(فاتورة الحرب: التبعات الاقتصادية والاجتماعية للصراع في سورية) هو عنوان أول دراسة تتصف بالشمول والتفصيل، تقوم بها مؤسسة البنك الدولي، والمهتمة رقم واحد بملفات إعادة الإعمار. وإذا كان التقرير لا يمثل وجهة نظر رسمية للبنك الدولي، كما هو مُصرح في صفحات الغلاف؛ فهذا لا يقلل من أهميته، بخاصة عندما نرى حجم المشاركة في إعداد التقرير من داخل البنك ومن خارجه. ففريق الإعداد بلغ أكثر من 60 باحثًا وخبيرًا من داخل البنك، شملت كافة الاختصاصات ذات الصلة، إضافة إلى مساهمات ملموسة من منظمات دولية أخرى أهمها منظمة الأغذية والزراعة، منظمة الهجرة الدولية، برنامج الأغذية العالمي، منظمة (إسكوا) للتنمية الاقتصادية في غرب آسيا، وغيرها.
وقد نشرت (جيرون) في العام الماضي سلسلة من المقالات، أنجرها كاتب هذه المراجعة، تستعرض خلاصة دراسات وأبحاث قامت بها مؤسسات، منها البنك الدولي و(فاو) وصندوق النقد الدولي. لكن كل الدراسات السابقة -على أهميتها- تختلف كمًا ونوعًا عن هذا التقرير، إذ كانت لا تعدو عن كونها دراسات قطاعية، تركز على مسائل ضيقة من آثار الحرب، بينما يأتي هذا التقرير أكثر شمولًا بشكل لا يُقارن؛ إذ إنه غطى حجم الدمار وآثار الحرب، في كل القطاعات الاقتصادية.
ينبع جزء من الأهمية العلمية لهذا التقرير من الجهة التي أصدرته والطريقة التي أُعِدّ بها، فالتقرير صادر عن البنك الدولي، وهو أهمّ وأكبر جهة دولية مهتمة بإعادة الإعمار، وتستطيع بإمكاناتها الهائلة تجنيد أفضل الكفاءات. لقد اشترك في التقرير كوكبة من الباحثين والخبراء، غالبيتهم من البنك وبعضهم من مؤسسات دولية أخرى، اعتمدوا في إنجازه على منهجية متكاملة تأخذ بعين الفحص والتحليل كافة المعلومات المتوفرة ذات الصلة. إذن؛ نحن أمام عمل بحثي ضخم وليس مجرد تقرير وصفي، وهذا مؤشر على أن موضوع إعادة إعمار سورية قد أصبح في صلب اهتمام البنك والدول المانحة له.
تأتي هذه المراجعة في إطار سلسلة تهدف إلى تلخيص هذه التقارير وتقديمها للجمهور السوري من المعنيين بطريقة موجزةٍ ومبسطة، عبر استعراض أهم ما فيها من نتائج، وإلقاء الضوء على المغازي السياسية التي قد تهم المهتمين السوريين في الشأن السياسي عمومًا، وفي شقه الاقتصادي خصوصًا. ونظرًا إلى أهمية هذا التقرير، من حيث شمول التحليل وعمقه وكثرة التفاصيل المهمة، سنقدم خلاصة عنه تقع في ثلاث مقالات. سنتناول في الأولى –وهي المقالة التي بين يدينا- منهجية التقرير وأهم نتائجه، وفي الثانية سنتناول نتائج التقرير في ما يخص حجم الدمار الذي تسببت به الحرب، بينما سنخصص الجزء الثالث لنتائج التقرير في ما يخص الآثار البعيدة للحرب، وفق سيناريوهات مختلفة لنهايتها.
في منهجية التقرير
يظهر الشكل التالي تبسيطًا لمنهجية التقرير، حيث نلحظ أن عملية إنجازه كانت سيرورة معقدة، من جمع البيانات من مصادر مختلفة، وتحليلها بشكل قطاعي، قبل أن يتم دمجها عبر منهجية متكاملة.
التقرير النهائي: | التقرير النهائي للبحث الذي يحوي خلاصة النتائج | |||||
أوراق عمل | أوراق العمل الخلفية تعطي النتائج على مستوى القطاعات | |||||
منهجية التحليل المتكامل | إطار منهجية البحث وتحليل البيانات | |||||
تقارير حول القطاعات المختلفة | اقتصاد كلي | تجارة | بيئة | مياه وصرف | زراعة | فقر |
تعليم وصحة | حوكمة | مالية | نقل ومعلوماتية | طاقة | إدارة مخاطر وحماية | |
دراسات متقاطعة مع الموضوع | دراسات ديموغرافية | دراسات الحسابات القومية | دراسات تحليل الصراع | |||
مصادر البيانات | الاستشعار عن بعد | بيانات المنظمات الشريكة | بيانات متاحة للعموم |
كما هو ملاحظ، في الجدول السابق، أخذت الدراسة بالحسبان كافة قطاعات الاقتصاد. كما استندت إلى بيانات الاستشعار عن بعد، مع مقاطعة البيانات مع المعلومات المتوفر من وسائل الإعلام. وبناء على ذلك؛ ركزت الدراسة على عشر مدن وستة قطاعات تم اعتبارها الأكثر تأثرًا بالحرب السورية، وبني على ذلك استقراءات تمتد إلى 8 محافظات بالاعتماد على مقارنات لكثافة الصراع، ومستوى الأثر الذي تركه في الأصول المادية. وقد تم استكمال هذه المعلومات ببيانات تم جمعها من منظمات ومؤسسات أخرى، في ما يخص العوامل الديموغرافية والاقتصادية على مستوى القطاعات المختلفة، وهذا ما سمح بإنجاز تحليل متكامل يمكن اعتباره النقطة الأقوى في هذا التقرير. فقد تم استخدام نتائج الخسائر المادية والخسائر في الأرواح لبناء نموذج تحليلي متكامل، يستطيع محاكاة النتائج الاقتصادية التي يمكن ملاحظتها ورصدها، بما في ذلك تحولات الناتج الإجمالي المحلي والتغيرات الديموغرافية (داخل سورية وإلى خارجها).
أتاح هذا المنهج عدة مزايا. أولًا تم الفصل بين الأدوار المختلفة التي لعبتها كل من الخسائر المادية، الخسائر في الأرواح والتبعثر الاقتصادي في الكيفية التي تمظهر فيها الصراع. وهذا مهم لما له من أثر في تحديد أولويات العمل لاحقًا. ثانيًا: يساعد هذا المنهج في المقارنة بين نتائج سيناريوهات مختلفة، لا يمكن ملاحظتها من البيانات الفعلية، مثل دور الهجرة في التأثير على مجريات الصراع، ومدى تأثير الصراع على مجريات الاقتصاد بعد انتهاء الصراع.
أهم نتائج التقرير
تقيّم الدراسة العواقب الاقتصادية والاجتماعية للحرب حتى بداية العام 2017. حتى حينها وبحسب الدراسة تم تدمير 7 بالمئة من المساكن بشكل كلي، ولحق ضرر جزئي بـ 20 بالمئة أخرى، بينما قدر التقرير أن أعداد القتلى بلغ 400-470 ألف، وأعداد النازحين بأكثر من 10 ملايين. أما الأضرار الاقتصادية، بما فيها الخسائر التراكمية، فتُقدر قيمتها بحسب التقرير بـ 226 مليار دولار، وهذا يعادل أربعة أضعاف النتاج الإجمالي المحلي السوري في سنة 2010. كان تبعثر النشاط الاقتصادي السبب الأساس لهذه الخسائر، حيث تجاوز تأثيره الأثر المترتب على الدمار المادي المتمثل في تدمير وسائل الإنتاج بـ 20 مرة. حيث تسببت الحرب بتعطيل وبعثرة النشاط الاقتصادي؛ ما أدى إلى خفض الحوافز الاقتصادية للاستثمار، وهروب رؤوس الأموال، وتحطيم عمليات التواصل الاقتصادي والشبكات الاجتماعية والاقتصادية وسلاسل التوريد والتسويق. وهذا يُشير إلى أن تدمير وسائل الإنتاج فقط (والذي ممكن أن يحدث أيضًا بسبب كوارث طبيعية) تكون له آثار محدودة على الاستثمارات، إن كان الاقتصاد يعمل بشكل طبيعي. أما تدمير “التنظيم الاقتصادي”، بحيث يؤدي إلى بعثرة الاقتصاد، فإنه سيؤدي إلى خفض الاستثمارات وهروبها بشكل حاد؛ فيكون لها آثار مستمرة تتضاعف مع مرور الوقت.
وتشير سيناريوهات المحاكاة إلى أن الحرب قد تسببت بفجوة كبيرة، بين الناتج الإجمالي المحلي الحالي وما كان سيكون عليه، لو لم يكن هناك حرب. وإن توقفت الحرب الآن (في نهاية 2017)؛ فإن الاقتصاد السوري سيسترجع 40 بالمئة فقط من هذه الفجوة، خلال أربعة سنوات. أما إن استمر الصراع؛ فهذا قد يؤدي إلى تضاعف الخسائر، وبالتالي ستتسع الفجوة ولن يستطيع بذلك الاقتصاد استرجاع أكثر من 28 بالمئة من الفجوة، في السنوات الأربعة التالية لوقف الحرب، إن توقفت في سنتها العاشرة (أي في 2021). طبعًا استمرار الحرب سيؤدي إلى استمرار عمليات النزوح والهجرة خارج البلاد، مع ما يتسبب به ذلك من استنزاف رأس المال البشري للبلاد.
خاتمة
لا بد من الإشارة إلى أهمية المنهجية المتبعة في الدراسة، من حيث إنها تتيح القيام بعملية فرز مهم للأولويات في أي عملية إعادة إعمار للبلاد في المستقبل. فالدرس الأساس هو أن الفصل المنهجي، بين آثار التدمير المباشر وآثار التبعثر الاقتصادي، يشير إلى أن الجهود يجب أن تتوجه بشكل كبير إلى عملية بناء مؤسسات وشبكات اقتصادية ذات صدقية وفعالية، بالتساوق مع جذب الاستثمارات، إذ إن الأضرار والخسائر التي تسبب بها بعثرة الاقتصاد فاقت بأضعاف تلك التي تسببت بها الخسائر المادية المباشرة.
بالمقابل، يقر التقرير بأن نتائجه هذه لا تأخذ بالحسبان العديد من المضاعفات الأخرى، مثل تحديات الاقتصاد السياسي كالمظالم التي يحركها الصراع. إن أخذ هذه العوامل يعني أنه كلما طال أمد الصراع؛ زادت المظالم، وتعمقت الانقسامات في المجتمع السوري؛ ما يزيد من صعوبات بناء المؤسسات القوية الضرورية لعملية إعادة البناء بشكل فعال.
سنتابع استعراض نتائج التقرير على مستوى حجم الدمار والآثار الاقتصادية والاجتماعية المترتبة عنه، في مقالة ثانية، لتليها مقالة ثالثة تناقش بشيء من التفصيل سيناريوهات المستقبل.
Social Links: