغربية . وكانت سورية آنذاك ومعها مصر الناصرية هما البلدان اللذان تصديا لمشاريع تلك الأحلاف المطروحة وفي مقدمتها مشروع أيزنهاور لملء الفراغ في الشرق الأوسط بعد انحسار النفوذين الإنكليزي والفرنسي في أعقاب حرب السويس ،ومن ثم وبعد فشل هذا المشروع طرح حلف بغداد أو حلف المعاهدة المركزية . كانت سورية في عين العاصفة طوال عقد الخمسينات من القرن الماضي وهدفا مباشرا للعديد من المؤامرات ومحاولات عودة الانقلابات العسكرية التي رمت لتقويض استقلالها وإجهاض تجربتها الديمقراطية الرائدة في ذلك الحين ، لكن سورية برغم كل تلك التحديات والاعاصير صمدت وأفشلت كل تلك المؤامرات التي استهدفت استقلالها وذلك بفضل وعي شعبها ومواقف أحزابها الوطنية وقواها الديمقراطية وبفضل الدور الذي اضطلع بها جيشها الوطني في افشال وصد تلك المؤامرات وفي تحصين هذا الجيش من نزعة العودة الى السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية والتخلي عن وظيفته الدستورية في حماية استقلال الوطن والدفاع عن سيادته . هنا لم تجد تلك الدوائر الأجنبية من أي منفذ أمامها الا ان تلجأ الى وسيلة الاغتيال المباشر باستهداف ابرز قادة جيشنا آلوطني العقيد الشهيد عدنان المالكي ، نائب رئيس الأركان الذي كان بحق مثالا حيّا لوحدة الجيش السوري ودوره الوطني واستعداده لتقديم كل التضحيات المطلوبة لأداء مهمته على أفضل وجه ممكن ، هكذا كان استشهاد عدنان المالكي صفحة ناصعة أخرى في مسار الكفاح التحرري لشعبنا والتضحيات الغالية التي قدمها في مواجهة القوى المعادية التي استهدفت استقلاله واغتيال دوره القيادي تجاه قضايا أمته المركزية .

 

يتبع ..

  • Social Links:

Leave a Reply