في وسع المرء ألا يختلف، البتة، مع سلسلة أسباب متشعبة تُساق بصدد تفسير الاحتجاجات الشعبية التي تعمّ تونس هذه الأيام، وتذكّر ـ بقدر ما تنذر، في الواقع ـ بوقائع مماثلة شهدها الشهر ذاته: في سنة 1978، أيام حكم الحبيب بورقيبة؛ وفي سنة 1984، أيام زين العابدين بن علي.
ثمة رفع الدعم عن مواد غذائية أساسية، أسفرت عن ارتفاع أسعار الخبز والحبوب؛ وزيادة نسبة الضريبة المباشرة على القيمة المضافة (أسوأ أنماط الجباية الضريبة، التي تصيب الجميع على نحو عشوائي، دون اعتبار القدرة الشرائية أو محدودية الدخل)؛ واعتماد سياسات جديدة تستهدف خفض التوظيف في القطاع العام، وفرض التقاعد المبكر؛ وتباطؤ الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والخدمية، مقابل غرق الأحزاب السياسية في صراعات المحاصصة وتقاسم النفوذ؛ وما إلى هذه وتلك من إجراءات كفيلة باستفزاز، واستثارة، الشارع الشعبي العريض.
مدهش، في المقابل، أنّ أحد أهمّ الأسباب وراء معظم هذه الإجراءات، وهي جوهر الاحتجاج ومبعث السخط، إنما يكمن في السياسات التي فرضتها على تونس اثنتان من كبريات المؤسسات المالية الرأسمالية الكونية؛ أي البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي. هذا ما تتوقف عنده، بتفصيل دقيق موثق، الخبيرة الاقتصادية التونسية جهان شندول، من «المرصد التونسي للاقتصاد»، في مقال نشرته الـ«غارديان» البريطانية قبل أيام.
مسلسل التقشف القسري، الذي فُرض على تونس، كان قد بدأ مع قمة الـ 8 – G في مدينة دوفيل الفرنسية، أيار (مايو) 2011؛ حين تشكلت صيغة «شراكة دوفيل مع البلدان العربية المتحولة»، بعضوية البلدان الثمانية، وتركيا، ودول الخليج العربي، بالإضافة إلى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وأمّا البلدان «المتحولة»، فقد كانت تونس والمغرب والأردن واليمن ومصر، وقد فُرضت عليها سياسات تمزج بين التقشف الصارم في الداخل، والليبرالية الجديدة المفتوحة في الخارج؛ وفي رأس هذا المزيج كانت الوصفة الكلاسيكية للصندوق، أي «برنامج التعديل الهيكلي»، الذي يُعتبر قاعدة شرطية قبيل تقديم أي قرض لأية دولة نامية.
ومنذئذ، باتت تلك «الشراكة» هي عماد السياسات الاقتصادية في تونس، لكن تطبيقاتها على الأرض، وفي حياة الفئات الشعبية الفقيرة والمتوسطة بصفة خاصة، تجلت في تفاقم الدين العام، من 41% من الناتج المحلي الإجمالي في سنة 2010، إلى 71% مطلع هذه السنة. ولأنّ الاقتصاد التونسي تطلب المزيد من القروض، وحصل عليها بالفعل في دفعتَيْ 2012 و2016؛ فإنّ العاقبة المباشرة كانت إعادة تقييم العملة الوطنية، وإعادة النظر في دعم السلع الغذائية، كما تضخمت خدمة الديون الخارجية حتى باتت تشكل 22% من ميزانية البلد للعام 2018.
هذه النتائج الكارثية هي المعادل الموضوعي لوصفة صندوق النقد الدولي الكلاسيكية، في أيّ بلد شهد تطبيقها على نحو قسري، وذلك لسبب جوهري أوّل هو أنّ التنمية الاقتصادية الحقة لا تتمّ بالدَيْن؛ كما أنها، ثانياً، لن تقف على قدم راسخة ما دامت قيود الدين مجحفة مكبلة. وفي الأساس، كان الصندوق قد وُلد لكي يضمن التوازن المالي في اقتصاد عالم مفتوح، ولكي يكون بديلاً عن معيار الذهب، الأمر الذي انطوى نظرياً على مساواة صارمة في تطبيق سياسات تدخّل الصندوق لتعديل التوازن عند جميع الفرقاء، سواء تضخم ميزان المدفوعات أو انكمش وعجز. في المقابل، كان اعتماد نظام عامّ لتعويم العملات سنة 1973 قد دشّن النهاية الحاسمة لصورة الصندوق في ولادته الأولى تلك، فأصبح دور الضبط مرتهناً بما تقرّره قمم العمالقة السبعة، التي صارت ثمانية، ثمّ تضخمّت اليوم إلى عشرين.
وهكذا، إلى جانب مشكلات حكومة يوسف الشاهد، وسواء أكان الرجل ضحية خياراته الشخصية؛ أم هذه وقد خضعت لصراعات حزبه «نداء تونس»، وبعضها يطلب رأس الحكومة ذاتها؛ أم لعب تجاسره على محاربة كبار ضباع الفساد دوراً في التعجيل بمحاقه، بعد صعود نجمه… فالثابت أنّ «شراكة دوفيل» عامل أوّل حاسم في صناعة السخط الشعبي، وعنها يتوجب التفتيش أيضاً.
Social Links: