نعم، كانت المظاهرات المنادية بالحرية ثم إسقاط النظام تخرج من المساجد بعد صلاة الجمعة في المدن السورية كافة، وهذا لا يعني بأن المصلّين هم وحدهم الذين قاموا بالثورة السورية ضد بشار الأسد وطغمته الحاكمة، فقد كانت أماكن توزع المساجد في المدن والأرياف كافة عبارة عن نقاط تجمّع لجميع مكونات الشعب السوري بكافة أطيافه وميوله، الإسلامية منها والعلمانية. فيوم الجمعة في الأساس هو يوم تعطيل كافة مؤسسات الدولة الخاصة منها والحكومية، ناهيك عن الأعداد الغقيرة التي تتوجه نحو المساجد لأداء فريضة صلاة الجمعة مما يشجّع على اعتماد هذا اليوم مع توقيت الخروج من المساجد للتعبير عن الرفض العام لممارسات النظام الجاثم على صدور السوريين لأكثر من أربعة عقود..
قبل ذلك، وأقصد في الأسابيع الأربعة أو الخمسة الأولى من اندلاع الثورة، كانت بعض، إن لم أقل معظم مساجد المدن، عبارة عن مراكز للتشبيح على الثوار السلميين الذين يدعون للخروج بمظاهرات من تلك المساجد، ففي مدينتي ديرالزور على سبيل المثال، وغالبية أهل الدير يذكرون جيداً ما حصل في مسجد الروضة في حي الجبيلة، الذي كان من أوائل الأحياء المحررة في المدينة لاحقاً، حين قام بعض المصلين بضرب وشتم وطرد أكثر من عشرة شبان نادوا بالحرية بعد انتهاء الصلاة فأصيبوا بخيبة أمل جعلتهم يتوجهون إلى مساجد أخرى في المدينة محاولين إقناع الناس بالخروج لنصرة أهالي درعا وبانياس ودوما..
ولم يختلف الوضع كثيراً في جامع آخر وهو جامع الصفا في حي العمال الديري، حين نهض أحد الشبان، وهو الطبيب حسين الغثوان، طالباً من خطيب المسجد التحدث عن أخطاء النظام وجرائمه بحق المتظاهرين السلميين في المدن السورية، مما دفع مجموعة من أهالي المنطقة المتواجدين ضمن المصلين، ومن بينهم الخطيب نفسه، بضرب وإهانة الطبيب، وتم على إثرها تسليم واعتقال ستة شبان من قبل الأمن السوري، اثنان منهم استشهدا لاحقاً.
وأمام المد الثوري وضغط الأهالي يوماً بعد يوم وأسبوعاً بعد آخر أخذت المساجد تأخذ دورها في استقطاب وانطلاق المظاهرات رغم التشديدات الأمنية المحيطة بها لا سيما في أوقات صلاة الجمعة. فأذكر على سبيل المثال الكثير ممن لا يصلّون عادة يقومون بالتوجه لأداء الصلاة أو الوقوف بجانب المساجد ينتظرون فروغ المصلين من صلاة الجمعة والخروج من المسجد، للمشاركة في نداءات الحرية والسلمية وإسقاط النظام، وكان لأولئك المذكورين الدور الكبير والفعال بتجهيز وكتابة اللافتات لرفعها لحظة ابتداء المظاهرة، كما كان لهم الدور الكبير في تشتيت انتباه عناصر الأمن والشبيحة عن مراقبة المساجد والمصلين، وبالتالي حمايتهم وضمان نجاح خروج التظاهرة دون خسائر كبيرة. ولعل أول الشهداء الذين سقطوا في ديرالزور كانوا ممن لا يقصدون المساجد عادة، وأهالي المدينة يعرفون أسماءهم جيداً ابتداءاً من الشهيد الأول معاذ الركاض وصولاً إلى القائد الميداني في الجيش الحر قيصر الهنداوي بعد تطوّر الحراك إلى الثورة المسلحة.
الشعب السوري واحد
في تلك الأيام، كان جميع من في البلد يهتفون بصوت واحد: الشعب السوري واحد، وهي لله لا للسلطة ولا للجاه، والله وسوريا وحرية وبس، وثورة مدنية.. إسلام ومسيحية.. وسنة وعلوية، ويلعن روحك يا حافظ… إضافة إلى أغاني الثورة التي ابتدأها في مدينة حماة الشهيد القاشوش، مثل “يلا إرحل يا بشار، وسوريا بدا حرية” والتي أضاف عليها الديريون عشرات المقاطع لتناسب لهجتهم، فكانت بحق من أجمل الصيحات وأنقاها. ووقتها أيضاً لم يكن يُرفع سوى علم الجمهورية العربية السورية ثم علم الاستقلال ولم تُرفع أية رايات أو أعلام بيضاء أو سوداء أو رمادية غيره.
ليس ذلك وحسب، بل كان المتظاهرون في الساحة المركزية للمدينة، والتي كانت تدعى ساحة الباسل قبل قيام المتظاهرين بتحطيم تمثاله مع الحصان، كانوا يمنعون كل من يهتف بهتاف من شأنه إثارة النعرات الدينية أو الطائفية أو حتى المناطقية والعشائرية. فأذكر في إحدى الاعتصامات قيام أحد الهُتّاف بالدعاء للشيخ العرعور فما كان من جميع الحاضرين يومها إلا إنزاله والصراخ بوجهه بل تعدّى ذلك إلى توجيه أحدهم لكمة على وجهه نسي على إثرها الهتاف بأكمله!
بعد اجتياح النظام الأول لديرالزور في رمضان من العام 2011واشتداد القبضة الأمنية لبضعة أشهر بعدها، بدأت تظهر على الساحة الثورية أفكار وشعارات ورايات جديدة لم يألفها الديريون قبلاً أخذت تتغلغل داخل بعض الشرائح الاجتماعية في الوسط الشبابي الديري ولا سيما أصحاب النوازع المتطرفة أو من كانت لديه تجارب مع بعض الجماعات السلفية أوتعرّض هو أو أحد أفراد عائلته لملاحقة النظام والاعتقال في فترات سبقت قيام الثورة السورية، فصاروا يحملون مع الوقت بعض الأعلام البيضاء والخضراء واللافتات ذات الرموز الدلالية الإسلامية دون التعرّض لهم، فعبارات التوحيد وألفاظ الجلالة هي من صميم ثقافتنا الإسلامية، لا سيما وأن مواطني المحافظة من المسلمين، والسنّة بالذات. وبعيداً عن استغلال النظام لتلك الشعارات والرايات في إعلامهم المرئي ليصدّر إلى دول الغرب أن الثوار عبارة عن إرهابيين وقاعدة وغير ذلك، ما يلفت بالأمر بأن هؤلاء بدؤوا يظهرون على الملأ على أنهم قادة الحراك السلمي الأول، وبعضهم كان كذلك لكنه كان يُبطن توجهاته في البدء، وقادة الكتائب المسلحة ضمن الجيش الحر بعد تشكيله في الآخر، وهنا بدأت عملية حرف الحراك الثوري عن خطه الرئيسي ليتضح للجميع بعد حين من الوقت أن الدعم المقدم من بعض الدول، وعلى الأخص الخليجية منها، كان موجهاً للكتائب الإسلامية التي كانت معتدلة في البداية إلا أنها تحولت مع الوقت، أو تكشّفت، إلى جماعات راديكالية لها شعاراتها وأجنداتها الخاصة وراياتها التي رفعتها بعد أن أنزلت علم الثورة السورية من الأماكن المحررة لتحل محلّه تلك الرايات السوداء، فكانت جبهة النصرة التي لم يحسب لها حساب في البداية من قِبل كتائب الحر، إلى أن استولت على المدينة كاملة تدريجياً ومبايعة قسم كبير من الكتائب المسلحة لها، فتوزّعت مكاتبها وسراديب اعتقالاتها للأهالي وهيئاتها الشرعية في المدينة ومعظم ريف المحافظة.
وهنا لا بد من الإشارة إلى وجود بعض الفصائل التي دعيت بالإسلامية في تلك الأثناء لكنها لا تمت إلى المفاهيم الشرعية بصلة، وكان عددها خمسة.. تلك الفصائل كان يصلها الدعم من قبل بعض التيارات السلفية رغم أنها لا تتبع أي تيار ديني أو عقائدي.. التيار الوحيد الذي كانت تتبعه هو تيار المال فقط، وذلك ما جعلها سريعة التقلب والانصياع تحت إمرة الذي يدفع أكثر! ولا يخفى على أحد من ديريي الداخل أسماء تلك الفصائل وقادتها والشخص الذي يتلقى الدعم الرئيسي لها، وهو للأسف أحد أعضاء الائتلاف السوري المعارض، وعليه تقع المسؤولية الكبرى في حرف مسار الثورة وما لحقه من تسليم المدينة مؤخراً بعد مبايعته ومبايعة فصائله لتنظيم الدولة.. داعش!
وبالعودة إلى النصرة، سبق ذلك التطور المفاجئ والسريع للجبهة عملية مريبة وخطيرة ما زال الديريون يعيشون مأساتها حتى اللحظة وهي الغارة الجوية التي أجراها النظام واستهدف بها مبنى سجل القيد المدني (النفوس) المحرر بالمدينة، بتاريخ 26/9/2012 حيث كان قد دعي عليه كافة قادة كتائب وفصائل الجيش الحر مع ممثلي المجالس والهيئات القضائية والمدنية والنشطاء الإعلاميين لإجراء اجتماع يخص المحافظة، فكانت نتيجة الغارة استشهاد معظم أولئك القادة والممثلين الذين تجاوز عددهم الخمسين شخصاً، وكانوا من خيرة شباب البلد وأكثرهم اعتدالاً. تأكد بعد ذلك أن الغارة كانت مبيتة والنظام على علم تام بالاجتماع الذي كان محضّراً في تلك الساعة المشؤومة.
وعلى ما يبدو أن هذه الحادثة كانت المقدمة المناسبة لهيمنة الجبهة، بالتعاون مع فصائل تيارات المال السابقة الذكر، على كافة مرافق المدينة المحررة وامتداداتها في الريف الشرقي، ليكتمل بعد ذلك سيناريو تسليم المدينة على طبق من ذهب إلى دولة الخليفة “داعش” الشقيق الأكبر والأقوى للجبهة وشريك العقيدة والنهج.
Social Links: