غوته ومرحلة فايمار والرحلة الإيطالية وشيللر وبونابارت
حسونة المصباحي
في مذكراته، كتب غوته يقول:»أعتقد أن موهبتي هي القاعدة الأضمن. منذ بضع سنوات وهي لا تتركني ولو لحظة واحدة. ما أنا أراه في النهار، في حالة اليقظة، غالبا ما يتخذ في الليل شكلَ الأحلام المُنْسَجمة. وعندما أفتح عيني، يتكشّفُ أمامي أمّا مجموع جديد وغريب،أو جزء من شيء كان موجودا من قبل”. هذه الفقرة من المذكرات، تبيّنُ بجلاء أن الشاب غوته أدرك وهو في تلك المرحلة من حياته التي ستكون مديدة، أن الأدب سيكون طريقه الوحيد .لذا سينكبّ على العمل والكتابة بشكل محموم. والأحداث والمغامرات التي عاشها منذ عودته من سترازبوغ حيث دَرَسَ الحقوق، وحبه للوته، وافتنانه بالطبيعة، والمشاعر المتناقضة التي كانت تتنازعه، وكل هذا سوف يجد له مكانا في عمله الإبداعي الأول “آلام فرتر” الذي صدر في خريف عام 1774 ليجلب له في الحين شهرة واسعة لا في ألمانيا وحدها، بل في العديد من البلدان الأوروبية. وسعيدا بهذا النجاح غير المتوقع ،كتب غوته يقول:»من جديد أحسّ أنني فرح وحرّ تماما مثلما عقب إعتراف جماعي.والآن أنا مؤهّل لحياة جديدة. والدواء هذه المرة كان مناسبا لي تماما. ولكن وأنا أشعر بالإرتياح لأنني حوّلت الواقعَ إلى شعر ، يخطئ أصدقائي حين يعتقدون أنه من الضروري تحويل الشعر إلى واقع. وتقليد هذه الرواية أو تلك، والإنتحار إذا ما اقتضى الأمر ذلك”.
وقد عاش غوته قصة حب أخرى . والحبيبة في هذه المرة تدعى ليلي شونمان كان قد التقى بها في إحدى الحفلات الراقصة،وأحّبها من النظرة الأولى. وبعد اللقاء، كتب لها يقول:»تفتّحَ الربيع في الجبال ،ولم يعد له من الآن فصاعدا نفس الجمال الذي كان يفتنني من قبل. حيثما كنت أيتها الملاك، يكون الحب، وحيث ما كنت، تكون الطبيعة”. إلاّ أن الفشل كان بالمرصاد لقصة الحب العاصفة تلك. وعجوزا كتب غوته يقول متحدثا عن ليلي:»لم أكن أبدا قريبا من سعادتي مثلما كان حالي أيام حبي لليلي. العقبات التي حالت بيننا لم تكن في الحقيقة صعبة التجاوز. مع ذلك فقدتها. لقد كانت الأولى التي أحسست نحوها بحب عميق ،وحقيقي. وأستطيع أن أقول أيضا إنها كانت الأخيرة إذ أن جميع نزعات الحب التي هزتني فيما بعد كانت خفيفة وسطحية مقارنة بحبي لليلي”.
أواخر عام 1775، إنطلق غوته إلى فايمار بدعوة من حاكمها شارل أوغست.وكان في نيّته أن يمضي هناك بضعة أشهر غير أن القدر شاء أن يظل في فايمار حتى اللحظة الأخيرة من حياته. ومشرفا على إدارة حكومة الإمارة، أظهر غوته براعة وخبرة وحنكة في مجال الشؤون الإجتماعية والإقتصادية والمالية. وقد مكنه عمله الجديد من اكتساب صداقات سوف يكون لها تثير كبير على أعمله الأدبية والفكرية. أما المرأة التي شغلت قلبه في هذه المرة فتدعى شارلوت دوشتاين. وهي إبنة ماريشال في البلاط كانت تكبرُه بسبع سنوات. وكانت متزوجه. وكان هو أيضا متزوجا.إلاّ أنّ هذا لم يمنعه من أن يُهيم بها حبا وذلك بالرغم من أنها صدّته عنها أكثر من مرة، بل أفشت بسر حبه لها إلى طبيبها الخاص الذي هدّد بمعاقبته. ولما تركت فايمار، بعث لها برسائل محمومة:»سيدتي العزيزة، أنت تعلمين كم أنا أتألم بسبب حبك !». وفي نهاية عام 1777 استعاد غوته هدوءه وسكينته ،فانصرف إلى الإهتمام بعائلته الصغيرة،وبحديقته. وفي مذكراته ،كتب يقول:»يبدو لي أن هناك تحوّلا بدأ يطرأ عليّ إلاّ أن ليس باستطاعتي أن أفسّره”. لكن هذا التحول سرعان ما اتضح وانكشف إذ عاين غوته أنه عليه أن يولي اهتماما أكبر لعمله الإبداعي لكي” يكون متساويا مع عظماء الرجال”. كما عاين أيضا أن الزمن يمضي بسرعة. لذا يتحتم عليه أن “يتحاشى تأخير ما يأمل في إنجازه من أعمال قبل أن يهشّم الموت كل شيء، ويظلّ صرحُ بابل غير مكتمل”.
صرح بابل؟ …نعم، هذا ما كان غوته يبتغي إنجازه بعد أن تجاوز سنّ الثلاثين. وها هو يسعى للحصول على التوازن الداخلي ،وعلى الإنسجام الذي طَبَعَ حياة عظماء الإغريق ، واللذين بدونهما لا يمكن للمبدع أن يحقّقَ الذي يطمح إليه. وفي عام 1988، هربا من الإدارة ومن الجو العائلي الذي بدأ يخنقه، ويحدّ من حريته، قرّرَ غوته السفر إلى إيطاليا ليقترب من نور الشرق المبهر. وكانت تلك الرحلة منعرجا جديدا في حياته، بل يمكن القول بإنها كانت بمثابة ّالولادة الجديدة” بالنسبة له.من وحيها كتب عمله “أناشيد رومانية”. وفي هذا العمل الذي حقّقَ له المزيد من الشهرة، عبّرَ عن حنينه إلى الضوء المتوسطي، وإلى المعابد والمسارح القديمة، وإلى الألوان الصارخة، وإلى الليالي المضاءة بالنجوم،وإلى القمر الذي يبدو أكثر صفاء من نهار الشمال”. وفي فايمار، تختلط ذكريات الرحلة بأحداث الواقع : »الآن أشعر بحماس فيّاض فوق الأرض الكلاسيكية .عالم الأمس وعالم اليوم يتحدثان إليّ بصوت أكثر علوّا وأكثر سحرا وجمالا.أتصفّح بيد نشطة أعمال القدماء، وفي كل يوم بمتعة جديدة. لكن في الليل، يستبدّ بي الحبّ بطريقة أخرى”.
غوته يحظى الآن بشهرة واسعة،وأعماله الأدبية تملأ الدنيا،وتشغل الناس. إلاّ أن كلّ هذا لم يكن يعنيه كثيرا. ما كان يعنيه هو ان يستكمل “بناء ذاته”،وأن يثنْجز تلك المشاريع التي كانت تتزاحم في ذهنه. وكان على هذه الحال عندما اندلعت الثورة الفرنسية لتطيح بالنظام الملكي في صيف عام 1789. وقد تابع غوته أحداثها لحظة بلحظة ،ويوما بيوم،وشهرا بشهر. وفيما بعد، وتحديدا في الرابع من شهر يناير-جانفي 1824، أسرّ إلى أيكرمان صاحب كتاب : »محاورات مع غوته” قائلا:» لم يكن باستطاعتي أن أكون صديقا للثورة الفرنسية إذ أن فظائعها وأهوالها كانت قريببة جدا مني، وكانت تغيظني كل يوم، بل كل ساعة، في حين أن نتائجها الإيجابية لم تكن قد توضحت بعد.ولم يكن باستطاعتي أن أظلّ لامباليا أمام الذين حاولوا بصورة مصطنعة إثارة أحداث في ألمانيا في حين أن هذه الأحداث في فرنسا كانت نتيجة ضرورة كبيرة. وكان لا بدّ أن أشير إلى أنني لم أكن صديقا للإستبداد وللنظم التعسفيّة. وكنت على اقتناع تام بأن أية ثورة كبيرة ليست أبدا خطأ الشعب، وإنما خطا الحكومة. إن الثورات مستحيلة إذا ما كانت الحكومات عادلة و ومُتَيقّظة وقادرة على تلافيها بإجراء الإصلاحات اللازمة”.
ولم يكن قد تبقى من القرن الثامن عشر غير ستة اعوام، حين ارتبط غوته بعلاقة صداقة قوية مع شيللر الذي كان قد غادر لايبتزيخ ليقيم في فايمار .وكان ذلك في عام 1794. وفي البداية لم يكن شيللر يرتاح كثيرا لغوته. بل لعله كان يعتقد أنه سيكون حاجزا يعيقه عن الحصول عن الشهرة النجاح. أما غوته الذي كان كان قد عاد من إيطاليا حيث بحث عن “الصفاء في جميع فروع المعرفة والفن”، فقد اكتشف أعمالا مهمة، كانت قد صدرت خلال غيابه. وكانت مسرحية” الصوص” لشيللر من بين تلك العمال. حال إنتهائه من قراءتها، أحسّ برغبة جامحة في التعرف على كاتبها. وقد تمّ اللقاء بين الأديبين في بيت غوته. وعلى مدى ساعات، دار حوار ساخن بينهما شمل الفلسفة، والأدب ليفضي في النهاية إلى نشوء علاقة صداقة متينة ، قد تكون نادرة في تاريخ الآداب العالمية. وفي بداية عام 1805، سقط كل من غوته وشيللر مريضين. وفي التاسع من شهر مايو-أيار من العام المذكور، توفي شيللر فكتب غوته يقول : »٠ كنت أعتقد أنني انا الذي سأموت .وها انا أفقد صديقا .وبفقدانه أفقد نصف وجودي”.
عقب شفائه، أنهى غوته رائعته”سنوات تدرُب فيلهالم مايستر” التي سيعتبره النقاد أول رواية ألمانية حديثة بالمفهوم الحقيقي للكلمة. بعدها أنهى مسرحيته الشهيرة”فاوست” . وقبل إنهائها، إلتقىى بنابليون بونابرت في أيرفرت في الثاني من شهر أكتوبر -تشرين الأول 1808. والحوار الذي دار بينهما ظل طيّ الكتمان إلى أن كشف غوته جوانب منه في الحوار مع ايكرمان وذلك عام 1824 : »كان الإمبراطور جالسا إلى طاولة كبيرة مدوّرة.وكان بصدد تناول غدائه. على يمينه، واقفا، بعيدا إلى حد ما عن الطاولة، تالايران. قريبا منه، على يساره، دارا الذي كان يتحدث معه حول شؤون المساهمات. أشار إليّ الإمبراطور أن أقترب. بقيت واقفا أمامه على مسافة مناسبة. بعد أن نظر إليّ مليّا، قال لي بالفرنسية:»أنت رجل!». أنحنيت إجلال له فسألني:»كم سنك؟” أجبته :ستون عاما” فردّ هو:» لقد حافظت جيدا على صحتك .٠..هل كتبت مسرحيات؟”.٠أجبته بما هو ضروري. وهنا أخذ دارا الكلمة،وتحدث عني مثلما يمكن أن يتحدث عني رعاة شؤوني في برلين،مضيفا بأنني نقلت من الفرنسية كثيرا من الأعمال.بعدها تحدثنا عن “آلام فرتر” التي يبدو أنه قرأها جيدا”.
غادرت القوات الفرنسية ألمانيا سنة 1814، فحلّ السلام بين البلدين من جديد. وكان غوته الذي قد أنهى عملا إبداعيا آخر ، يعيش كثيرا من الأحداث التي عاشتها بلاده في تلك الفترة. وبسبب عشقه للشرق وشعرائه، شرع في تأليف” الديوان الشقرقي للمؤلف الغربي”.وفي عام 1816، توفيت زوجة غوته ،وتزوج إبنه. وللتخفيف من متاعب الشيخوخة وآلامها، قرر غوته أن يمضي فترة إستشفاء في مارينباو .وهناك عشق فتاة فائقة الجمال تدعو أولريكا فون ليفيتروف. وكان هو في الرابعة والسبعين.أما هي فكانت في التاسعة عشرة من عمرها. مع ذلك تحدى الشاعر العجوز الشيخوخة محاولا إستعادة إشراقة الشباب، وتوهج الحب الأول. وفي الثاني والعشرين من شهر مارس-آذار 1832، توفي غوته.وكانت آخر كلمة قالها:» لم يعد هناك ضوء”. وقبل بضعة أسابيع من وفاته، قال لأحد أصدقائه:»من أنا؟ لقد تقبلت واستوعبت كلّ ما كان في متناولي.أعمالي هي أعمال كائن جماعي يحمل هذا الإسم:غوته”؟
Social Links: