اغتصاب العقل – عمر قدور

اغتصاب العقل – عمر قدور

اغتصاب العقل – عمر قدور
لم تكن نسبة كبيرة من السوريين بحاجة لمشاهدة فيلم “الصرخة المكبوتة” للتأكد من وجود عمليات اغتصاب ممنهجة في زنازين الأسد، ربما يفيد الفيلم لرميه أولاً في وجوه مدّعي معارضة أو ثورة أنكروا سابقاً وجود عمليات اغتصاب في تلك الزنازين. أمثال هؤلاء سيبادرون بلا شك، بعد الأدلة التي تفقأ العين، إلى إنكار الغرائز الطائفية التي تمنهج هذه الاستباحة، ربما بالإشارة إلى أن من نفّذوا عمليات الاغتصاب هم أشخاص متعددو المنابت الطائفية في خلط متعمد بين إدارة هذا النهج وأدواته، وفي تمييع لا تخفى مقاصده لمفهوم الاستباحة التامة بوصفه جريمة كاملة الأركان ضد الإنسانية.
للتذكير، الاغتصاب الممنهج لم يقتصر على النساء، فقد طال أيضاً الأطفال والرجال. وهو بمفهوم الاستباحة يهدف إلى تجريد الضحية من كافة أركان وجودها الإنساني، بموازاة تجريدها من حق الحياة نفسه عبر أعمال الإبادة الواسعة، وعبر عمليات الاعتقال الكثيفة على خلفية انتماء مناطقي فقط، أو بسبب صلات القرابة مع نشطاء في صفوف الثورة. وللتخلص من التركيز على المفهوم الشرقي للشرف من المفيد تذكّر عمليات الاغتصاب الجماعي الممنهج التي رافقت عمليات الإبادة في جمهوريات يوغسلافيا السابقة، أي أن فعل الاغتصاب وإن أخذ أهميته من ارتباطه بمفهوم الشرف في مجتمعاتنا إلا أن ما يحرّكه في كافة الأمكنة هو تدمير الضحية كلياً، واعتبار الصراع مع هذه الضحية “وما تمثّله” صراع وجود لا يكون الانتصار فيه إلا بسحقها. استخدام السكاكين وذبح الضحايا من قبل شبيحة الأسد دلالة أخرى على نوعية الوحشية التي لا تتواجد إلا في هذا النوع من الحروب، مع التنويه بأسبقية اعتماد أسلوب الذبح قبل اقترانه لاحقاً بتنظيم داعش. هذه عموماً سمة الصراعات التي تُستخدم فيها المسألة الطائفية، أو التي تُستخدم فيها الأيديولوجيات الفاشية والعنصرية بمختلف أنواعها، وفي حالتنا السورية لن يكون توصيفها الواقعي والقانوني أقل من الهولوكوست الذي استهدف به النازيون اليهودَ والغجر.
الجزء الثاني من فيلم “الصرخة المكبوتة”، الذي عرضته القناة الفرنسية الثانية، أتى بعد أيام بحوار أجرته القناة ذاتها مع الرئيس ماكرون. الرئيس المتذاكي ابن مدرسة البنوك، كما تصفه شريحة واسعة من الفرنسيين، لم يتورع بعد عرض الفيلم عن تكرار القول بأن داعش هو عدوه وأن الأسد هو عدو الشعب السوري، وأنه يجب بدء الحوار مع الأخير بعد الانتهاء من داعش. في بلد يجرّم إنكار الهولوكست أو التقليل من هول المحرقة يخرج رئيسه ليتجاوز القانون الدولي بلا خجل، وكأنه لم يسمع بتوصيفات من قبيل “جرائم ضد الإنسانية”، أو بهيئات مثل “محكمة الجنايات الدولية”. المسألة هنا لا تتوقف عند تدني الحساسية الأخلاقية تجاه البشرية ككل، وإنما تصل إلى حد اغتصاب العقل البشري بجعله يقبل الجريمة في مكان ويرفضها في مكان آخر، بحسب هوية الضحية، وفي إنكار يرقى إلى درجة العنصرية لمجمل الاتفاقيات الدولية ولمسؤوليات فرنسا كعضو دائم في مجلس الأمن. ولكي يكون التمييز على أشدّه فقد بادرت الرئاسة الفرنسية مؤخراً إلى سحب وسام “جوقة الشرف” من المنتج هارفي وينشتاين على خلفية اتهامه بقضايا التحرش الجنسي، بينما تتلكأ في سحب الوسام نفسه الذي كان جاك شيراك قد منحه لبشار الأسد. لكن الأمانة تقتضي القول بأن ماكرون يستأنف سياقاً لم يكن له فضل تأسيسه، فمنذ بداية الثورة ونشر التقارير الحقوقية عن التعذيب والاغتصاب في زنازين الأسد، وصولاً إلى صور المجازر العلنية في الحولة وبانياس والبيضا…إلخ، كان اغتصاب العقل جارياً بترويج تلك المخاوف الدولية من البديل عن تنظيم الأسد. فوق الدم أريقت بحار من الحبر لمناقشة ذلك التساؤل عن البديل، وكانت الفرصة سانحة لمزاد إبراز مساوئ المعارضة، أو فيما بعد للنفخ في بعبع داعش وغيره من المتطرفين، من أجل طمس الجرائم الأصل وإسكات أصوات الضحايا. فلم يكن ينفع مع مروّجي تلك الجائحة القول بأن البديل ليس داعش وأمثاله ولا هذه المعارضة، ولا القول بأن البديل يُفترض أن تأتي به الإرادات الحرة لمجمل السوريين، وبالطبع لم يتوقف أحد منهم عند نقطة أساسية هي أن مكان السفاح هو قاعة المحكمة لا قصور الرئاسة.
استباحة العقل توازي بآثارها استباحة الأجساد، من حيث أنها تسعى إلى إقناع الضحية بالتطبيع مع الجريمة، وأن يكون التفكير انتقائياً بحيث يقبل من تنظيم الأسد ما لا يقبله من تنظيم داعش. ثم يتوجب على هذا العقل قبول التزام من طرف واحد، إذ يعتبر داعش عدواً مشتركاً للبشرية بينما ترى الأخيرة في بشار عدواً للسوريين فحسب. الاغتصاب الممنهج في معتقلات الأسد،بقدر ما يحمل من الأذى، ستتضاعف حمولته وتزداد إيلاماً مع الاغتصاب الرمزي الذي يستهدف العقل قبل المشاعر. وسيكون من المعيب، وفيه ما فيه من قلة الكرامة، رد ذلك هذا الأذى المركب إلى محض تعامل شرقي مع قضية الشرف، خاصة بالمقارنة مع مجتمعات قد تجرّم شخصاً بتهمة التحرش بسبب نظرة ذات مغزى جنسي.بهذه المقارنة نعود إلى المبدأ الذي يوصّفه اغتصاباً، من حيث أنه اعتداء على الإرادة الحرة للطرف الآخر، ويكون التمييز في منح أفضلية الحرية لضحايا التحرش الجنسي في الغرب على ضحايا الاغتصاب الممنهج اللواتي لا يُنظر إليهن كمستحقات حرية. في هذه النقطة، نقطة عدم اعتراف قادة غربيين بأهلية ضحايا الأسد، لا يقل أولئك القادة بشاعة عن أهالٍ تقليديين قتلوا بناتهن ضحايا الاغتصاب في المعتقلات.
الحق، إذا أجرينا مقارنة معاكسة، أن ضحايا الاغتصاب اللواتي ظهرن في الفيلم “وغيرهن كثيرات أدلين بشهادات أمام منظمات حقوقية” هن أكثر شجاعة وحرية من نجمات سكتن سنوات طوال على تحرش جنسي. مرة أخرى يجدر بنا عدم التركيز على مسألة الشرف التقليدية لئلا تصبح الشجاعة مقتصرة على مواجهة المجتمع المحلي، فعدوّ تلك النسوة ليس مجتمعهن في المقام الأول وإنما هو تنظيم الأسد المجرم ومَن يشاركه في جريمة الاغتصاب صمتاً أو إنكاراً أو تقليلاً من شأنها.
من دون محاكمة المجرمين ستبقى الاستباحة معممة، وغير مقتصرة على الضحايا من الدرجة الأولى أو الثانية، ومن دون تحقيق العدالة سيكون محتماً ازدياد نوازع الثأر الأعمى، بما في ذلك الثأر من الذين دعموا الاغتصاب الجسدي بمحاولات اغتصاب رمزية. في انتظار تحقيق العدالة يوماً، رغم ضآلة الأمل بذلك، أسوأ أنواع التعاطف المحلي مع الضحايا اللواتي ظهرن في الفيلم هو الذي يأتي على شكل ذكورة مطعونة في شرفها، لأنه تحت ستار هذه النخوة اللفظية يعزز إحساسهن بالعار، بينما العار الحقيقي أبعد ما يكون عنهن.

  • Social Links:

Leave a Reply