في القوانين والقضاء وبناء الديمقراطية – مرو حمزاوي

في القوانين والقضاء وبناء الديمقراطية – مرو حمزاوي

في القوانين والقضاء وبناء الديمقراطية مرو حمزاوي

من بين المقومات الأساسية للديمقراطية أن تنص النظم القانونية والقضائية على أن حرية التعبير عن الرأي ذات صلة عضوية بالمصلحتين العامتين المتمثلتين في مناقشة المواطنين للقضايا محل الاهتمام الجماعي، وفي الرقابة الشعبية على عمل وأداء السلطات العامة. هنا تعتبر حرية التعبير عن الرأي، تداولا للمعلومات والمواد وتعبيرا عن الآراء المختلفة ونشرها، مكونا أساسيا للانتصار للمصلحتين العامتين هاتين ومن خلالهما لحماية التنظيم الديمقراطي للدولة والمجتمع.

فيما خص عمل السلطة القضائية، يتيح التنظيم الديمقراطي التعليق على أحكام المحاكم وأوامرها ونشر المعلومات والمواد والآراء المتعلقة بها وتقييمها والنقاش حولها دون أن تعد أفعال وأقوال الأفراد وموظفي العموم في هذا الصدد مناوئة للمحاكم، شريطة الامتناع الشامل عن الانتقاد والتجريح الشخصيين لأعضاء الهيئات القضائية الذين يتمتعون بالحق الأصيل في صون كرامتهم الشخصية والمهنية وحماية سمعتهم والامتناع أيضا عن تجريح أطراف المنازعات المنظورة أمام المحاكم الذين يتمتعون بالحق الأصيل أيضا في صون الكرامة وحماية السمعة وتطبيق فرضية «البراءة حتى تثبت الإدانة» والتمتع بضمانات التقاضي العادل والمحاكمة العادلة. لى سبيل المثال، تشتمل النظم القانونية والقضائية الأنكلو ساكسونية على مواد تتعلق بما يسمى «التشنيع على المحاكم» الذي يتضمن أفعال وأقوال تكيف كإخلال بالثقة الشعبية في السلطة القضائية. وقد تكررت أحكام للمحاكم في دول كبريطانيا وأستراليا وكندا (وبدرجة أقل في الولايات المتحدة الأمريكية نظرا لغلبة النزوع إلى حماية الحرية التعبير عن الرأي في النظام القضائي الأمريكي على كل ما عداه) رامت عند النظر في التشنيع على المحاكم إحداث شيء من التوازن بين مقتضيات الحفاظ على الثقة الشعبية في السلطة القضائية، وبين مصلحة المواطنين المتمثلة في رقابة المجتمع على السلطات العامة ومناقشة أعمالها بغية الفهم والتقييم وربما التقويم.

ي هذا السياق، أقرت محكمة استئناف كندية في عام 1987 في معرض تناولها لمنازعة بشأن التشنيع على المحاكم أن «المحاكم، ونظرا لأهميتها، حتما تكون عرضة للتعليق والانتقاد. وفي بعض الأحيان سيضيع المنطق. فالأفراد الذين يلتجأون إلى المحاكم للفصل في منازعاتهم قد يعلقون على الأحكام بكلمات غير منضبطة تماما. وفي أحيان أخرى، قد يكون النقد الموجه لعمل المحاكم مشروعا، وربما استحقت بعض المقترحات التطبيق.

بيد أن الأمر المؤكد هو أن المحاكم ليست كالورود الهشة التي تتطاير أوراقها في حمية النقاش العام. فالمحاكم تثبت المرة تلو الأخرى قدرتها على العمل بجودة وفاعلية في الظروف الصعبة. والنظرة العامة للمحاكم بين أوساط الناس تتسم بالإيجابية لأن المحاكم تستحق الاحترام. ولذلك لا تحتاج المحاكم أن تتخوف من الانتقاد أو أن ترسخ لحواجز غير ضرورية تحول دون أن ينتقد البعض سير عمليات التقاضي أو يشتكون من قراراتها». سبقت المحاكم الأسترالية نظيراتها الكندية في إقرار حق المواطن والمجتمع في تناول عمل المحاكم بالنقاش والتعليق والانتقاد. فتضمن حكم للمحكمة العليا الأسترالية النص التالي: «لا يوجد سبب واحد يحول دون توجيه الانتقاد لأعمال المحاكم شأنها شأن غيرها من السلطات والمؤسسات العامة، والتي تعد البرلمانات من بينها. الحقيقة الوحيدة هي أن السلطات والمؤسسات العامة في المجتمع الحر لا تملك سوى أن تستند في صدقيتها بين الناس إلى أعمالها وأدائها والكيفية التي تدار بها.

ليس في الإمكان إضفاء القدسية على السلطات والمؤسسات العامة حين تفتقد أعمالها أو يفتقد أدائها إلى احترام وثقة المجتمع. وعلى نفس المنوال، إذا كانت أعمال السلطات والمؤسسات العامة تتمتع باحترام وثقة المجتمع، فهي لن تحتاج إلى قواعد أو اشتراطات خاصة لحمايتها من الانتقاد». ذلك، جرت النظم القانونية والقضائية الأنكلو ساكسونية في معرض تعاملها مع ادعاءات أو اتهامات موجهة لأفراد أو موظفي عموم بشأن التشنيع على المحاكم على اشتراط حضور القصد الجنائي أو المخالفة العمدية في الأفعال والأقوال المنسوبة إليهم لكي ينظر فيها كمخالفات. بعبارة أخرى، تشترط المحاكم لمحاسبة المواطنين على «التشنيع» أن تتثبت من تعمد الإخلال بالثقة الشعبية في السلطة القضائية أو تعمد تشويه القضاة وتتثبت من حضور قصد الإضرار بأعمال السلطات والمؤسسات العامة.

جرت المحاكم الأنكلو ساكسونية أيضا على استبعاد «الانتقادات الموضوعية» الموجهة لعملها وأحكامها بما في ذلك الانتقاد اللفظي الحاد من قائمة الأفعال والأقوال التي تعد تشنيعا على المحاكم أو مناوئة للقضاء، وأقرت اعتبارها بمثابة ممارسة شرعية وذات قبول قانوني لحرية التعبير عن الرأي ولمصلحة المواطنين في الرقابة على السلطات والمؤسسات العامة. ن بين المقومات الأساسية للديمقراطية، إذا، أن يسود التعامل الموضوعي مع السلطة القضائية باعتبار أعمالها كأعمال السلطات العامة الأخرى تقبل النقاش والتعليق والتقييم والتقويم كقضايا رأي عام.

من بينها، ثانيا، أن تتثبت المجتمعات من كون الثقة الشعبية في السلطة القضائية والمحاكم مرهونة بتقييم المواطنين لأعمالها وأحكامها وأدائها والكيفية التي تدار بها أمورها، ولا ينتقص منها أبدا أن يتناولها الناس بالنقاش والتعليق والانتقاد شريطة الابتعاد عن التعرض للأشخاص بالتجريح. من بينها، ثالثا، أن يستقر التعامل مع حرية التعبير عن الرأي والرقابة الشعبية على السلطات العامة بصورة تضمن الابتعاد عن اتهام الأفراد وموظفي العموم بمناوئة المحاكم أو بالتشنيع عليها حين يتولون أعمالها وأحكامها بالمناقشة، خاصة حين يرتبط الأمر بفئات كالصحافيين والإعلاميين والسياسيين الذين من خلال تعبيرهم عن آرائهم يمكنون الناس من الاهتمام بالقضايا العامة وتحديد تفضيلاتهم بشأنها.

كاتب من مصر

  • Social Links:

Leave a Reply