بنس في إسرائيل: ماذا أبقى الأنغليكاني الصهيوني لأحفاد أينشتين؟ – صبحي حديدي

بنس في إسرائيل: ماذا أبقى الأنغليكاني الصهيوني لأحفاد أينشتين؟ – صبحي حديدي

في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي كان مايك بنس، نائب الرئيس الأمريكي، قد بدأ بإسباغ شرف ذاتي على نفسه، إذْ يقف أمام «هذه الديمقراطية النابضة»؛ متعامياً عن واحدة من قبائح هذه «الديمقراطية»، جرت أمام سمعه وبصره: مسارعة عناصر الأمن الإسرائيليين إلى طرد النوّاب العرب، أعضاء اللائحة المشتركة»، ثالث تكتل نيابي في الكنيست؛ شرّ طردة كما يتوجب القول، بفظاظة وإغلاظ، وذلك لأنهم مارسوا الحقّ البسيط في التعبير السلمي، والصامت، عن رأي آخر مخالف يخصّ وضعية مدينة القدس. كانت بلاهة النظرة التي اكتسى بها وجه نائب الرئيس، لا تخفي مقدار الابتهاج لمرأى «الديمقراطية» الإسرائيلية وهي تكشر عن أنياب الضباع القاطعة.
شرف ثانٍ، «كبير»، هذه المرة، استذكره بنس وهو يتفاخر بأنه أوّل نائب رئيس أمريكي يوهب فرصة مخاطبة الكنيست، وأين؟ «هنا، في القدس، عاصمة دولة إسرائيل». ذلك لأنّ الفرصة الذهبية هذه لا تكتسب بعدها «التاريخي» التالي إلا إذا اقترنت بوضع القدس على منبر الخطابة؛ بوصفها الهدية الأثمن التي جاء بنس يحملها نيابة عن رئيسه، الذي «فعل لتقريب بلدينا العظيمين أكثر من أي رئيس طيلة 70 سنة مضت». بالطبع، سوف تتململ عظام رؤساء مثل هاري ترومان (الذي اعترف بالكيان الصهيوني)، ولندون جونسون (الذي زوّد إسرائيل بأسلحة ستراتيجية لم يحظَ بها أي بلد حليف للولايات المتحدة)، وريشارد نكسون (بطل الجسر الجوي الشهير، خلال حرب 1973)، ورونالد ريغان (صاحب «مذكرة التفاهم» حول الدفاع الستراتيجي)؛ ناهيك عن الأحياء، من جيمي كارتر وجورج بوش الأب، إلى بيل كلنتون وبوش الابن وباراك أوباما.
لعلّ من المفيد، هنا، أن يعود المرء إلى تعريفين اثنين، ضمن عشرات التعريفات التي وفّرتها أدبيات السخرية الأمريكية لمنصب نائب الرئيس. «الرجل الذي يشغل المهنة الأفضل في العالم هو نائب الرئيس. كلّ ما عليه القيام به هو الاستيقاظ في كلّ صباح، وتكرار القول: كيف حال الرئيس؟»، حسب الممثل الكوميدي الأمريكي وِلْ روجرز. جوني كارسون، المذيع والكوميدي الشهير، اعتبر أنّ «الديمقراطية تعني فرصة أيّ كان في أن ينضج ليصبح رئيساً، وتعني فرصة أيّ عاجز عن النضج في أن يصبح نائباً للرئيس». وأمّا إذا تهافت نائب الرئيس على موقع المؤرّخ والباحث في التوراة والأنغليكاني الصهيوني ورجل الدولة، في آن معاً، فإنّ حصيلة الطامة سوف تتجسد في شخص مايك بنس، خطيباً أمام الكنيست الإسرائيلي!
خذوا هذا الاقتباس من الخطبة العصماء: «في قصة اليهود، رأينا دائماً قصة أمريكا. إنها قصة الخروج، رحلة من الاضطهاد إلى الحرية، قصة تُظهر قوّة الإيمان والوعد بالأمل. إنّ أولى المستوطنين في بلدي رأوا أيضاً أنهم حجّاج، بعثت بهم العناية الإلهية، لبناء أرض الميعاد الجديدة. وأغاني شعب إسرائيل وقصصه كانت أناشيدهم، ولقنّوها بإيمان مخلص إلى أطفالهم، وهم يفعلون هذا حتى اليوم. وأجدادنا المؤسسون، كما قال الآخرون، التفتوا إلى حكمة التوراة العبرية من أجل الرشد، والتماس الهداية والإلهام». هل هذا قسّ أنغليكاني صهيوني، وهم كثر في الولايات المتحدة بالطبع، أم نائب رئيس القوة الكونية الأعظم؛ القادم وهو يلوّح بـ»صفقة القرن» في المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، بعد تسليم مفاتيح القدس إلى دولة الاحتلال والاستيطان والتمييز العنصري؟
كاتب خطبة بنس تناسى، عامداً بالتأكيد، أنّ تاريخ أمريكا التأسيسي لم يكن صهيونياً إلى هذه الدرجة المطلقة، بل حدث أنّ بعض فصوله احتوت نزعات عداء للسامية أين منها أنماط عصورنا الراهنة. كان بيتر ستايفسنت، القسّ الأشهر في التاريخ الأبكر لمدينة نيويورك عند تسميتها الأولى هذه، سنة 1664، يدعو إلى طرد اليهود من أمريكا، «أرض الله الصغيرة»، بوصفهم «الأعداء الأشدّ مدعاة للمقت، المجدّفين على يسوع والأناجيل». وأمّا في الاحقاب الحديثة، فلعلّ بنس تناسى تلك العريضة الشهيرة، التي وقعها ألبرت أينشتين وحنة أرندت وسدني هوك وسيمور ميلمان، ونُشرت في صحيفة «نيويورك تايمز» أواخر العام 1948، احتجاجاً على زيارة إلى أمريكا كان مناحيم بيغن ينوي القيام بها.
العريضة حذّرت يهود أمريكا من استقبال ودعم «بطل الصعود الفاشي»، الذي يبشر بخطّ إرهابي «يمزج الغلوّ القومي بالتصوّف الديني والتفوّق العرقي»؛ وهذه «علائم صريحة على ولادة حزب فاشي أداته الأولى هي إساءة التمثيل وممارسة الإرهاب ضدّ اليهود والعرب والبريطانيين على حدّ سواء، وغايته الكبرى هي دولة عليا فوق المجتمع». يومها كانت عصابات أرغون وشتيرن قد فجّرت ثقباً في جدار سجن عكا لإنقاذ 29 من «أخوة السلاح»، وتوفّر مسرحي أمريكي يهودي مثل بن هيكت لامتداح هذا «العمل البطولي»، فكتب: «يهود أمريكا تحت تصرفكم. أنتم أبطالهم ومثلهم الأعلى. كلما فجرتم ترسانة بريطانية أو هدمتم سجناً بريطانياً أو قذفتم بقطار بريطاني إلى أعالي السماء أو سطوتم على مصرف بريطاني أو أعملتم بنادقكم في أجساد البريطانيين الخونة، غزاة بلدكم الجبيب… كلما حدث ذلك أقام يهود أمريكا عيداً صغيراً في قرارة قلوبهم»!
ولعلّ بنس تجاهل، عامداً هنا أيضاً، ما لقيه أحد رجال الإدارة الأمريكية من عنت، رغم ديانته اليهودية؛ وذلك لأنه التزم ـ قليلاً فقط، في الواقع، وعلى استحياء ـ بالقانون الدولي حول وضعية مدينة القدس. ففي سنة 1995، حين استعدّت إسرائيل لتدشين الاحتفالات بالذكرى الألفية الثالثة لاختيار الملك داود القدس عاصمة لـ»الكومنولث اليهودي»، اعتذر السفير الأمريكي مارتن إنديك عن المشاركة؛ وقدّم ثلاث حجج بدل الواحدة، لتبرير غيابه: أنّ الحدث «ثقافي» في الجوهر وهو يعني الملحق الثقافي الأمريكي، الذي تواجد بقوّة وتعمّد لفت الأنظار إليه حتى بدا كالطاووس أو كأمّ العروس؛ وأنّ السفير كان، في الآن ذاته، يرعى وليمة شواء في تل أبيب بمناسبة يوم العمل (الإسرائيلي أيضاً)؛ وأنه، ثالثاً، كان مدعواً للمشاركة في افتتاح ملجأ محصّن في هرتزليا، لصالح أمن اسرائيل أيضاً وأيضاً.
النار التي فُتحت على إنديك لم تقتصر على إسرائيل، بل امتدّ لهيبها إلى الولايات المتحدة، وغمز الكثيرون من قناة هذا «اليهودي الصبي»، الضعيف أمام دنيس روس (وكأنّ هذا ليس يهودياً!)، والمؤتَمِر بتخريفات وارن كريستوفر وحثالة جيمس بيكر في وزارة الخارجية. رئيس تحرير أسبوعية «نيو ريببليك» كتب توبيخاً شديد اللهجة ضدّ إنديك، وذكّره بأنّ قرار التخلف عن الاحتفال هو «سخف في سخف»، وينمّ عن معاناة من عقدتين: أنّ إنديك سفير أمريكي يهودي في دولة يهودية تحتفل بحدث يهودي تاريخي عمره ثلاثة آلاف عام، وأنه سفير أمريكي من أصل أسترالي. ولقد انتقل رئيس التحرير من توبيخ الإدارة إلى توبيخ أمريكا بأسرها، فكتب: «ثمة سخف ومهزلة وراء انعدام الاكتراث الأمريكي بعيد يهودي ألفيّ، لا يمرّ كلّ يوم أو كلّ سنة أو كلّ قرن». ثمّ تساءل: «دلّونا بحقّ السماء على العلاقة بين احتفال ديني، وسيرورة السلام؟ الفلسطينيون يا سعادة السفير ليسوا اليبوسيين، ولم يكونوا في الديار حين ترك ابن يسّي عاصمته الخليل، ويمّم شطر الشمال نحو قلعة صهيون، وبنى عاصمته هناك».
وإذْ اقتبس بنس التوراة على نحو انتقائي، في مديح جنائن فردوس الديمقراطية الإسرائيلية، وتماثل المصائر بين أرض الميعاد هذه وأرض الميعاد الثانية التي بشّر به أسلاف أمريكا؛ فإنه لم يكن يردد أقوال سيده في البيت الأبيض، كما هو خليق بوظيفته، فحسب؛ بل كان يعزف أعذب الموسيقى في آذان الصهاينة وعتاة اليمين واليمين الديني المتشدد.
فما الذي أبقاه لأحفاد أينشتين وأرندت.

  • Social Links:

Leave a Reply