تعاني الأحزاب السياسية التي تركت بصمتها على النصف الأخير من تاريخ العالم، حالةَ تراجع كبير، فيما تتقدم أحزاب جديدة في ساحة السياسة؛ حيث تمكنت أحزاب، تأسست قبل وقت قريب، من الوصول إلى السلطة، فيما فشلت أحزاب عريقة. ففي فرنسا تمكّن حزب “الجمهورية إلى الأمام” برئاسة إيمانويل ماكرون من الفوز في الانتخابات، بالرغم من أنه أُسس عام 2016، مقصيًا بذلك اليسار واليمين التقليديين، فيما وصل اليمين الإيطالي إلى السلطة مؤخرًا، مع نجاح آخر حققه اليمين في ألمانيا التي لم يدخل برلمانها منذ عقود عديدة؛ الأمر الذي يعني أننا أمام تحول عميق تشهده الأحزاب العريقة، لجهة تراجع وهجها وشعبيتها، وهذا يعود في طيف كبير منه إلى الفساد، وعدم القدرة على التجدد، وتشابه برامج اليمين واليسار في كثير من القضايا، في الوقت الذي تزداد فيه نسب البطالة ارتفاعًا، وتزداد مشاكل الداخل والخارج؛ ما يجعلنا أمام فشل محلي يتوازى مع فشل عالمي، إذ زادت نسبة التوترات والحروب في العالم في العقد الأخير كثيرًا، مخلفة ظواهر عالمية مثل الإرهاب والهجرة اللتين أضيفتا إلى مشاكل أخرى تهدد كوكب الأرض، مثل التلوث المناخي والاحتباس الحراري.
مما لا شك فيه أن أزمة الحزبية هذه، تحتاج إلى دراسة مستقلة ومستفيضة، لفهمها وفهم دوافعها التي لا يمكن قراءتها بعيدًا عن العولمة وتحولاتها، وسيادة نظام السوق أيضًا والحدود المفتوحة التي يجري التراجع عنها اليوم لصالح الانغلاق وفرض الرسوم الجمركية، كما نرى في تصريحات ترامب الأخيرة، علمًا أن صعود ترامب نفسه ووصوله إلى سدة السلطة، يُعدّ مؤشرًا بارزًا على مأزق الحزبية التقليدية التي حكمت أميركا منذ عقود طويلة، ويمكن اعتباره، على الرغم من أن ترامب ينتمي إلى الحزب الجمهوري الأميركي، انشقاقًا ضمن هذه الحزبية.
إذا حاولنا أن نقرأ الظاهرة نفسها عندنا في سورية؛ فسنلاحظ أن أغلب الأحزاب التي طبعت مرحلة ما بعد الاستعمار تحوّلت إلى مجرد ديكورات تصلح للمتاحف منذ زمن بعيد؛ إذ بعد حزبي الشعب والكتلة الوطنية الذين هيمنا على المشهد السوري، خلال مرحلة الانتداب الفرنسي وبعد الاستقلال والمرحلة الليبرالية القصيرة، جاءت الأحزاب الراديكالية ذات البعد الثوري، علمًا أنها ولدت ونمت في المرحلة الليبرالية، مثل حزب البعث والإخوان المسلمين والقومي السوري والشيوعي السوري، وعدد من الأحزاب التي تستمد أفكارها من المنبع نفسه. ومع سبعينيات القرن الماضي، أقصيت كل هذه الأحزاب لصالح الحزب الواحد، لتنشق الحزبية السياسية، بين منضو ضمن إطار السلطة ومعارض لها (الاتحاد الاشتراكي، المكتب السياسي..). ولكن هنا على ضفاف معارضة النظام، سنشهد ولادة أحزاب وحركات تجعل من مقارعتها النظام عنوانًا بارزًا لها، وخير من يمثل هذا التوجه هو حزب العمل الشيوعي، الذي توزع مناصروه بين السجون والتخفي.
خلال تاريخ سورية الحديث، تحولت أحزاب السلطة إلى “جبهة وطنية تقدمية”، لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، بما في ذلك الحزب القائد (البعث) الذي ابتلع لصالح المنظومة الأمنية، فيما حاولت الأحزاب المعارضة أن تصنع شيئًا، وسط حديقة الاستبداد المسورة بالعنف والإقصاء والتهميش، بدءًا من محاولتها الانضواء في التجمع الوطني الديمقراطي، إلى إعلان دمشق، ثم هيئة التنسيق والمجلس الوطني، فالائتلاف بعد الثورة، لتفشل كل هذه الكيانات في إحداث فرق يذكر؛ الأمر الذي يضعنا بمواجهة سؤال: لمَ لمْ تتمكن هذه الأحزاب من فعل شيء قبل الثورة؟ ولمَ لم تتمكن من الاستثمار في الثورة لتزيد رصيدها وشعبيتها ومواقعها؟ بل رأينا أنها واصلت انحدارها نحو القاع السياسي، وربما نحو الخروج من التاريخ السياسي السوري.
لا شك أن الاستبداد وبنيته العنيفة والشديدة لعبت دورًا بارزًا في مآل هذه الأحزاب، إلا أن هذا الأمر لا يفسر وحده مصيرَها هذا، ولا شك أن هناك أسبابًا أخرى، تتطلب البحث والتنقيب والقراءة النقدية العميقة، تبدأ من بنية هذه الأحزاب وتركيبتها وعلاقتها بالديمقراطية، ولا تنتهي عند تكلسها وعدم قدرتها على التحول والتغير مع تحولات العصر حولها.
غير أننا، عند المقارنة بين الحزبية السياسية على مستوى العالم، وما يجري في عالمنا العربي ومنه سورية، سنجد أن الحزبية التقليدية تُقصى عالميًا لصالح أحزاب جديدة، سواء أكانت يمينية أم يسارية أم وسط، أما عندنا فلم يولد هذا الجديد بعدُ، ولا يبدو أنه سيولد قريبًا، رغم إدراكنا أن ثمة أحزابًا وتيارات كثيرة أعلنت عن نفسها، بعد الربيع العربي، لكنها بقيت ضمن دوائر ضيقة ونخبوية، وما نتحدث عنه هو الأحزاب التي تتمكن من إيجاد جمهور عريض، وأن تتحول إلى رقم صعب في المعادلة السياسية الداخلية.
Social Links: