ميخائيل سعد
لم أكن أريد البوح بهذا السر، خوفًا من “البهدلة”، فالإنسان “الختيار” يصير “مكسر عصا”، عند الناس، وبخاصة من المقربين منه مع كل غلط يرتكبه، كما يقول المثل الشعبي، لكني تراجعت عن حذري، وقررت الكلام لأن فيه منفعة عامة، ولو كان في الأمر شماته من زوجتي، التي تُنفق على البيت.
هذا الصباح، في طريق عودتي من المستشفى، بعد الحصول على موعد لتصوير يدي هذه المرة، وليس صدري، دخلت شارعًا فرعيًا، مررت فيه سابقًا مئات المرات، كي أصل إلى البيت بأسرع وقت، لمتابعة النميمة مع صديقي الإسطنبولي علي العائد، عن صبايا إسطنبول، قبل زواجه. فجأة نبت مثل وردة جورية في وسط الشارع شرطي خمسيني، مع “سكسوكة”، وأشار إليّ أن توقفْ على اليمين، ففعلت مبتسمًا، لأني لم أفعل شيئًا خاطئًا، وكنت على ثقة “مطلقة” بأنني لم أرتكب أي مخالفة. وحمدت الله في سري على أنني البارحة تمامًا دفعت ضريبة تجديد شهادة السواقة، إضافة إلى ضريبة النمرة، وضرائب الضرائب، وكان مجموعها 460 دولارًا كنديًا، واحدًا ينطح الآخر؛ فعلامَ الخوف من الشرطي؟ ثم إنني -من حسن الحظ- لست في سورية، كي أخاف أن يتهمني شرطي المرور “بالنيل من هيبة الدولة”، أو الوقوف قبل الحاجز.
توقفت على اليمين، وفتحت بلور الشباك منتظرًا وصول الشرطي، فالقانون هنا يمنعك من مغادرة السيارة، عندما يوقفك الشرطي. عندما وصل، وكانت الابتسامة في مكانها، قال: صباح الخير، بالفرنسي الفصيح: هل أستطيع رؤية شهادة السواقة؟ قلت له: طبعًا، ولكن هل لي أن أعرف لماذا تريد رؤيتها؟ قال لي: لقد ارتكبتَ مخالفة عند دخولك الشارع، ثمة لوحة لم تتقيد بها تقول: ممنوع الدخول ما بين السابعة صباحًا والتاسعة. قلت: لم أرَ أي لوحة. قال: بعد أن أكتب المخالفة، سأرافقك كي تراها.
شرح لي -بكل ودّ وتهذيب- أنه حاول أن يضع الحد الأدنى من المخالفة، وهي 65 دولارًا، احترامًا لسني، ولأنني أقود بهدوء، ولأنه لم يجد في ملفي الإلكتروني، عندما دخل إليه من كمبيوتر الشرطة الموجود في السيارة، أي مخالفة، لذلك اكتفى بالحد الأدنى.
قلت له: هل تعرف أن هذا المبلغ هو مقدار تقاعدي لمدة يومين. أنا أفهم أنك هنا لتطبيق القانون، ولكن هل هدف القانون هو جباية الأموال من المواطنين أو حمايتهم؟
قال الشرطي، الذي كانت تغيظني ابتسامته الدائمة: بالتأكيد، يا سيدي، إن هدف القانون هو حماية المواطنين، وتأمين راحتهم، لذلك سأشرح لك سبب منع المرور في الشارع في هذا الوقت، ولماذا أنا أطبق القانون: سكان هذا الشارع الصغير تقدموا بطلب إلى البلدية، وأنا من موظفيها، لوضع اللوحة التي تشير إلى منع المرور في هذا الوقت، لأن أولادهم يخرجون إلى المدارس صباحًا، هذا أولًا، وثانيًا لأن أغلبية السكان قد وصلوا إلى سن التقاعد، مثلك، ولا يستطيعون تجاوز الشارع بسرعة في أثناء مرافقتهم لأحفادهم، أو خروجهم لشراء حاجياتهم اليومية. ولما كانت رواتبنا مصدرها من الضرائب، التي يدفعها المواطنون؛ كان لا بد من تلبية حاجاتهم وتأمين حمايتهم.
بعد أن ناولني المخالفة، قال: الآن تفضل لنذهب معًا سيرًا على الأقدام إلى بداية الشارع، وهناك أشار إلى اللوحتين اللتين تحملان تحذير المرور؛ واحدة في منتصف الشارع، والأخرى على زاوية الشارع اليسارية.
شكرتُ الشرطي، ولم أنسَ أن أقول له إنني في هذا الحي منذ عشرين عامًا، وقد مررت عشرات المرات في هذا الشارع، ولكنها المرة الأولى التي أرى فيها التحذير.
عندما صعدت إلى سيارتي، وكان ما يزال قرب الباب، قلت له: كان بإمكانك العفو عن غلطتي غير المقصودة، على الأقل من أجل الشيب المشترك، والذقن المشتركة، ولكي تجنبي “بهدلة” من زوجتي.
قال: القانون، عزيزي المواطن، لا يميز بين الناس، حسب لون شعرهم، ولا حسب لون جلدهم ولا أعمارهم. الشيء الأكيد أنك لن تنسى بعد الآن هاتين اللوحتين، وستكون عيناك مفتوحتين مستقبلًا، عندما تدخل أي شارع. أتمنى لك يومًا موفقًا، وحظًا طيبًا مع زوجتك التي ستكون غاضبة منك لعدم انتباهك إلى الطريق وإليها. عدت إلى البيت، وقد انقطع نفسي، وتبخرت رغبتي في النميمة عن الصبايا مع علي العائد.
Social Links: