تطور التيارات القومية في المشرق .. والموقف من الإسلام ــ فالح عبد الجبار

تطور التيارات القومية في المشرق .. والموقف من الإسلام ــ فالح عبد الجبار

 

إن التمييز بين النزعة القومية العربية والإسلام، او في الواقع فصل الواحد عن الآخر، برز في وقت مبكر من القرن العشرين بسبب الحاجة للتمايز عن الأتراك، وتأسيس هوية اثنية مستقلة، وبسبب الحاجة لوحدة تتجاوز الانقسام المذهبي (السني، الشيعي) وتتجاوز الانقسام الديني (المسيحي، الإسلامي) في المشرق الذي يتميز، بالتعدد الطائفي الديني، خلافا للمغرب الذي يتصف بوحدة دينية بل حتى مذهبية (إن أغفلنا الأقلية اليهودية والمسيحية).

غير ان التمايز بين العنصرين الاثني والديني، رغم مثوله المبكر، لم يكتسب تعبيرا نظريا عنه إلا بالتدرج، وبالتحديد عقب الحرب العالمية الأولى. ومنظر هذه الاتجاه هو ساطع الحصري.

كانت تلك حقبة جديدة: فالانتماء للدولة العثمانية على أساس الوحدة الدينية، أو الانفصال عنها على أساس التمايز الاثني (القومي) حقبة ذهبت مع الريح. وبرزت بعض الدول الصغيرة في المشرق، ا الممزقة داخليا بانفصال الجماعات الطائفية والدينية، رغم أن هذه الدول عينها كانت، بمعنى من المعاني، في تعارض مع وحدة قومية أكبر للعرب في إطار المشرق على الأقل.

لقد كان الحصري في مطلع نشاطه من دعاة الجامعة العثمانية، وقد غيّر اتجاه ولائه نحو العروبة. تأثر الحصري بالفكر الكلاسيكي القومي الفرنسي والألماني، وبخاصة المفكر الألماني فيخته. إلا انه كان عليه ان يواجه قضية خلق دولة قومية حديثة من ركام الطوائف والجماعات الصغيرة (في العراق مثلا) وقضية

الانفصال بين الأمة العربية ذات الوجود التاريخي، والدولة القومية الواحدة الغائبة سياسيا (في العالم العربي)

ومن المفيد ان نلقي نظرة نحو مفاهيم الحصري. الأمة عند الحصري كيان روحي يقف فوق الأعراق والطوائف والأديان، بل يقف فوق التاريخ. الأمة اشبه بنات متعالية. وما اللغة المشتركة، والتاريخ إلا عناصر مكونة لهذه الذات. الأمة، عند الحصري، هي كائن حبي بالحياة والشعور، اللغة هي حياته، والتاريخ شعوره.

ويصطدم 1لحصري، المطّلع اطلاعا ثريا، بأنماط |لدول القومية، اي أنماط الاثنيات المتناغمة دينيا او عرقيا او لغويا، او حتى المتنافرة، فيضطر إلى اقامة حدود فاصلة بين الأمة والقومية من جهة والدولة (هنا = الدولة القومية) من جهة أخرى، بين الوطنية من جانب، والوطن كرقعة جغرافية من جانب آخر.

إن الحصري يمزق الترابط العضوي بين هذه العناصر المكونة لمركّب واحد. فكل عنصر يشكل عنده كيانا قائما بذاته. لم هذا الفصل الغريب؟، اوعلى الأقل لم فصل الأمة عن الدولة او الوطن عن القومية؟ الجواب يكمن في تنوع أشكال وأنماط الدول القومية، والجواب يكمن أيضا في (الوضع) الخاص ل (الأمة العربية) التي اعدت هذه النظرية دفاعا عن وحدتها.

فالأمة المفترضة في العالم العربي لم يكن لها آنذاك، كما ليس لها اليوم، اية دولة حقيقية خاصة بها. فثمة افتراق بين الشكل النظري للأمة: اللغة + التاريخ، وبين واقعها الفعلي. وفي اي افتراق للافتراض النظري عن الواقع، يمجد النظري.

زد على ذلك ان نظرية الأمة – اللغة – التاريخ تقف في تضاد مع كثرة من دول اميركا اللاتينية، او سويسرا متعددة اللغات. الحصري سيجيب: هذه دول لا أمم.  فالقومية في نظر الحصري، هي خاصية طبيعية في الإنسان، شان الحواس والأطراف والأنف والعينيين! والإنسان بحسب التعريف الفلسفي الذي يردده الحصري: حيوان ناطق، عوضا عن المقولة الأرسطية الشهيرة:

الإنسان حيوان سياسي.

ويبدو لي ان خيار النظرية القومية الألمانية، وبالذات فيخته، يرجع إلى امور هامة عدة، بينها ان الفهم الفرنسي للقومية مثلا يقوم على تعريف يحدد الأمة في إطار دولة تقوم على إقليم محدد، ويتمتع بمبدأ الكفاية العددية، إضافة إلى مبدأ (إرادة الشعب) في العيش المشترك (الذي ولده رينان مثلأ). لقد عارض الحصري هذه التعاريف الفرنسية، واختار الصبغة الألمانية نظرا لأن الأمة الألمانية، بحسب النظري، سبقت نشوء الدولة القومية الألمانية، وهذا مقارب للحال النظري للأمة العربية عند الحصري، فهي موجودة تاريخيا، ولكن الإطار الجغرافي، الرقعة الأرضية لهذه الأمة موزعة على إدارات سياسية، دول، يمكن نفيها بمعسول الكلام بالقول إنها : دويلات، أو بإضافة نعت : مصطنعة. ويبدو أيضأ آن نهضة ألمانيا في فترة ما بين الحربين كانت مثار أعجاب قطاع من القوميين العرب، لما انطوت عليه من حيوية حضارية.

وما يعنينا هنا أكثر من سواه أن النموذج العلماني، والسلطوي، للقومية العربية (في الصياغة النظرية طبعا) يصل مع الحصري إلى ذروته. الواقع أن صياغات البعث والناصري بقدر ما يتعلق الأمر بالأمة والقومية، إلخ… لم تكن أكثر من إعادة انتاج لمفاهيم الحصري عموما، مع وجود فوارق أساسية في مجالات أخرى (البعد الاجتماعي مثلا).

خلاصة الأمر، أن اللغة والتاريخ المشترك هي، عند الحصري، قوى التلاحم المؤسسة للأمة. اما العلاقات الدينية والأواصر الثقافية والاقتصادية فقد عورضت وأقصيت. وقد وقف الحصري بقوة في وجه الأشكال المحلية آو التاريخية للنزعة القومية: الفينيقية، الفرعونية، العراقية، كما عارض بقوة مماثلة النزعة القومية الدينية – الثقافية (تيارات الأخوان المسلمين) والمفهوم الماركسي للامة (عند لينين وستالين).

  • Social Links:

Leave a Reply