“حزب العمال الكردستاني” أسسه في تركيا، منتصف سبعينيات القرن الماضي، عددٌ من اليساريين الكرد والترك، وقد أثيرت حوله منذ تأسيسه الكثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام، لا سيما بعد دخوله في صراع مسلح مع بقية الأحزاب الكردية في تركيا، التي كانت مختلفة فيما بينها، حول طبيعة الأهداف وسُبل الوصول إليها.
في صيف عام 1979 توجّه عبد الله أوجلان مع زوجته كسيرة آلديرين التي كانت قيادية معه في الحزب، إلى سورية، حيث كانا بداية في ضيافة أحزاب كردية سورية. ثم تواصل مع “الاتحاد الوطني الكردستاني”؛ ولكن كان من الواضح منذ ذلك الحين أن علاقة حزب العمال مع كرد سورية والعراق، كانت نفعية، انتهازية؛ لأن هدفه الأساس كان بناء العلاقات مع النظامين: السوري والإيراني، وذلك منذ أوائل الثمانينات.
استخدم حافظ الأسد في ذلك الحين الحزبَ المعني لعدة مآرب، منها: إبعاد الكرد عن المعارضة السورية، وعن الحياة السياسية الداخلية في سورية، وتوجيه أنظارهم نحو الخارج، إلى جانب ذلك، كان يريد إزعاج تركيا بالملف الكردي، آملًا في تحصيل أوراق قوة ضغط تمكّنه من لعب دور إقليمي فاعل مقابل القوى الأخرى: مصر، السعودية، تركيا، العراق، “إسرائيل”. وقد استثمر في ظروف إيران بعد مجيء الخميني، وبنى علاقة استراتيجية مع النظام الجديد، وهي علاقة ما زالت تشكل أساس الحلف العضوي بين النظامين، في مرحلة الابن.
أما النظام الإيراني، فقد وجد في الحزب المعني ضالته للتشويش على كرده، وإثارة المشكلات لكرد العراق، والضغط على تركيا. ومن المفارقات الكبرى، أن نظام صدام حسين قد اتخذ هو الآخر حزب العمال أداةً ضد الكرد في إقليم كردستان.
الخاصية التي اشتهر بها هذا الحزب الماركسي الأيديولوجية أساسًا منذ البدايات، تتمثّل في براغماتيته العالية، وقدرته على إقامة العلاقات مع كل الجهات المتعارضة المتناقضة. فقد تحالف مع نظامَي البعث، في كل من سورية والعراق. وأقام علاقات وثيقة مع جميل الأسد (شقيق حافظ الأسد)، أيام “جمعية الإمام المرتضى” المذهبية التوجه؛ وتمكّن من بناء علاقات بنيوية مع نظام ولي الفقيه في إيران.
وكان كرد سورية باستمرار وقودًا لمشاريع هذا الحزب؛ إذ زج بأبنائهم وبناتهم في معارك مجهولة، وهمية في معظمها، كما استنزف طاقاتهم المادية الشحيحة أصلًا.
مع إقدام حافظ الأسد على إخراج عبد الله أوجلان، تحت وطأة الضغط التركي عام 1998؛ تنفّس الكرد في سورية الصعداء، إذ تخلصوا من كابوسٍ “بول بوتي” مخيف، تاجَر بقضيتهم من خلال شعارات إيهامية تضليلية، لا مضمون لها.
لكن مع بداية الثورة السورية في ربيع عام 2011، عاد النظام -بالتفاهم مع حلفائه- إلى ملفاته القديمة. وكان الرأي المتفق عليه هو استقدام كوادر “حزب العمال الكردستاني” ثانية من جبال قنديل، ودعمهم عسكريًا؛ ليتمكنوا من ضبط المناطق الكردية، والحيلولة دون خروجها عن نطاق سيطرة النظام، لا سيما بعد التظاهرات العارمة التي شملت مختلف المدن الكردية في الجزيرة وكوباني تأييدًا للثورة السورية، وطالبت برحيل النظام، حتى إن مدينة عامودا كانت السبّاقة على مستوى سورية، في إسقاط تمثال حافظ الأسد في بداية الثورة، وكانت قد أسقطته قبل ذلك في عام 2004، أيام انتفاضة الكرد في 12 آذار/ مارس.
أما في منطقة عفرين، فقد تمكّن الحزب المذكور من الهيمنة الشاملة، عبر قواعده، وبالتعاون مع بعض الأحزاب الكردية في المنطقة، وذلك بعد أن تخلّص من المعارضين لسلطته من المعارضين الشباب المؤيدين للثورة السورية، ومن قواعد الأحزاب الكردية الأخرى، وقد تعرّض العديد من هؤلاء للاعتقال والتعذيب، وحتى الاغتيال، وذلك بهدف إسكات الصوت المعارض نهائيًا.
مع تطور الأوضاع في سورية في مرحلة العسكرة، وبعد ظهور (داعش)؛ رفع هذا الحزب شعار مواجهة الإرهاب بالتناغم والتكامل مع استراتيجية النظام التي سعت من أجل الربط بين الثورة والإرهاب من ناحية، وإظهار النظام في صورة النظام العلماني، حاميًا للأقليات من ناحية ثانية.
مع تعقد الأوضاع، وتداخل جهود اللاعبين الدوليين، خاصة روسيا وأميركا، باتت قوات الحزب المعني تحت الطلب بفعل قدراته التنظيمية، واستعداده السريع للتلوّن باللون المناسب حسب الطلب، ونقل البندقية من كتف إلى كتف. وبدأ التنافس بين الروس والأميركيين في ميدان احتواء هذا الحزب، لاستخدام قواته في خططهم الخاصة بسورية، وشن المعارك الأرضية من دون التضحية بجنودهم. غير أن كل ذلك لم يغيّر من طبيعة ووظيفة الحزب المعني، بل ظلّ بالنسبة إلى داعميه مجرد أداة لا أكثر، كما كان كذلك بالنسبة إلى النظام في بدايات الثورة.
ويبقى موضوع العملية التركية في عفرين الموضوع الحيوي المتفاعل على مختلف المستويات هذه الأيام، ومن الواضح أن هذه العملية تدخل في جانب كبير منها ضمن إطار استكمال عملية توزيع مناطق النفوذ بين القوى الدولية والإقليمية. فبعد التوافق المجهول التفاصيل بين الروس والأمريكيين، حول المناطق الواقعة إلى الشرق من نهر الفرات وغربه؛ وجدت تركيا نفسها خارج المشهد السوري، رغم كل ما تحمّلته من جهة استقبالها لملايين اللاجئين، واستثمارها في العديد من الفصائل العسكرية. هذا إلى جانب حساباتها الداخلية والإقليمية، لذلك سعت بإصرار من أجل الحصول على منطقة نفوذ في القسم الشمالي الغربي من سورية، وبالتوافق مع الروس، وبالتفاهم مع الأميركان في نهاية المطاف، رغم كل الشد والجذب العتب.
أما التذرع بالمشروع “الكردي الانفصال التوسعي الذي يسعى من أجل ربط المناطق الكردية بالبحر الأبيض”، فهو زعمٌ يفتقر إلى المعطيات الموضوعية، إذ لا توجد قوة كردية سورية تمتلك القدرة أو التوجه السياسي، لأمر كهذا. هذا في حين أن “حزب الاتحاد الديمقراطي” يعمل وفق تفاهمات مع رعاته القدامى والجدد، وليس لديه أي مشروع كردي في سورية، بل يدعو إلى الأمة الديمقراطية الهلامية التي لا تحديد ولا هوية لها. وبالتالي؛ فإن موضوع عفرين لا يشكل أي خطورة على تركيا أو غيرها. هذا في حين أن تسلّط الحزب المعني على المنطقة قد ألحق أفدح الخسائر بالكرد قبل غيرهم.
ولكن المشكلة أن هذا الحزب قد تمكّن من التغلغل ضمن الوسط الكردي، بفعل الدعم الذي تلقاه من مختلف الجهات الإقليمية والدولية، وبات سلطة الأمر الواقع في عفرين وغيرها من المناطق (كوباني، الجزيرة). ويمكننا في هذا المجال عقد مقارنة بين طبيعة وجوده في سورية من مختلف الجوانب، وبين وجود “منظمة التحرير الفلسطينية” في لبنان، في سبعينيات القرن المنصرم. هذا مع فوارق كبيرة من جهة الأهداف والدور والعلاقة مع الشعب.
بناء على ذلك، نرى أن اللجوء إلى الخيار العسكري من جانب تركيا ضد وجود الحزب المعني في منطقة عفرين، وفي ظل تداخل أدوار الفاعلين الإقليميين والدوليين لن يكون الحل المناسب، بل سيزيد الوضع تعقيدًا، وربما سيؤدي في نهاية المطاف إلى عودة النظام ومعه إيران إلى المنطقة. كما أن مشاركة بعض الفصائل العسكرية السورية في العمليات تحت إمرة الجيش التركي، ستحدث شروخًا عميقة في النسيج الوطني السوري، هذا النسيج الذي بات هشًا، بعد سبعة أعوام من الحرب المفتوحة التي أعلنها النظام وحلفاؤه على الشعب السوري، ونتيجة الجهود المبرمجة المنظمة لفك الارتباط الوطني بين العلويين والسنة من جهة، والعرب والكرد من جهة ثانية.
كان من المفروض أن تقوم مؤسسات المعارضة السورية، ولا سيّما الائتلاف، بطرح مبادرة واقعية، ممكنة التطبيق، على أمل موافقة الأطراف المعنية عليها، لمعالجة الموقف، قبل أن نصل إلى هذه النقطة. ولكنها لم تتخذ الموقف المطلوب، بل أبدت تأييدها المفتوح لما يحصل وسط استغراب واستهجان السوريين، والكرد منهم على وجه التحديد.
إذا كنا نريد سورية موحدة؛ فلا بد أن نحرص على جميع مناطقها ومكوّناتها؛ ونعمل على تبديد الهواجس، ونقطع مع لغة التجييش المذهبية والقومية. وقد سبق لنا أن قلنا، وسنقول دائمًا: سورية لا تتحمّل التعصّب الديني أو القومي أو الأيديولوجي. لذا نحن ملزمون بالبحث عن القواسم المشتركة، ضمن إطار مشروع وطني سوري، يكون بالجميع وللجميع.
أما العلاقة مع تركيا، فستظل علاقة استراتيجية؛ فهي الجارة التي تربطنا بها حدود برية طويلة، كما أن التداخل السكاني، والتشارك في الثقافة والتاريخ والمصالح المشتركة، كلها عوامل تشكل أساسًا لبناء علاقة استراتيجية تكون في صالح البلدين، وفي صالح تعزيز الأمن والاستقرار والتنمية في المنطقة بأسرها. ولكن تركيا من جانبها لا بد أن تفكر وتعمل بجدية، من أجل حلّ عادل للقضية الكردية لديها، وهي القضية التي طالما لاذ بها حزب العمال لتسويغ ممارساته، هذا في حين أنها في حقيقية الأمر قضية تخص أكثر من عشرين مليون إنسان من مواطني تركيا. أما الإصرار على الحل الأمني، فهو أمر سيستنزف الإمكانات، ويمنع الاستقرار الداخلي، ويضعف الدور التركي على المستويين: الإقليمي والدولي.
بناء على ذلك؛ نرى ضرورة التحرّك الفاعل لمعالجة موضوع عفرين، بأسرع ما يمكن، عبر إيجاد مخرج مناسب، وإيقاف الحملة العسكرية التركية. وكلما سقط المزيد من الضحايا من الجانبين، سواء من المدنيين أم العسكريين؛ كانت الخسارة أكبر، والتشنج أشد، والمعالجة أصعب.
Social Links: