زكي الدروبي
بعد مجزرة المريجة وما تلاها في ذلك اليوم، والتي مهدت لاعتصام الساعة الجديدة الشهير، كنت اتابع الاخبار على التلفزيون، وسمعت الصديق محمود عيسى يتحدث على احدى القنوات الفضائية شارحاً الوضع بدقة وأمانة.
كان حديثه حينذاك مملوء بالتوتر والخوف من تحول أحياء المدينة لمتاريس طائفية، يقتل أبناءها بعضهم البعض خدمة لمشاريع لا تريد الخير للسوريين وثورتهم. كان في حلقه غصة, وصوته مبحوح يخنق دموعه خوفاً على حمص, قال إن المدينة مقطعة الأوصال، وأصوات الرصاص تصدح في السماء, ونبه لخطر الاقتتال الطائفي.
عرفت أبو نجم في أحد الاجتماعات السرية للمعارضة في حمص قبل الثورة بعدة سنوات، وهو أب لطفلين, نجم وبحر, ومن المفارقات أنه احتار في تسمية ابناءه، فإن سماهم عمر وخالد فسيحسبون على السنة، وإن سماهم علي وحيدر وحسين فسيحسبون على الشيعة والعلويين، فاختار هذه الاسماء هرباً من الطائفية التي يمقتها, لهذا كان اختياره لأسماء أولاده لايعكس أي انتماء طائفي.
محمود عيسى اعتقل مرتين, الاولى في عهد المجرم الأسد الأب, والثانية في عهد المجرم الأسد الابن, بسبب نشاطه المعارض لحكم مافيا الاسد ضمن حزب العمل الشيوعي المعارض, ونال شهادتين جامعيتين الأولى قي الأادب الانكليزي والثانية في الحقوق. ورغم ذلك بقي فقيراً معدماً, اذ كان مطارداً ومضيقاً في لقمة خبزه باستمرار من قبل عناصر المخابرات, يكفي زيارة من عنصر مخابرات لرب عمل أبو نجم, ليصبح في اليوم الثاني في الشارع.
أبو نجم كان من أقرب أصدقائي, وكان من أوائل من تكلم باسمه العلني مع قناة البي بي سي وفرانس 24، شارحاً قمع وإجرام النظام بحق المتظاهرين خلال الأيام الأاولى من الثورة.
في اعتقاله قبل الأخير، اتصل بي الصديق عمر ادلبي طالباً مني المجيئ مع سيارتي، والتقينا وأخبرني أن أابو نجم اعتقل من قبل أمن الدولة، ويوجد أوراق ومنشورات في منزله يجب أخراجها قبل أن يعودوا لتفتيش البيت، وفعلا ذهبنا سوية لمنزله، وهو شقة أرضية في حي بعيد، لا أعرف اسمه إنما هو شرقي حي الزهراء، وكانت شقته تنم عن فقره، فهي دون بلاط، على الاسمنت فقط، والجدران كانت دون دهان، لازالت على التلييس، ومع فقره كان عفيف النفس كريماً على درجة عالية من الثقافة، يومها سخر عمر من سيارتي وقال لي أن لهذه السيارة فضل على المعارضة السورية.
كان سماع صوته ومشاهدة اسمه على قناة البي بي سي، وقناة فرانس 24، مفاجئاً لي، لم تكن المفاجئة في معارضته للنظام أو جرأته، إنما في مستوى الجرأة، الاعلان عن نفسه بشهادته على اجرام النظام بحق المتظاهرين على القنوات الفضائية علنا وبهذا الشكل : ” محمود عيسى ناشط سياسي من حمص ” ، تكررت شهادته أكثر من مرة على القنوات الفضائية، وفي كل مرة يتحدث فيها كنت أشعر بالخوف، الخوف من أن يصيبه شيئ من النظام، فعقوبته مضاعفة، هو يعارض النظام ويفضح إجرامه، من قتل للمتظاهرين، في الوقت الذي يظهر إعلام النظام صور للساعة الجديدة، وبعض الأماكن في وسط المدينة الخالية من المتظاهرين، مدعياً أن كل ما يحدث كذب وتضليل اعلامي، ولا توجد مظاهرات ولا يوجد قتلى، ومحمود عيسى بنفس الوقت علوي، والمفروض أن ينساق كالقطيع وراء النظام الذي يدعي أنه يحميهم من الارهابيين والمندسين.
كان آخر عهد الحمامصة به اعتصامهم المشهور عند الساعة الجديدة، حين شارك به، والقى كلمة بالجموع المحتشدة, ثم إلى النسيان.
كان هذا الفعل الجريئ من قبله خطرا على مشاريع النظام, فأرسل قتلته محرضين الغوغاء عليه, فهو المندس عميل بندر بن سلطان، وقناة الجزيرة، ويقبض الملايين لقاء تزييف الحقيقة, ومعظم هؤلاء الغوغاء يخاف الخروج من الشرنقة الطائفية التي وضعهم بها النظام في أحياء محددة, وهذا الخوف جعلهم لا يعلمون ما يجري من مظاهرات وحراك ثوري خارج احياءهم, ويكتفون بما تذيعه قناة الدنيا وتلفزيون النظام, حتى أن الكثير من كبار السن لم يكن يصدق أحاديث قتل النظام للمتظاهرين, ومنهم والدي رحمه الله, وكان يجب أن نصل لجمعة الغضب، واسعافي لأحد المتظاهرين إلى باحة المنزل، وخروج روحه بين يدينا عاجزين أن نفعل له أي شيئ، سوى وضع المنشفة على صدره المصاب برصاصة، ومحاولة ايقاف النزيف, حينئذ أيقن أن ما كنت اقوله حقيقة, وهذا ما كان يخيف النظام, فحديث محمود عيسى العلوي للفضائيات، ونقله ما يجري قد يوقظ العقول، وهذا مدمر للنظام. وارساله لهؤلاء الغوغاء رسالة لكل من تسول له نفسه بمعارضة النظام, بأن دمه سيضيع, كانوا يطرقون باب منزله بعنف حاملين السواطير والسكاكين يريدون قتله وعائلته, فهو المندس العميل وهم يقومون بعمل وطني بالقضاء عليه وعلى نسله.
كان الجميع موقناً أنه سيموت على أيدي هؤلاء الغوغاء، وبعد محاولات مستميتة من قبل البعض تم تهريب أطفاله من المنزل كي لايشهدو ذبح والدهم أمام أعينهم، أما الجهات المختصة التي اتصل اصدقاء محمود بهم، مطالبينهم بالتدخل وانقاذه، فقد اعتذرت عن التدخل لانقاذه وقالوا أن الموضوع فتنة، ولا يملكون حيالها شيئ, وبعد ساعة من الاتصالات والترجي (من شان الله تعالوا اعتقلوه), وهذا لعمري قمة السخرية أن تتصل بالمخابرات، وترجوهم اعتقال شخص أفضل من موته على يد غوغاء. وفعلاً جاءت فيما بعد دورية من السياسية وتم اعتقاله ونجا من موت محقق.
المقرف أن احداهن ولن أصفها أو اشتمها, فحتى العاهرات لا يكذبن بهذه القذارة, هذه الاحداهن تتبرع بالاتصال مع قناة الدنيا لتحدثهم الأموال والكمبيوترات والأجهزة التقنية الحديثة التي وجدوها في منزل العميل المندس محمود عيسى حين تم اقتحام منزله, وهو أفقر من أن يقتني جهاز موبايل حديث كما أوضحت سابقاً.
Social Links: