بدون مجاملات
سمير سعيفان
الفكر الديني والفكر الديمقراطي هما على طرفي نقيض، فكافة الأديان، سماوية وغير سماوية، قامت وتقوم على فكرة أن الحكم والحاكمية والقرار المطلق هي لإرادة عليا قاهرة مطلقة لا راد لقضائها، تعلو على الإنسان، وهي كلية القدرة تتحكم بمصير كل إنسان من قبل ومن بعد، وعلى الإنسان قبول قضائها برضى لينال بركتها وعطاءها، دنيا وآخرة. وتلك القوة العليا تتدخل في تفاصيل حياته الخاصة والمشتركة والعامة و في كل صغيرة وكبيرة. هنا لا حرية للإنسان، وإرادة الانسان هنا ليست العليا ولا مجال لديها للاحتجاج والمعارضة،
عادة ما يكون النص الديني موجزًا صغيرًا فيه الكثير من العموميات. ولكن يأتي دور المؤسسة الدينية لتشرح المقاصد السماوية وتفسرها، فتوسع النص الصغير آلاف المرات بإضافات من عندها، لتلبية احتياجات الحياة الواسعة والمتغيرة عبر الزمن، أي تصبح المادة الرئيسة في اي دين من صنع المؤسسة الدينية. وتنشأ هنا مدارس كثيرة، وتتحول المذاهب إلى ما يشبه أحزاب العصر الحديث.
في المقلب الآخر قيم العصر الحديث تقوم على أن إرادة الفرد حرة من كل قيد، وإرادته هي النافذة، وله ان ينظم دنياه وشؤون حياته كما يريد، وله حق الاعتراض والاستنكار والرفض وتشكيل جمعيات وأحزاب معارضة ويخوض المعارك الانتخابية لكسب الانتخابات ليكون هو صاحب القرار عبر حزبه او مرشحيه. وهنا تنشأ اتجاهات وتيارات فكرية وسياسية وأحزاب وجمعيات لكل منها معتقداتها.
ولكن أصحاب كلا الفكرين الديني والدنيوي موجودان على ذات الأرض وفي ذات المدينة والحي، وهم بالتالي محكومون بالعيش المشترك. عنا يجد التياران الرئيسان ذاتيهما أمام خياران:
– إما الاصطدام والاقتتال، حيث يربح هذا الطرف مرة وفي عقود تالية سيبرح الطرف الآخر.
– أو ان يتعايشا معًا وأن يبحثا عن سبل لتنظيم الحياة
ولكن هذا الجمع بين التيارين وتعايشهما يبدو مستحيلاً من النظرة الأولى، فلا يمكن جمع النار والبارود في قارورة واحدة.
في القرون الغابرة كانت إرادة المؤسسات الدينية تحكم وتتحكم. وفي أوروبا مثلًا، لم تستطع تحقيق التعايش بين الفكر الديني والفكر الوضعي الدنيوي إلا بإضعاف الكنيسة التي كانت تتحكم بتلابيب الفرد والجماعة والمجتمع. فمنذ عصر النهضة أجبرت الكنيسة على التراجع في أوروبا للإفساح أمام ولادة مولود جديد أي المجتمع الحديث الذي تكون الكلمة فيه للإنسان. ولم يمكن لأوروبا فعل ذلك بدون ان يجبروا المؤسسة الدينية على التراجع وتقليص سلطاتها وتعزيز سلطات المؤسسات الوضعية المدنية، وتغيير الكثير من أولويات الكنيسة وتعليمها التسامح وقبول الآخر. وفي النهاية بقيت الكنيسة ونشأت أحزاب مسيحية ولكنها تعمل وفق أنظمة وضعية حديثة وتكيفت مع وضعها الجديد.
الإسلام التركي تعلم هذا الدرس، وقد أجبره على التعلّم صلابة ليبيرالية ديكتاتورية أتاتورك وراديكاليته التي استمرت ثمانية عقود متواصلة، فاضطر الإسلام التركي الى أن يتقن اللعبة، لعبة النظام السياسي الحديث وصندوق الاقتراع كأساس لتداول السلطة، وأن يجتذب الناخبين عبر وصفة إسلامية ناعمة، ولكن الأهم عبر رهانه على نجاحات اقتصادية لاقتصاد تركي حديث يقوم على أسس اقتصاد السوق الحديث وليس على اقتصاد إسلامي مزعوم، فلا وجود لاقتصاد إسلامي، فهو ضحك على اللحى باسم الدين.
في مجتمعنا السوري مثلًا مازالت الأديان موجودة بقوة، وأتباعها كثر وقد تزايد التشدد الديني في سورية وغيرها وبخاصة عبر الصراع منذ 2011، وكان قد بدأ بالتزايد منذ ثمانينيات القرن العشرين تقريبًا. وكل تصور لدى أي طرف بالتمترس والإصرار على جلب الطرف الآخر لتبني معتقدات الطرف الأول هو وهم. وبالتالي فلا يمكن تجنب التوفيق وخلق نوع من التعايش بين أصحاب المرجعيات الدينية وأصحاب المرجعيات الدنيوية، وهي مهمة صعبة ولكن لا بد أن نجعلها ممكنة. ولا يمكن أن تكون ممكنة إلا بما يشبه تجربة أوروبا وتجربة تركيا وتجربة ماليزيا، أي نظام ديمقراطي وضعي مدني عصري حديث تداولي يضعه خبراء ويتوافق عليه المجتمع. ويمكن لخبراء من كلا الطرفين التحاور لاقتراح صيغ ديمقراطية يمكن ان يجد أصحاب الديانات تفسيرا لها يتوافق مع الأديان علمًا بأن . المرجعية الوضعية الدنيوية لا تتعارض مع الإيمان الديني واستمرار ممارسة الطقوس وأمامنا تجارب أوروبا وتركيا وغيرها.
قبل سنوات ثلاث بدأنا مثل هذا المشروع ولم نكمل به. ويبقى موضوع يحتاج لعمل ومناقشات طويلة ومضنية بالتأكيد. فهو حوار على خلفية منافسة بل صراع، ولكن يحكمه المصلحة المشتركة والعقل، إن كان قد بقي لدى السوريين بقية من عقل.
Social Links: