كيف تكون الديمقراطية وكيف لا تكون – فالح عبد الجبار 1/2

كيف تكون الديمقراطية وكيف لا تكون – فالح عبد الجبار 1/2

 

تتابع الرافد نشر المقالات الهامة لعالم الاجتماع العراقي د. فالح عبد الجبار وننشر اليوم الجزء الأول من مقالة بعنوان (كيف تكون الديمقراطية وكيف لا تكون).

 

لقد اضحى تعريف الديمقراطية امرا إشكاليا. والتعريف عويص، نحن معتادون على أن نقول ان هذا ليس بديمقراطية، أي ان نقول إن الشيء ليس كذا، وإن المنظومة ليست كيت. ولكن هذا لا يخبرنا شيئا عن ماهيتها في الحقيقة. نحن نقول مثلا إن لون المادة، وهو واحد من محمولات عديدة، ليس احمر ولا ابيض او اسود. إن هذا النفي تد يستمر إلى نهاية طيف اللون المحتمل والتركيبات المحتملة حش نصل عبر صور نفي لا حصر لها إلى اللون المطلوب. ولكن حين نقرر بان اللون أبيض فنحن ننفي في الواقع وجود كل الألوان الأخرى وتركيباتها المحتملة. لذلك ففي المنطق الكلاسيكي لم يكن النفي تحديدا منطقيا (لا تعريف)، بينما التحديد (التعريف) كان نفيأ شاملا للخواص والمحمولات والشروط ليست ذات العلاقة بالأساس لشيء معين أو جوهر معين. وما ينطبق على الأشياء المفردة، يمكن ان ينطبق على النظم المعقدة. من بين المحاولات المثيرة لتعريف ماهية الديمقراطية من عدمها نجد أن كتابات (فيليب س٠ شميتر) و (تيري لين كارل): “كيف تكون الديمقراطية وكيف لا تكون”، مفيدة في هذا الباب، وأن تحليل الديمقراطية إلى أجناس مقارنة نجد أفضل شرح له في كتاب (هيلد): ” انماط الديمقراطية” ٠

 

إن الديمقراطية التمثيلية الدستورية التي تشمل كل الطبقات والجماعات والأعضاء في وحدة حديثة من التنظيم السياسي أي الدولة – الأمة، هو نظام جديد ينتمي إلى مرحلة متقدمة من العصر الصناعي ولا سابق له قبل هذا العصر. أما أنظمة التمثيل الضيقة فقد سبقت بظهورها الديمقراطية الحديثة، وكذلك مسالة تقسيم السلطات وأيضا نظام القضاء المستقل أو التعددية. إن استقلالية التنظيم الاجتماعي عن الدولة هي أيضا ميزة سبقت نشوء الديمقراطية. مثال ذلك، في العصر الزراعي كان المجتمع منظمآ في جماعات متشظية منفصلة، ومغلقة، آو منظمآ على شكل دولة – المدينة، التي كان مراتبها البطرياركية مستقلة. لكن هذه التنظيمات الاجتماعية لم تستبعد المساواة السياسية فحسب بل أخضعت الفرد وقيدته بأغلال الانتماء القربة أو المحلي. لم يكن للغرباء أو العبيد الحق في الاقتراع في (أثينا)؛ وكذا كان حال النساء والطبقات غير المالكة في الديمقراطيات المبكرة. لقد انتجت المرحلة الصناعية وعززت مجتمعا يقوم على طبقات وجماعات مفتوحة، متغيرة ومتحركة، على أساس المساواة السياسية التي لا تلغي التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية . إن الديمقراطية ليست مثلا أو مبادئ مجردة قد يطبقها المصلح النبيل أو لا يطبقها. هذه المبادئ في شكلها التجريدي هي مجرد تمثلات فكرية للبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المؤسساتية والثقافية والقانونية التي تشتغل على ثلاثة مستويات:

أولا: إنها نظام من علاقات معقدة بين أعضاء وجماعات وطبقات مجتمع ما، يتمتع فيه ويعترف فيه كل فرد أو جماعة أو طبقة بالمساواة أمام القانون على أساس حقهم في حرية النشاط الاقتصادي المنظم في عقود وفي حرية المشاركة السياسية وفي حرية المعتقدات الدينية. إن عبارة “إنسان – واحد – صوت – واحد” تعبر عن المظهر السياسي للمساواة الشاملة.

ثانيا: إنها نظام من العلاقات المعقدة بين المجتمع، في كليته، والدولة، أو، بكلمات أخرى، بين المجتمع المدني، والمجتمع السياسي، بناء على احتكارين: إن المجتمع المدني هو حقل الملكية والنشاط الاقتصادي والثقافة؛ وإذ المجتمع السياسي هو ميدان احتكار وسائل العنف المشروعة وإدارة القضاء دفاعا عن الحياة والملكية والثقافة والحريات ضد أي انتهاك لها سواء أكان داخليا أم خارجيأ٠ إن العقد الاجتماعي ينص على أن، المجتمع المدني يتنازل عن حقوقه في حماية الحياة والملكية إلى “الدولة حاملة السيادة”، وكذلك يموّل هذه الدولة عبر الضرائب ويحتفظ بحقه في محاسبتها وتغييرها .

ثالثا: إنها نظام تقسيم وظائفي – مؤسساتي داخل المجتمع السياسي، أي في بنية الدولة، مثال ذلك أن كل واحدة من مكونات الدولة تقوم بوظيفة محددة بوضوح، ولكن هذه الوظيفة منفصلة مؤسساتيا: مثل السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية . ولكل مؤسسة تنفيذية او تشريعية او قضائية نصيبها من السلطة .

ويقف على هرم السلطة التنفيذية الرئيس ورئيس الوزراء او العرش ومجلس الوزراء. وربما يكون للمؤسسة التشريعية مجلسان (العموم واللوردات في بريطانيا؛ أو مجلس الشيوخ ومجلس النواب في الولايات المتحدة) والقضاء منظم أيضا في نظام من المحاكم والمؤسسات التي تعمل بمجموعها على كبح السلطة التنفيذية أو تضع القيود والكوابح الناظمة ذاتيا لعملها كذلك. هذا التقسيم العمودي والأفقي للسلطة هو الأسلوب الذي ابتكر أصلا لمنع تمركز السلطة . لقد أكد (مونتسيكو) أن السلطة لا تكبح إلا بالسلطة. وكذلك فعل ماديسون في بحوثه الاتحادية (الفيدرالية).

 

إن النظام الديمقراطي القائم على العقد الاجتماعي، وحكم القانون، والحكم بالرضى او التوافق وحكم الأكثرية، حكم دولة المؤسسات ودولة التمثيل الشامل ودولة تقسيم السلطات، المعرضة للمحاسبة والانتقال السلمي للسلطة، لم تظهر هكذا جاهزة؛ بل ولدت في الحقيقة إثر حروب أهلية، وثورات شعبية وحروب قارية وعالمية. وإذ تتفق النظريات السياسية والاجتماعية عموما على ظهور هذا النمط من الديمقراطية الجامعة مع ولادة العصر الصناعي، فإن هذا لا يعني ان أي تحول نحو المجتمع الصناعي الحديث سوف يقود في الحال، في ظل أي ظرف، إلى بناء الديمقراطية. والدليل التاريخي يبرهن ان مثل هذا الادعاء هو إما تجريد فارغ اوادعاء ايديولوجي. إننا نعلم من التاريخ الحقيقي كيف ان النظم الملكية الأوروبية المطلقة قد ابدلت بالبونابرتية التسلطية (فرنسا) او بالفاشية (الشمولية اليمينية)، اوبالستالينية السوفييتية (الشمولية اليسارية)، او الأنظمة العسكرية(اليونان).

 

إن القادمين المتأخرين للعصر الصناعي حولوا اقتصادهم ومجتمعهم تحت سيطرة انظمة اوتوقراطية إصلاحية، مثال ذلك (ميجي) اليابان، او الاتحاد والترقي العثماني، او الأنظمة التسلطية، كنظام بسمارك في المانيا القرن التاسع عشر. وبقيت اوتوقراطيات الماضي تجرجر اذيالها حتى بواكير القرن العشرين في روسيا واليابان والامبراطورية العثمانية.

 

وحيثما نضجت الديمقراطية اتخذت مسالك عدة: ففي بريطانيا قادت الأرستقراطية الميالة للحلول الوسطية والطبقة الوسطى القوية والدولة الضعيفة في القرن السابع عشر إلى ثلاثية اجتماعية قوامها العرش – اللوردات – العموم. وفي فرنسا افضى حال الطبقة الوسطى القوية وضعف النبلاء بإزاء الدولة القوية في أواخر القرن الثامن عشر إلى انفجار ثوري ازاح كلّا من النبلاء والعرش. لقد كانت الديمقراطية الفرنسية راديكالية وشاملة وفورية. وقد وقعت ضحية راديكاليتها، وتطلب ما يقارب قرن من الزمان من الجمهوريات المتعاقبة كي تستقر. ولكون إنكلترا جزيرة منعزلة، ولكنها أمة ذات تجارة بحرية نابضة، كان لديها جهاز حكومي ضعيف؛ وكانت فرنسا دولة مفتوحة بريا وتحتاج إلى جيش قوي وبيروقراطية كفوءة. على العكس من ذلك، كانت أميركا بلدأ شاسعأ له ارض واسعة، تحولت إلى بلد مكتف ذاتيا من الفلاحين وارباب العمل، حيث الجماعات المحلية منظمة على النمط الأثيني من الديمقراطية المباشرة. وعلى نقيض المدن الأوروبية المكتظة كان بإمكان المدن الأمريكية الصغيرة ان تجمع “العامة من الناس” في الساحة المركزية للنقاش والانتخاب والمصادقة على كل ما يبتغيه المجتمع) ٠ بقي النبيل الفرنسي (اليكسىس دو توكفيل) مذهولا امام المشهد الأمريكي: كل شيء يتحرك، ولكن ليس ثمة محرّك ظاهر، هكذا لاحظ. لقد بدأت الديمقراطية الأمريكية بمجتمع مدني قوي، لم يكن مقسما إلى نبلاء وعامة على الغرار البريطاني، أو على الغرار الفرنسي ذي الطبقات الثلاث: النبلاء والأكليروس و”الطبقة الثالثة” (المالكون في المدن). كان لأميركا مجتمعاتها المحلية القوية ودولة ضعيفة مركزيا (بيروقراطية صغيرة العدد، وجيش صفير العدد). أشار (توكفيل) في واحدة من صياغاته المأثورة انه حينما يتطلب الأمر إقامة مشاريع عامة في امريكا، مثلا، كان ثمة دائما جمعية او رابطة مساندة له، وفي انكلترا ثمة دومأ لورد او ارستقراطي، وفي فرنسا، كان ثمة دائمأ الدولة (الحكومة).

 

ما تخبرنا به هذه المسالك المختارة هو أن تطور العصر الصناعي كان متفاوتاً، وأن نتائجه لم تكن دائما ديمقراطية، ولم يكن السبيل نحو الديمقراطية معبدا، وان التواريخ القومية والعالمية تحدد وتيرة وشكل بنية ونشوء النظام الديمقراطي.

فإذا كان العصر الصناعي هو عصر رأسمالية – السوق العقلانية والديمقراطية، فيمكن لنا قول ما يلي:

أولا: إن المجتمعات الزراعية أو ما قبل الصناعية تدخل إلى العصر الصناعي في مراحل مختلفة من تطور هذا الأخير: في الثورة الصناعية الأولى، أو الثانية أو الثالثة، نزولا إلى مرحلة المعلوماتية والروبوتات والأتمتة، أي الحقبة التكنونيوترونية.

ثانيا: إذ المجتمعات ما قبل الحديثة تدخل إلى العصر الصناعي من مختلف مراحل تطورها هي: فبعضها يتمتع ببنية سياسية مركزية؛ وآخرون لا يزالون في مرحلة بدوية ما قبل سياسية. قارن مثلا العراق تحت الحكم العثماني أو خلال الانتداب البريطاني في عشرينيات القرن العشرين ومجتمع الجزيرة العربية ما قبل نشوء المملكة السعودية العربية الذي كان من دون سلاطين. ثالثأ: إن هذا التحول نحو العصر الصناعي الذي يمكن أن نسميه أيضا المجتمع التجاري، أو المجتمع الرأسمالي، قد يتخذ أشكالا عدة: أ – الرأسمالية الخاصة، أي الطبقة الوطنية أو الطبقة الخاصة الأجنبية من أرباب العمل؛ أو، ب – رأسمالية الدولة، أي الدولة بوصفها رأسماليا جماعيا؛ ج- رأسمالية المحسوبية (خليط من الطبقة الفاسدة ولكن المتماسكة من موظفي الدولة وأصحاب رأس المال الخاص)؛ د – رأسمالية القرابة، المبنية على العوائل الكبيرة التي تقف على قمة الهرم السياسي لنظام يحمل السمات الإرثية.

إن الرأسمالية الخاصة المعززة برأس المال الخاص الفردي أو المتشارك (شركات مساهمة)، كان كقاعدة، موائمآ للتطور الديمقراطي؛ بينما رأسمالية – الدولة (مثل ميجي في اليابان في القرنين التاسع عشر والعشرين، وألمانيا بسمارك في القرن التاسع عشر، وروسيا ستالين في ثلاثينيات القرن العشرين، لإيراد بعض الأمثلة) لم تكن ملائمة لهذا التطور شانها شان رأسمالية المحسربية التي تميز الحكم التسلطي في بعض الدول النامية (مثل مصر واندونيسيا في ظل حكم سوهارتو)؛ او رأسمالية القرابة التي هي نظام فرعي للحكم الإرثي (كدول الخليج والبعث في العراق). إن النخبة الحاكمة، كالعائلات الملكية أو المشايخ، (كما هي الحال في الخليج)، او الجماعات القرابية الحاكمة (كما هي الحال في العراق في ظل البعث) تستخدم موقعها في السلطة والمال العام لتطور أعمالا تجارية عقلانية (متأسسة على الحساب الاقتصادي) أو لاعقلانية (من خلال الأتاوات المنتزعة والاحتكار المدعم من السلطة)، وبذلك يستعملون السلطة السياسية لجمع الثروة، وليس العكس. كلا هنين الشكلين يفضيان إلى اندماج السلطتين السياسية والاقتصادية في أيدي القلة، ويخلقان طبقات وسطى راضخة، مطواعة فاقدة لأي استقلال، وهو الشرط الاجتماعي الذي يكبح التطور الديمقراطي.

وستكون النتيجة النهائية لكل هذه الأنماط هي إما ظهور مجتمع اقتصاد سوق مؤسساتي قوي أو ضعيف، أي مجتمع إما مستقل عن المجتمع السياسي، او خاضع له، مجتمع اقتصادي متميز عن الدولة وعن اقتصادها الأوامري.

رابعا: إن الانتقال إلى العصر الصناعي أو إلى الاقتصاد التجاري الحديث يتضمن، كقاعدة عامة، تدمير وتحويل أشكال الملكية وأشكال الثقافة وأساليب الحياة ومنظومات القيم ما قبل الحديثة بأشكال جديدة. مثل هذا التغير الاجتماعي — الاقتصادي يطلق حمم تنا حرات اجتماعية وسياسية وثقافية عارمة. إن المجتمعات المتقدمة، التي تتوافر على طبقات ناضجة قليلا أو كثيرا، وثقافة وتكوينات اجتماعية — اقتصادية حضرية قوية، وطبقات وسطى وعليا ناضجة، وطبقة نبلاء أو أرستقراطية مالكة، وعمال حضر تعير في العادة في مار سياسي يختلف كثيرا عما كان لدى المجتمعات الحرفية والزراعية ذات السكان البدو والمدن الضعيفة.

وحيثما تتبلور طبقات حضرية قوية وموحدة، وفوق كل شيء طبقات وسطى مالكة لرأس المال والأرض، فإن للديمقراطية الدستورية فرصة للارتقاء. أما إذا كان العداء بين هذه الطبقات الحضرية الجديدة (العمال وفئات دون الطبقة الوسطى ضد الطبقات الوسطى والعليا) شرسا جدا فإن المجتمع يضعف بأجمعه إزاء الدولة، حتى لو كانت هناك طبقة وسطى قوية. وعموما فإن التوازنات وعلاقات القوى بين الطبقات العليا الحديثة والأرستقراطية المالكة والفلاحين (ثم فيما بعد) العمال الصناعيين الحضريين، هي التي تحدد اتجاه التطور الديمقراطي ودرجته.

أما حين يحدث الانتقال إلى العصر الصناعي من مستوى متدن جدا في التطور الاجتماعي الاقتصادي، من الاقتصاد البدوي – الحرفي والتجارة البدائية بعيدة المسافات (وتمثل الجزيرة العربية أفضل مثال لها) يكون نشوء الديمقراطية غاية بعيدة المنال.

خامسا: إن الانتقال التاريخي إلى العصر الصناعي قد يتوافق مع انطلاق توجهات قوية نحو بناء – الأمة، الأمر الذي قد يعرقل أو يساند بناء الديمقراطية “إيطاليا (مازيني)، ويابان (الميجي)، وألمانيا (بسمارك)” وإن للدول ذات العرق الواحد فرصا أفضل من الدول المتعددة الأعراق التي قد تعاني من اضطراب مزمن.

تمثل كل هذه النقاط الخمس مزيجاً من المقاربات السوسيولوجية والاقتصادية والسياسية والثقافية لمسالة نمو وبناء الديمقراطية. وقد اصيح (بارنغتون مور جونيور) المثال التقليدي للمقاربة السوسيولوجية. وتتلخص اطروحته في جملة واحدة: وجود طبقة وسطى قوية يعني الديمقراطية.

  • Social Links:

Leave a Reply